ادب وفن

بين هانريش هاينه وكارل ماركس " ! / عطا عباس

في مجرى البحث للخلاص من الصورة النمطية لـ "كارل ماركس" كسياسي متجهم ، والتي رسختها مدارس يمين ويسار بائسة طوال عقود ، وفي محاولة للعودة المعرفية الى جدله الفلسفي الكبير وحلمه الإنساني ، وجدت أن أغلب مصادر تكوينه تحوم حول شعراء وكتّاب ورحّالة وباحثي علوم وموسيقيين ومؤرخين "وحتى كهنة"! ناهيك عن مصادر اخرى لفلاسفة وثوريين وفاتحين وطغاة شجب فعلهم المشين بلا هوادة!
كان في قائمة ماركس المحببة أسماء من قبيل "غوته" و"شيللر" و"بلزاك" و"هيجو" و"ديكنز" و"شكسبير" الذي فتن به مسرحيا كـ "خالق عوالم فذة من الخير والشر!"، و"سرفانتس" و"دارون" و"هانريش هاينه" وآخرين ، ناهيك عن "اسخيليوس" ومعاصريه الأفذاذ...
لكن مواطنه الشاعر "هانريش هاينه" كان المحبب لديه الى حد كبير.
هو مثله ألماني وقد عاشا زمنا مشتركا ، شأن منفاهما الطويل اللاحق وموتهما الفاجع خارج وطنهما ألمانيا!
هانريش هاينه "دوسيلدورف 1797 - باريس 1856" أنهيت كتابه للتو:"ريسبيلدر - رحلات هاينه في أوربا" وبترجمة أنيقة للأديب الشيوعي السوري الكبير الراحل عبد المعين الملوحي...
"هاينة" واحد من أهم الشعراء الرومانسيين في أوربا أبان تحولها السياسي والاجتماعي والاقتصادي التام ، وهيمنتها المطلقة عالميا .
وهو ناقد وصحفي ورحالة عجيب أيضا ...
ومثلما سحرت قصائده موسيقيا يوهان برامز وشومان وشوبرت ، وجد نتاجه كاملا الطريق الى عقل ماركس وقلبه!
وعلى ما يبدو ، وفّرت صلة المنفى في باريس بين الاثنين ألفة واحتراما متبادلين كبيرين.
في الكتاب يأخذنا "هاينه" الى رحلة أوربية نادرة، وعبر أرضها وناسها، سنتلمس تلك العواطف الخبيئة والأحلام المؤجلة بعد ان "سقطت الأفكار والعقول في سبات اليأس" اثر اندحار قيم الثورات التي غطت أوربا طوال أكثر من قرن .
هو يتكلم عما يسميه "نهب امتيازات الولادة" وما يماثلها في فترات الانحطاط تلك:
" كلمة الارستقراطية الآن لا أفهمها كما يجب ، هي لنبلاء بالولادة ولجدد يعيشون أيضا على حساب شعوبهم مهما كانت أسماؤهم!".
هو يكتب عن مدن وقرى المانيا وفرنسا وانكلتر وقياصرة روسيا، كما يكتب عن الهند المعذبة عبر لوحة أثارت شجنه الإنساني:"مع سلطان وسلطانة دلهي"!
هو يكتب عن الجنود ومعاركهم الخاسرة ومسيرتهم التي لم يستطع "طبل نصف مستهلك" ضبط إيقاعها:
"عند منتصف الليل هبت العظام ،
كل هؤلاء الموتى عادوا الى صفوفهم
الطبل يقرع في مقدمتهم:
ترن ترن تران... ترن ترن تران
وعبروا بيت الصبية الجميلة " ...
لكن هاينه ليس متشائما رغم ما دفعه من ثمن باهض: غربة وجوع وتشرد وموت مبكرفي باريس، بعيدا عن "القبر المرتجى على ضفاف الراين الجميل":
"ان مدافع ثورة تموز 1793 التي أيقظتني قبل قرن من الزمن ستواصل قرعها ، لا هدما ، بل بناء، وسنستعيد أيضا كل ما تركه الماضي من طيب وجميل"، وكأن ذاك وصيته لصديقه الأثير كارل ماركس ...
قراءة طيبة للجميع ...