ادب وفن

رحيل عادل كامل.. إلى خلوده الأبدي / د. معتز عناد غزوان

قد يسأل أحدهم هل لحب الوطن بديل؟ وهل لحب الفن بديل؟ وهل لقيم الانتماء والتمسك بالوطن وهويته وترابه من بديل؟ الجواب عند عادل كامل لالا وألف لا، هذا القديس، الراهب، والزاهد، والأبي النفس، الذي لا يقبل أن يظهر بصفة المتملق قط... بل كان يظهر قوياً صلباً حاملاً نفسه بإباء ورفعة وبكل تواضع.. هكذا كان عادل كامل، الذي كان المشجع الكبير لكل فنان شاب يأخذ طريقه ومشواره الأول في الفن ليجد من عادل كامل الاسم والنقد والكلمة والمعنى والدلالة إلا ويقدم له مطوية معرضه وكأنه يقدم لفنان كبير رائد.
عادل كامل الإنسان الذي أبى على نفسه مرارة العيش وظروف الحياة القاهرة وانعدام الأمن مغامراً بالكتابة ومواصلة مشواره الصحفي الكبير في العديد من الصحف اليومية في الزمان والبرلمان وغيرها. كنت أتوق الى مجالسته والاستمتاع لكلماته وحواراته وآرائه القيمة في الفن والحياة والصحافة.
عرفته من خلال كتاباته التي كنت أتشوق لقراءتها وأسعى إلى حضور الندوات التي كان يتحدث فيها، حتى أصبحت قريبا ومزاملاً له في معظم الندوات والمحافل الثقافية التي كنا نقدمها في الجمعية العراقية لدعم الثقافة وبعض اللقاءات في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق وغيرها من محافل الثقافة العراقية، وقد اتسعت آصرة التقارب بيننا عندما اشتركنا معاً في إدارة أهم موقع للثقافة العراقية الحرة هو موقع "اتجاهات" الذي أسسه الفنان حسن نصار وكان رئيس التحرير فيه الراحل الكبير عادل كامل وكنت مديرا للتحرير معه آنذاك. وكنا قد استقطبنا الأدباء والمثقفين والكتاب من داخل العراق وخارجه فضلاً عن الشعراء والكتاب العرب من مصر وعمان والجزائر وغيرها.
استمر عملنا في هذا الموقع لأكثر من سنتين كان الموقع يزدهر ويزهر وينتشر بفضل جهود وإصرار عادل كامل على وضع الثقافة العراقية بحجمها الحقيقي وان تكون اتجاهات جامعة لمثقفي العراق في داخله وخارجه ولا فرق بينهما فكلاهما يتداولان هموم العراق وجراحاته. ولأسباب معينة توقفت اتجاهات عن النشر حتى وجدنا أنفسنا أنا وعادل بلا قاسم مشترك يجمعنا، لتتحول تلك اللقاءات ما بيننا من جديد في جريدة البرلمان حيث كان يعمل هناك مسؤولا عن الصفحة الثقافية والتي كان يديرها بكل براعة ومهنية لا نظير لها.
لم يكتف عادل كامل باستقطاب المثقفين العراقيين فحسب بل حاول أن يجعل من هذه الصفحة ملتقى ذا طعم خاص للثقافة العراقية المتنوعة ما بين الشعر والنثر والرسم والنحت والمسرح وغيرها. بيد أن عمله هذا أصبح عبئا كبيراً عليه لتحمله نفقات مالية تفوق ما كان يتقاضاه من راتب شهري متواضع وراتب تقاعدي بائس يتقاضاه كل شهرين... وكنت امزح معه أحياناً لاسيما عندما ذهبت معه إلى مصرف براثا في منطقة الصرافية حيث كان يأخذ راتبه البائس ليقول لي بأني معزوم معه للغداء ويصرفه لأنه لا يكفي حتى لأربعة أيام ..
وفي أيام مهرجان بغداد عاصمة الثقافة عام 2013، كانت له فرصة لان يقدم عدة كتب عن سير الفنانين العراقيين "النحات الفطري منعم فرات والخزاف ماهر السامرائي" وقد طبعت بالفعل لتعيد اليه نشاطه غير المنقطع وبحثه الدؤوب والمشرف لإبراز السمات الجمالية والخصائص الأسلوبية للرسم العراقي المعاصر. كما كان لكتابه "الرائع الرسم العراقي المعاصر" الذي صدر عن وزارة الثقافة السورية أهميته كمصدر رئيس لأرشفة الرسم العراقي المعاصر لاسيما انه قسم أجيال الرسامين إلى عدة أقسام تبعاً للزمان والأسلوب.
وفي منتصف العام 2014 التقيته في جمعية التشكيليين العراقيين وكان معنا الفنان الرائد الكبير الدكتور نوري مصطفى بهجت حيث كنت أحرر مذكراته الموسومة "محطات بين الطب والفن". وقد طلبت من عادل أن يكتب مقدمة لهذه المذكرات فكانت من أروع ما كتب في تحليله لفن نوري بهجت ومسيرته الكبيرة التي تمتد زهاء سبعة عقود من الريادة، إذ استطاع عادل كامل أن يجعل من مذكرات نوري بهجت سياحة جمالية بين الكلمات والتعبير التي كتبها بمحبة وصدق. وقد نشرت المذكرات عام 2015عن وزارة الثقافة دائرة العلاقات الثقافية حيث أقيمت جلسة خاصة في شتاء 2016 للاحتفال بصدور الكتاب وتوقيعه من قبل الفنان الكبير الدكتور نوري بهجت، ليكون أول المتحدثين عنه الفنان والناقد عادل كامل، وقد جاء اليه برفقة ولده البار سيف عادل كامل الذي كان عائداً من خارج العراق.
ومضت الأيام وقد أصر عادل أن يكون معتكفاً في داره ليكتب عن أختامه السومرية الأصيلة ويواصل كتاباته الإبداعية في معظم المواقع الثقافية داخل وخارج العراق، حتى جاءني خبر مرضه القاتل عن طريق ولده سيف مما صدم الجميع. هرعت إليه في داره الغنية بما فيها من نفائس الفن وعبق الفكر، لأجد عادل كامل شبه يائس مما حل به. وسرعان ما عاد إلى ماعرفته عنه من إصرار ومحبة ومنازعة للموت بروح لا تقبل الهزيمة.
لم استطع أن أراه فيما بعد وكنت أهيئ نفسي لزيارته ولكن القدر لم يمهلني أن أراه في لحظاته الأخيرة ليكون وقع الخبر اشد وأقسى علي...
إنها الصدمة.. في فراق راهب وزاهد كبير.. انه الرحيل، انه الموت الذي يختطف منا من نحب... إنها ساعات التراب كما أطلق عليها عادل كامل... إنها الحياة التي يتحكم بها الزمان الطارئ ... وها قد رحلت إلى عالم آخر... فان ذكراك باقية فينا أبا سيف راسخة في محبيك ومريديك وهذه هي جدلية الحياة والموت....
لقد ترك عادل كامل ثروة هائلة من الأعمال الإبداعية في الفن التشكيلي رسماً ونحتاً وكرافيك، فضلاً عن الكتب والروايات والقصص والدراسات النقدية والتاريخية... انه رجل في مؤسسة ومؤسسة في رجل ... لن نقول وداعا لأبي سيف بل نقول طوبى إليك الخلود.