ادب وفن

"النبيذة".. زعتر بزيت الزيتون/ دائرية المسرود / مقداد مسعود

الروائية إنعام كجه جي، تنضّد لحظتنا العراقية ومن خلالها اللحظتين الفلسطينية والفنزولية في أوانٍ من خوص نخلاتنا، فيتخلص التاريخ من جهامته وتنفخ فيه من روح دعابتنا الشعبية العراقية ومن هذه الروح تصوغ الروائية كرنفالا وتهبه لنا وهنا يتحول فعل قراءتي للرواية من متلق ٍ إلى مشارك أحيا في فضاء الرواية متماوجا على ركمجة سردية..
(*)
الشخصية الرئيسة في "النبيذة" تجعلني متماهيا في الشخصية الرئيسة في "طشاري" من بعض النواحي.
الشخصية الرئيسة، شخصية تتصل/ تتواصل مع الحياة كرنفاليا، وإذا كان الفعل الكرنفالي، يشترط التتويج الهزلي لملك المهرجان، ومن ثم خلعه/ فإن "تاج الملوك" وهي المرأة/ المحور في الرواية ربما تجسد حياتها الكرنفالية ذلك الشرط المثنوي: تتويج/ خلع. تحاول قراءتي إمساك ذلك من خلال فحصنا الدرس التفاعلي الذي يبثه الاسم على المسماة تاج الملوك. وبشهادة وديان وهي الشخصية التمامة للشخصية المحورية "ليس في حياة تاجي عبد المجيد موجة متهاودة. لا سواحل رمليّة أو ضحالات. دائمة في قلب اللجة....". في هذه الشهادة/ التعريف: خلاصة سرد لحياة تاج الملوك.
(*)
السؤال السردي من هذا الدرس الروائي هو كالتالي: السيادة في الرواية للسارد الأكبر والأعظم هو الزمن بحياده الميكانيكي "رئيس سابق وجاسوسة سابقة يتجاوران بسلام تحت لعنة الشيخوخة" الجاسوسة تاج الملوك والرئيس أحمد بن بلّة. فهل الرواية كلها بمساحتها وشخوصها وسرودها بوظيفة إجابة روائية على سؤال العجوز التسعينية "من عساه وراء الباب؟" أما سلالم السرد فهي لا تختلف عن سلالم لعبة "حية ودرج" بالنسبة للعجوز تاج الملوك فهي وبشهادة عازفة الكمان/ صديقة ما تبقى ثمالة عمرها.. "عجوز تقفز بين الأزمان مثل لاعبة الحبال في السيرك. تنط ّ بخفّة وبدون شبكة أمان. قردة بيضاء نادرة من فصيلة البابون، تسكن في ماضيها فتختار ما يروقها منه وتطيل قفزتها. ترابط عند الصبا وتنكر شيخوختها لعلها أعراض الـ"الزهايمر". تتحدث عن أسماء كبيرة لم تعد حاضرة إلا في كتب التاريخ. تستحضر أرواحّا تحللت هياكل أصحابها تحت التراب. كأن قبورهم مؤرشفة في جارورها، طوع بنانها...". ما بين القوسين تطلق عليه قراءتي: مناصة تفكيك تقنية سرد المسطور الروائي، وهذه المناصة الذرائعية تضعها إنعام كجه جي: مفلاة في راحة يد القارئ النوعي وهناك منصة تقنية ثانية "فتحت الحلقة الثنائية، ودعتني إليها فصارت ثلاثية". هذه المناصة تغوي فعل القراءة بترتيب خيوط الشليلة، وهكذا لا يضيع رأس الشليلة من القارئ فالرواية تعتمد لعبة المرقمات وليس العنوانات الفرعية، أو اسم الشخصية، كما فعل جبرا إبراهيم جبرا في روايته "السفينة".. فرواية النبيذة موزعة صوتيا بين
* السارد العليم
* تاج الملوك
* وديان
* فيصل البادي
وهناك مناصة سردية ثالثة، هي وجيز تكرار المناصة الأولى، مع متغير جهوي يختص بالتسموية والشخوص "ترمي عليّ الشخصيات والأسماء بدون توضيح، وتفترض أنني أشم ظهر يدي، قادرة على التكهن بالقاصي والداني/..".
