ادب وفن

علي الشباني ورومانسية الكلمة في الاتجاه الشعري الجمالي : «هذا التراب المر حبيبي» نموذجاً / سفاح عبد الكريم

لم تكن صدفة تلك الايام التي جمعتني به وبغيره من الرموز والقامات الشعرية بل كنت ابحث عنها لاملأ ذاكرتي بصيحات الشعر الواعدة والمدهشة حقاً ولأن هؤلاء يحملون مشاعل الحرية والانسانية بشرف كبير، ولحسن حظي إني استمعت لهم مذعناً برغبة المتلهف والعاشق لتنصب خطاباتهم في مصلحة الشعر وقضيتي ولتلتحم معاً في همومنا ورغباتنا والآخرين وهم يصدحون بالغناء في الحانات والمقاهي والمهرجانات وشوارع المدن التي تضاء بابجدياتهم كحال غيرهم من المبدعين.

أستذكرهم جيداً وأجالس من التقيه وهو في انتظار الآخرين، وكان الشاعر الوديع علي عبدالحسين الشباني الذي يأتي زحفاً الى تلك الاماكن التي تجمعنا صباحات الجمع والعطل التي ننتظرها يوماً بعد آخر، نجتمع معاً لنلقي ونستمع لأحقيتنا بالمنجز المترفع الذي يروي ذكرياتنا المتعطشة، وأنا كغيري اتنهد الأشياء بفعلها اللغوي وابتكاراتها التي تخلق من آهاتنا نموذجاً وشكلاً نسافر به الى الأزمنة الاخرى لتخترق بها جدار وفواصل الصمت بالرغبة والجمال والثورة كأنها تجري مع بعضها لتصب في خلجان الانتظار والرغبة الأكيدة بروح صادقة وبمحبة عالية لا مثيل لها، وهي تنأى بالحرف والكلمة والموسيقى والتشكيل الصوري الجديد والتأمل. ولا أريد هنا ان اكون باحثاً او مترجماً او ناقداً بقدر ما أشد من أزر صديق الشاعر الشباني الحميم الكاتب والروائي سلام ابراهيم الذي كان رائعاً ووفياً في جمع واختيار أشعار ذلك الفتى الخفيف الظل في تغريده والثقيل في عياره الشعري المميز الذي يبعث فينا الرغبة بالشروع في الكتابة وبشكل آخر.. قد ينهل من روحياته المتيقظة المبدعون.
وأنا اصاهر الكاتب سلام ابراهيم الأصلي في حضرة من نطقت بها قصائدنا وبشكلياتها لنكون معاً في قوالب تكوينية وباتجاهها الرمزي والدلالي والحسي والرسالي الانساني. وحيث كان «هذا التراب المر حبيي» نموذجاً للشاعر الكبير علي الشباني وباجتماعه كان مصدراً للتحدث بلغة رومانسية جديدة لا تخلو من القيم الفنية والجمالية الهادفة. ولندقق ولندرك اهمية اللغة التي تحدث بها الشاعر. انها وصلة غنائية لا تنتهي عند حدود آهاتها تعطيك حلاوة ليبقى عسلها طعماً ومذاقاً للـ فيما بعد لأهميتها. وقد أدرك الموهوب منذ الطفولة افعاله واشياءه التي اجتمعت معاً لترسم لنا صوراً في خيال الواقع الذي لم نصله بعد وهو يزهو بروحه الطاهرة وكفوفه البيضاء الغارقة في حِناء الرومانسية وتراب الارض وخضرة عشبه الدائم عند حافات الأنهر وليالي المواقع الموجعة التي أودع فيها ليلتقي بنخب كان لها حساب في الشأن الثقافي العراقي والعربي، اسماء ومعطيات أغنت باهميتها وحدة مواضيع ومشاريع قصائده. انها اشارات تغنينا بها جميعا لنقف صفاً واحداً نجابه بها طغيان الحياة وصانعيها.. انها صيحات ايقظت فينا الشعر المحترق الذي يجمعنا بصيحته حيث كان الشاعر علي الشباني فارساً يمتطي صهوة المجد والعزة والشموخ والكبرياء بتواضع لا ينسجم مع مروجي القفشات التي تبدو هنا وهناك. وقد استكشفه البعض من المتلقين في مجموعة مشتركة «خطوات على الماء» مع الشاعرين المبدعين والمحدثين طارق ياسين وعزيز السماوي وكان قبل هذا في ربح خسارته التي القاها في مهرجان الناصرية الشعري الاول الذي وعد بها قبل هذا . وبعدها اصداره «ايام الشمس» وغيره وآخرها كان المطبوع «هذا التراب المر حبيبي» الذي جمعه زميله القاص سلام ابراهيم والذي أسفر عن توجهه وعزمه المنشود في حبه وولائه للفكر الذي ينتميه والوطن والناس وكان مثالياً في التضحية والايثار والتجديد في الاسلوب المتماثل الى توجهه الأول والتباعد في رسم الصور الواقعية برغبة اللغة التي توجت أفكار قصائده وبنسق مقبول لم يلتقه من قبل في أحد. بل أرتمسنا في رغبته لنشارك في العمق ولنكشف أشياءً قد افلتت من شباكه. انها العراقية المتأصلة فيه والموروث الذي تغناه مكللاً بالرموز والواقعية والجمال الذي استمد عافيته من واقعه المرير معتمداً على ابطاله والمتغني بهم في الكثير من قصائده وكان واحداً منهم وبدون تكلف لا يرغب فيه. إنه خيال وواقعية الشعر وصمته والحنين الى ذلك الأرث الذي جمعه ليصل به الى رغبة وعطش المتلقي. باحثاً عن سبل تؤكد حضوره في المشهد الثوري والشعري والانساني كمناداته لوجه الوطن الذي غنى له اجلالاً وكبرياء في شعره الذي يبحث عن اجوبة لاسئلته
«يا عراق اتريد من عدنا بعد چم كربله!؟
وانت بعدك ما صرت لسه عراق..!»

