ادب وفن

مغامرة الأرق في صناعة المغامرة / حميد حسن جعفر

ما أن تقرأ قصيدة ما.. حتى تتوقف , لتستوعب , لتتأمل، لتسترجع، لتعود ثانية الى قراءة أخرى/ ثالثة. من أين تجيء القصيدة تلك بهذا الاستحواذ على القارئ ؟ يبدو ان قراءة كهذه لا تشبه سوى حالة من المراهنات/ المقامرة. قد لا يكون القارئ خاسراً كما لاعب سباقات الخيول "الريسز" الاّ انه سيكون باحثاً عما وراء السباق/ القراءة من خاسرين. لذلك تتكرر القراءة للتعويض عن قراءة لم يستطع القارئ عبرها أن يزدرد طعم السنارة/ القصيدة.
من العلاقات البائنة في كتابات مقداد مسعود الشعرية هي تمتعها بالقدرة على الغاء قناعات الشاعر الشخصية بمنجزه الذي سيق على أمل ان يجيء بمنجز لاحق مختلف/ المغايرة عنوان اساسي للفعل الشعري الذي يقترحه لنفسه وللقارئ.
ربما يكون البصريون : جابر خليفة جابر ولؤي حمزة عباس ومحمد خضير كنموذج – أول من اقترح عراقياً عنوان – كتاب قصصي. ولذلك فليس من الغرابة, ومن غير أن يعلن مقداد مسعود عن ذلك نراه يعمل على صناعة كتاب شعري معتمداً ومتقصدا كتابة مجموعة افعال شعرية/ قصائد ونصوص تنتمي الى فضاء موضوع او عنوان او بؤرة/ حراك واحد. قصائد تتمحور حول شكل شعري واحد. وحول رؤية شعرية واحدة. هذا ما يمكن ان يعثر عليه القارئ المتابع لكتابات الشاعر حيث تتعدد التجارب الشكلية. وتتعدد الاشتغالات المعتمد على ثيمة/ موضوع حياتي يتميز بوحدته وقدرته على التشظي. ومن ثم التجمع/ التوحد ثانية
تجارب كهذه لا تشكل الاّ من اتساع رؤية الشاعر للحياة. حيث يتمكن الفعل التخيلي من الوصول الى المناطق المحصنة بالممنوعات.
مقداد مسعود يعمل على صناعة المختلف سواء كان المتلقي مقتنعاً او غير مقتنع بالمنجز الشكلي. معتمداً – أي الشاعر - على ان الاختلاف لابد من وجود جنات له. لا اختلاف من غير اوليات. وما يقوم به الشاعر من اختلاف غير مرئي او غير مرضي عنه ما هو الا الشرارة التي سوف تعبث بالجاف من العشبة. كذلك – الشاعر – لا يتوانى في صناعة ما يسمى/ او ينتمي الى المغامرة.
الاختلاف او المغامرة لا يمكن ان يوفرا قراءة واضحة وسهلة للقارئ الاعتيادي . والقارئ هذا هنا كائن ينتمي الى التراث الى القصيدة العمودية حيث المنبر. حيث الاعتماد على توفير الأغراض الشعرية التي اتفق عليها طيلة اكثر من خمسة عشر قرنا. القصيدة العمودية كثيرا ما تتشبّه بالوجبات السريعة او التقليدية التي تعتمد على نوع غذائي واحد , القصيدة العمودية لا تخرج عن الهدف العسكري في لحظة الرمي من اجل تحقيق الإصابة حيث يكون الهدف امام عيني الجندي. بعد ان يستغني عن الأخرى. هذا الهدف الذي ليس بحاجة الى البحث عنه من قبل الرمي. هناك اتفاق حتمي ما بين الجندي/ الرامي والهدف المرمي.
في قصيدة – مقداد مسعود - لا هدف محدداً. بل هناك حشد من الأهداف المتحركة لا غرض بذاته حيث يكون النص بكافة تفاصيله مجموعة اهداف وعلى القارئ ان يبحث عن النقطة الأكثر التصاقاً بالنص للوصول اليه.
كل من القارئ الكلاسيكي والقصيدة الحديثة من الممكن أن يكونا على طرفي نقيض، القارئ يستجيب لحيثيات القراءة المعاصرة بسبب وجود نقص معرفي واستعداد نفسي، والقصيدة مستعدة لأن تمنح جسدها لقاري عنين لا يفهم من جسد الأنثى سوى جهاز لإنتاج النسل/ فعل غريزي الشاعر كائن استفزازي – ليس القصيدة وحدها منظومة تعتمد التناقضات بل الشاعر كذلك فهو المنتج الأول والأخير للقصيدة في نسختها الأولى ذاتها ولا تمتلك من قدرات على تدمير القناعات السالفة.