(*)
حزمة من السرود تتعايش سلميا في ترسيخ حضور تاج الملوك في الذاكرة العراقية:
* تدوير السرد: ذلك ما تخبرنا به الروائية إنعام كجه جي، في الصفحة الما بعد المسطور الروائي وهي صفحة بلا ترقيم، تذكر فيها أسماء أشخاص وتعلن امتنانها "لما قدّموه لها من وثائق وما أولوه إياه من ثقة" وهنا المسؤولية الروائية في صهر النظام المعلوماتي الذي توفر لإنعام في الأواني المستطرقة وغير المستطرقة في مصنع إنتاج الرواية. والصعوبة هنا في قانون التثبيت والشطب المعلوماتي. وترى قراءتي أنّ الرواية كان يمكن لها أن تترشق لتتخلص من ترهلات اعترضت قراءتي المنتجة جعلتني في القراءة الثانية، أثبّت بالقلم الرصاص وبخط خفيف الزوائد السردية التي تجاوزها في القراءة الثانية يشد القارئ ولا يترك فجوات في المسرود.
(*)
المبهج الذي انشددت اليه: هو تنويعات تقنية السرد التي تؤكد الجهد العميق المبذول من قبل إنعام كجه جي. ما يذكر في الصفحة الثامنة والتاسعة من الرواية سأجترح له تسمية "وجيز سرد" وبراءة اختراع هذا المفهوم لي شخصيا أنا كاتب هذا المقال. والوجيز هنا هو التالي يتكون من سبعة أسطر، ويتناول ما يتداعى في ذاكرة العجوز تاج الملوك بتوقيت معرفتها أن جارها في مستشفى فال دو غراس هو الرئيس الجزائري الأول لجمهورية الجزائر أحمد بن بلّة وكيف ساهمت تاج الملوك في خطة محاولة اغتياله وهو في القاهرة، هذا الوجيز السردي الملتبس مع القراءة الأولى والملتبس ثانية مع الصفحات الأولى حيث القارئ لم يتعرف بعد على فرشة الرواية، سيتضح بالتفصيل في صفحات الرواية.
(*)
سرد المصور أرشاك
للفوتو نكهة الخيمياء، فالمصور الفنان ينتج سردا تصويرا يمنح المهمل "رخصة الخلود" ولمن يميز الفرق بين الفن والفضيحة يعرض المصور أرشاك اللقطات الحميمة، لكن سرد أرشاك هو التالي، السرد الأول هو سرد تاج الملوك لعريها، أما قول السارد العليم "في الصورة عارية بخفر)" هذه اللقطة ممسرحة بقناعة تاج الملوك وهي تمسرح جسداني لتوهيمنا بلا اكتراثها للتعري "تدير رأسها جانبا وكأنها تهرب من التقاء عينيها بعين الكاميرا".. هذه اللقطة ستقوم بتدويرها سرديا فرشاة التشكيلي أكرم شكري وهكذا نحصل على سرد ثالث لجسد تاج الملوك.. وسرد أرشاك سيكون من أهداب النص الروائي كصورة غلاف للرواية وهنا يكون لسرد أرشاك وظيفة ثانية..