وهنا أردت أن انجز موضوعي في رغبته الثورية متقفياً الدلالات والتمنيات واهميتها لمشروع اختصه في الشعر وصولاً لذائقة المتلقي ليلقي حجته في البناء الهندسي للقصيدة والثورة معاً. وما دام الشعر فينا قائماً نستمد العافية منه في الفعل والتوجه في الاختيار الصحيح للغة وجمالياتها دون التوسل لمعطيات مألوفة بل المكتشفات والمحطات التي تنبئ عن اغفالنا لها لعدم ادراكنا في جمعها لنلقي بها بحجتنا على الملأ. فادراكي له كان «مسيحياً يجرُ في المنفى صليبه» وقد فعلها في ايام كان يجد فيها الموت اللامشروع له ولغيره.
«صافن والرصاص ايهيل من كل الجهات
او مالي في الميدان حربيه،
والحرب بالروح شبّت والمنايا تلوح ليليه»

انه الموت الخارم الذي لا رغبة له ولنا فيه. وهكذا بعث فيه الأمل للبقاء من اجل ان يوضح للناس رغبته الحقيقية في البناء والتكوين وباسلوب ندركه في الشعر اولاً.
«وين اشوف الناس اسولف عالنخل والراس أحمر..،
وين وابنادم جگاره، الناس بس دخان بيها،

انها اشياء لا تماثل خطوطنا إذ تفرد فيها وباتجاه صحيح في التصوير والادراك والابداع ناهيك عن عدم ارتباكه وسيطرته على وحدة الكلمة والهدف المنشود من الموضوع في المحاكاة والمنازلة. حيث ما زال غناؤه يحدينا ويعطي لنا حياة اخرى في تناغمه وموسيقاه وهو ينقلنا الى ايام شموسنا وبيانه للزمن المذبوح وطرق ابواب الشعر المقفلة لتسجل باسمه فتوحات قد لا نصل اليها الى يومنا بل في اشارات لمبدعينا من هنا وهناك.
«دگيت باب السنه.. لن الوكت حاير،
لن العطش ساجيه او مكسور طاري الضوه»

ومع كل هذا والخسارات التي لم تجعله خائباً بل في شر من ابتلاه املاً يحدونا به جميعاً.
«هيه الروح من تخسر ترد اردود»
انه ذا معان كبيرة ورغبة اكيدة في التصحيح والعطاء وهو كما يقول الشاعر كاظم الگاطع «البير كل ما غمگن جرحه المساحي ايزيد ماي»
انا وغيري أرى الشعر فيه قضية وهو كنهر لا يقف امامه حجر بل انهيال كان في نهايته مصب في خليج دائم الزرقة والمحبة والعطاء.
«شفتك اتزور الحلم بس النهر وياك..
بالماي تسهر عشب كل المطر يهواك
ترگص ابكل العمر واتموت صبحيه»
يا ريح صحي العصر «هاشم» الطاري الفجر يندار فجريه
من يلتفت تنهض شمس من يحزن ايغني الورد والنايل ايميل».
وكذلك
«انت «هاشم» نايم ابكل التراب
رايح اتخلي الحزن واتونس اسنين الخراب،
رايح اتشوف الورّه الدنيه او توديلي كتاب».

ان ثقافة الشاعر التي اغدق بها اصحابه امثال هاشم وغيره اوعدتنا بزمن لا بعده. ووفاء قد نجده في قراءات البعض الواعدة.
شكراً لمن كتب عنك وايقظ فيك الصحوة بلا مغادرة وأشهد أنك ما زلت قائماً في محراب الشعر لتؤدي الآذان بتنغيماته التي تجمعنا لنصلي في حضرة العشق ونغرد في مأذنة الشعر بتراويح انت رسمت محبتها، وانك إن شهدت فلنا الحق ان نشهد جميعاً في دوحتك البليغة.
« اشهد وجهي مبّدل،
حته الدم صفه ناسي النبض الاول
واشهد من شفت شرطيهم المسعور..
صرت نصين،
نص ما بيه شرف،
، نص بيه شرف مهجور»

لِعب الصحو والنوم ..