الشاعر كائن استفزازي ليس فقط اثناء وعبر كتابة النص الشعري/ القصائد لا تشكل العنوانات عتبة الكتاب ’ وعتبات النصوص وعنوانات المحاور القصائد التي يربو عددها على المائة عنوان. في الكثير من هذه النصوص يتحول العنوان الى جزء من النص أي على القارئ ان يكون منتبها لما يقوم به من قراءة ان يختبر العنوان ان يختبر الصورة التي تتشكل من خلال وجود العنوانات وليس انبهارا بالتقسيمات/ المحاور وصولا الى ما يطلق على الفهرست من صيحة "لائحة العنونة " ومن ثم المحتويات غير متخذين عنوان "شعر" في الصفحة الأولى من الغلاف عندما يتحول الأرق القلق وعدم الاستجابة للنوم/ السلطان النعاس. حيث يتحول النوم الى كائن استهلاكي لا دوام له الاّ من خلال التخلص منه، عبر الأرق/ عدم النوم.
هل كان أرق الشاعر هو القراءة التي تشكل معلماً ينتمي الى المعرفة والتمدن حيث يشكل فعل الإجراءات علامة من علامات النوم/ الخمول/ السبات الحيواني , حيث الركود والتكرار. هنا يتحول الأرق الى قلق بشأن تشكيلات الحياة وليس الى استراحة النوم. الى مثل تدميري للقناعات بالمتوفر. قد يعثر القارئ الذكي/ الفاعل على أكثر من تخريج للأرق والنوم والاستراحات كل ما يمتلك من معارف وكل ما يمتلك من تخيل يتيح له الذهاب بعيداً. لا في تفسير القصيدة بل في صناعة ما يوازي النص من المعارف.
قد يعتبر القارئ المتابع لـ "استراحة النوم " ان جذوراً قد سبق له العثور عليها في كتابات سابقة للشاعر. وقد تكون فيما سبق اوليات لما لحق ورغم هذا فالغاية هنا على الرغم من أن جذورها هناك الغاية التي تحاول وكذلك الشاعر.
ان تشكل تجربة جديدة/ مختلفة. تجربة تمنح القارئ بعض جوانبها التخيلية عند القراءة الأولى ولكن قد يطلع هذا القارئ من الغابة من غير ان يعثر على اغصان جافة او ثمار متعفنة او جثث عصافير. اذا عليه أن يشكل حالة اختراق. فالقصيدة/ الشجرة لا تكفي لتشكيل عتمة الغابة وما تضم من خلق وخوف أو فزع أو مفاجئات. الغابة لا تنتج النزهة فحسب لربما تنتج التيه والضياع والوقوع في فخ ما, أو الإحساس بضآلة ما يمتلك القارئ من قدرات. قوة القارئ بما يمتلك من كشافات معرفية. من قدرات على مقاومة مفروزات الوحدة او العزلة ومن عدم الخوف من السير على حبل مشدود بين شجرتين.
امام الشاعر أكثر من – مائة – من العنوانات. لماذا كان اختياره لهذا العنوان/ القصيدة. علماً ان معظم العنوانات تعتمد التضاد/ الاختلاف وانتاج الرسائل. الى ما ينتمي الى الدال والمدلول حسب رؤية ومخيال الشاعر وقدرة القارئ على مسايرة او عدم مسايرة الشاعر. القارئ الكلاسيكي لم يتعود وجود العنوان. سواء على مطبوع سفر كلاسيكي. جاهلي اسلامي أموي – عباسي وحتى معاصر. بل وحتى القصائد كثيراً ما يكون اسم الشاعر هو المدخل والشخص صاحب الغرض مدخلاً.
العنوان فعل معاصر. انتجته المعرفة الحديثة. علماً أن السرد القديم "الف ليلة وليلة/ كليلة ودمنة/ سيرة بني هلال/ المقامات، كانت عناوين تمثل مداخل للحكي الاّ ان الشعر لم يستطع ان يستوعب مداخل كهذه ، على اساس انه أكبر من اشارات كهذه , ليجد نفسه قد اجترأ تحت سلطة صناعة العنوان.
فالسفر الكلاسيكي كانت عنواناته تسمى الـ "المعلقات/ ديوان عنترة/ ابو نؤاس/ ديوان الجواهري/ الرصافي" غير ميال لإنتاج مداخل/ اشارات التي لم يكن بحاجة اليها من جهة – هكذا هو التصور – او الى دفع القارئ الى اشتغالات تقف خارج غرض القصيدة أو أغراض الديوان.