(*)
سرد كاميرا منصور البادي:
وهو يسمع صوتها عبر التلفون، بعد غياب أسطوري بينهما، يحاول رؤية وجهها من خلال صوتها المضغوط بتقنية التلفون والمجعد بالشيخوخة، فلا يرى شيئا وبلا قصد منه تتدحرج ذاكرة منصور في عين كاميرته المتدلية من عنقه "..علاقتها الغريبة مع منصورالبادي، المترجم الشاب الذي يعلّق كاميرا في عنقه حتى وهو يأكل. يلتقط الصور لزميلته العراقية دون غيرها.." فيراها في تلك اللحظة المتخثرة الآن "لا أرى سوى صورتها، منحنية على سياج الباخرة، تبتعد ولا أعود أراها، حتى الصورة فقدتها. أرسلت إليها طبعة منها ومزقت نسختي"، لكن الصورة الممزقة استعادت سطوعها الآن بتوقيت صوتها عبر التلفون وعلى ذمة منصور البادي "للبعض من الصور قدرة على التعذيب..".
(*)
سرد الأغنية/ تدوير السرد
تاج الملوك تترنم بأغنية عراقية قديمة، يحدث تداعي كلمات بين كلمات الأغنية وبين لحظة أسى في حياة وديان، يمثل في ذاكرتها قوس كمانها بحركة بندولية فترى نفسها هناك في لحظة عراقية جائرة في الجادرية، تبحث عن سماسم فرسها التي كانت تحرن وروضتها سماسم في نادي الفروسية، فيخبرها سائس لا تعرفه أنّ الملّقب بالأستاذ، ابن الطاغية "نقلها إلى حظائر قصره. تبين أنّها عربية أصيلة فاستولى عليها.."، هنا التأويل السردي جائز ولذيذ لتلك الأغنية العراقية المهزومة بنصاعة "يا مَن تعب. يامن شكه. يا من على الحاضر لكه".
(*)
سرد ساعة كاراكاس..
مع بداية معاودة صلتها مع منصور البادي بعد فراقهما الطويل، اشترت ساعة جدارية مضبوطة على توقيت كاراكاس، وستقوم هذه الساعة بسرد الزمن الشخصي لفيصل البادي تخيليا لتعرف تاج الملوك "متى يرقد حبيبها ومتى يستيقظ. مواعيد فطوره وعشائه ودوائه. تختار الأوان المناسب لكي تطلبه وتروي له ما فات من وقائع عاشتها بعيدة عنه".
(*)
كذبة الشفاهي والمسرود
حيث تخبرنا تاج الملوك كيف التقت بحبيبها فيصل البادي وكيف عرفته من رائحته
وكيف كانت حصتها منه(نهار وليلة ونهار آخر..".
في صفحات أخرى من الرواية تصل إلى وديان رسالة من فيصل البادي يؤكد فيها انه لم يعثر عليها في المكان المحدد "أدور بين حلقات المتنزهين والشباب اللاهين لكن،،نبعة الريحان،، تاهت ولم تصلني.. تهشم أملي في اختلاس سعادة قبل الغياب الأخير، أنا وتاجي خانم" وهو مطمئن أن وديان ستقرأها وقد تسعد قلبها.. وهنا ثمة خطأ مطبعي وهو كالتالي "ستقرأها لها وجدان"، والصحيح "ستقرأها لها وديان" كذبة تاجي فضحتها رسالة فيصل إلى وديان أما كذبة فيصل فقد فضحها السارد العليم "لم يكن الكذب من عادته، لكن عمارة عمره انهارت على رأسه لمّا رآها جالسة عند حافة النافورة. عرفها من بعيد. عجوزٌ متصابية متغضنّة عجفاء بين الشباب السائحين".
(*)
العاشقان مصابان بالزمن النفسي المتوقد في ذاكرتيهما، وهو مرض تثبيتات السعادة بشهادة المعلّم والحكيم غاستون باشالار، وهذا المرض يمنحنا ساعة ذات طراوة زائفة تبث فينا خدرا لذيذا.. لكن هذه الساعة حين تتشظى سنتشظى معها.. وهذا هو الدرس الروائي الما قبل الأخير في رواية لذيذة ماتعة تستحق العودة إلى حدائقها.