يعثر القارئ على القصيدة/ العنوان، حيث يتحول النوم الى فعل مناف للمتفق عليه الى حالة من حالات انتاج العتمة/ الليل، حيث تنعدم الرؤيا وتتحقق عزلة الإنسان عن الزمان والمكان مؤقتا. النوم كائن يتلبسنا حين نشعر بالكسل , فلا سبيل للخلاص منه سوى الأرق. هنا تتغير وظائف كل من النوم وما يقابله ويعاكسه ليس الصحو دائما الأرق/ قلق الصحو في هذه القصائد/ النصوص الشعرية/ النثرية تتصاعد اهتمامات الشـــــــاعر باليومي والمتداول الدائم الحضور من الأفعال والحوادث , حتى تتحول اللحظة الحياتية الى افعال متكررة تقترب من الاجترار ويتحول الإنسان/ القارئ الى كائن لا يرى ولا يسمع يتحول الى منظومة آلية تستهلك وتنتج وتفرز كأي مجموعة تمثلات او ادوات صامتة لا تساؤل لارفض قبول كلامي وفق قناعات تنتمي الى قوانين النسق هنا تبرز مهمة الشاعر في خلخلة هذه المنظومة في الغاء الياتها وتحويل الميكانيكي الى انساني قادر على استبطان الحدث والوصول الى العلل والمسببات من اجل تغيير خارطة الفعل الحياتي من الخامل الى الفاعل.
ان ما يلفت انتباه الشاعر الإحالة, الإشارة, الإيحاءات هذه المنبهات التي لا تستلمها اجهزة استقبال القارئ "أريال القارئ" هي التي تشكل الكثير من حرائق القصيدة هي التي توجب على القارئ البحث والتحري عنها. عن أولياتها وعما تفرز وعما من الممكن أن يستقبل القارئ. ان استقبالات القارئ المتقدمة لا يمكن أن تبرر ضعف القارئ من صناعة قرارات متواصلة مع الكتابة.
قد تسبب القصائد هنا في "الأرق استراحة النوم" بكميتها ونوعيتها وضمن هذا العدد من الكتابات قد تسبب شيئاً من الاتباع والملل او الاستقبال السهل الشاعر غير منتج لما ينتمي الى الفنتازيات الكبيرة. تلك التي تحول القارئ الى جهاز عاطل عن التفريق "فلكل نص قراءة لكل نص عتبة ومدخل وبنية ومجموعة اشارات" هذه المنظومات بحاجة الى قراءة/ هضم. استقبال يعتمد العقل المتخيل. يعتمد محاولة عصر العبارة أو الرمز أو الصورة اللاواقعية من أجل الابتعاد عن الهضم الذي يوفر فهماً ناقصاً وتخيلاً قاصراً للفعل الشعري المتمثل بالنص الشعري الذي يكتبه مقداد مسعود.
وكما يكون الأرق استفزازاً للنوم. رغم ما يسميه الشاعر – استراحة – على القارئ أن يكون كذلك باحثاً عن الكلام الذي يملأ الفراغ أو الفراغات والفجوات التي يتركها الشاعر بين وحدات الكتابة، أمام القراءة .
القارئ في معظم الكتابات "ولا استثني – كتابات – مقداد مسعود من ذلك" القارئ هذا كائن لقى. مواد ضائعة/ منغلقة. أفعال منسية/ مخفية بقوة سابقة/ مضمومات يوحي بها الشاعر أو شخصية النص. ويؤشر وعلى القارئ ان يجمع الأدلة. الخطوط الممحوة المقترحة/ غير الموجودة على الواقع ليتمكن من اقامة قراءة قصيدة اخرى تعتمد على الكتابة الأولى لشاعر وتختلف معها.
الشاعر محترف لجمع التحفيات/ الأنتيكات, هنا تبرز مهمة القارئ ودوره في منح تلك الأثريات قيمتها من خلال الأقوام التي أنتجتها. على القارئ هنا أن يزيل الغبار ويفرك المعدن ليلغي الصدأ. ويعيد مفردات القصيدة الى بؤرها. حيث تبدأ بالظهور والتوهج ثانية. حيث تتم عملية تجميع الزجاج المنكسر/ الشظايا الفخارية/ الألواح الطينية. الكتابات المعادن. هنا تتحول القراءة الى ما ينتمي الى المختبر, والقارئ الى خبير بالتحميض والتقييم والتقدير.
هل القراءة ماسحة زجاج ؟ تكشف عما خلف الزجاج البارد الساكن المترب المغبر من حرائق وكائنات وصفاء.. وعالم مليء بالتناقضات. ما خلف الزجاج لا يظهر من خلال بكل تناقضاته من خلال حركة اولية للمسخة/ للقراءة. الواحدة قد يتطلب الأمر التدخل من قبل شخص ما من أجل زيادة الوضوح. من خلال قطرات ما. من خلال تحسين اداء المجسمة من خلال التحديق من خلال امتلاك رؤية تعبيرية تخيلية جيدة. اذا هناك حياة مخفية تقوم خلف جسم صقيل قاس ولكن فقد لمعانه ودعوته للقراءة من خلال مواقع تمنع الرؤية.