ادب وفن

قراءة في "سالت الموسيقى من جرح الغزالة" 1-3 / كريم ناصر

الجنوح إلى السرد والمسألة الشعرية:

ليست المجموعة الشعرية التي بين أيدينا "سالت الموسيقى من جرح الغزالة" للشاعر كريم الدريعي سهلة التداول، وعلى القارئ اللبيب أن يكتشف المغزى بالكاد ليتحقّق الحدّ الأعلى من الفهم، فإذا كان الشعر يتأثر بالاستطيقا، فلأنَّ الانزياحات الجمالية تبرّر وجوده، وكون الاستطيقا تسمح بالانزياحات. فيرجع ذلك في تقديرنا إلى المعيار الجمالي، صحيح أنّ الاستطيقا الجمالية لا تذهب مذهب التقليل من شأن اللغة، لكنّ انضباط وظيفتها في تقوية البنية يكون مضمراً، فالبناء المعماري للمجموعة لا يعتمد حصرياً على استراتيجية لغوية مسلّم بها، وسنثبت أنّها تقوم على جمالية لغوية مستمدّة من سياقات التسلسل السردي (التقني). والسرد المقنّن يلغي في الأغلب الأعم جمالية الصورة، لكنه لا يلغي البتّة جمالية الشكل، سنعتبر هذه الصفة تجسيداً شعرياً في رحاب الشعر، أمّا هذا المستوى الفني المميز فهو نابع أساساً من مرجعياتٍ مختلفة تكوّن مادة المعنى وتقوم على أساسه، ويعدّ هذا الاختلاف بطبيعة الحال خرقاً للمألوف هدفه إشاعة المختلف لإثارة المتلقّي وتقوية أدائه في نفس الحين، مهما كانت الأشكال متشابهة في الصياغة.

شعرية جمالية مقابل غياب بنية اللغة:

إنّ إنبثاق طفل من كلّ قنبلة تعبيرٌ يحيل على مفهوم شامل للسلام، لكنّنا ونحن نعرف جيداً أنَّ الحرب لا ترحم، لأنَّ القنابل تسقط عشوائياً. فتغيّرات المعاني المجازية لا تقبل بثنائية اللغة والثيمة (theme) معاً لأنّ الثيمة ليست مظهراً للغة، هذه النتيجة تبقى رهن الواقع كمعادل موضوعي يستدعي التأويل، لتكون الجملة أكثر شعرية، ففي قصيدة (تفجّرت القنبلة عن أطفال) ص11 نجد هذا التأويل واضحاً.

إنزياحات جمالية لاستعارة الدلالة:

نحن نرى أنّ الإنسان حالةٌ إستثنائية في الكون، فلا توجد قواعد ظاهرة تُحدّد من قوّة تأثيره:
"ظل القلب فقط وقد استحال إلى طير حب" ص12.
(شممت رائحة الموسيقى)
ليست الموسيقى المشار إليها إلاّ إنزياحاً، والقيثارة إلاّ فاكهة، والقلب إلاّ طائر حب يجسّد وظيفته البيولوجية، وبهذا نلاحظ أنَّ التراكيب المجازية ما هي إلاّ إنزياحات الشعر، فلن تكون التراكيب شعريةً إلاّ إذا لحقتها الدلالة أو غلّفتها التعابير المرموزة المجازية، ونحن نرى أنّ التعابير تنطق بمجملها عن الأشياء الجمالية، ولا تنطق عن اللغة، فالحلم يتحوّل جدلياً إلى حاسة والروح إلى حاسة والساعة إلى حاسة:
"كانت الساعة حاسة في جسد الانسان تفسّر له أحلام الأرض" ص36.
(كانت الساعة حاسة)

السرد.. النمط الشكلي للمعاني:

قد نستطيع أن نجزم بتجسيد السرد كآلية شعريّة كما يظهر من سياق النصوص المدرجة في الكتاب. إنّ هذا النزوع يمثّل النمط الشكلي لمجمل شعره، لكن مع اعتبار أنّ النمط مرجع معياري يقدّم الانزياح بصفته سمة جمالية له، هذا ما يجعلنا نبني استنتاجنا الكامل من البناء المعماري التسلسلي كما سنرى، يجب أن نعرف أنّ السرد يمثّل جوهر الأسلوب ولا يمكن تخطّيه. سيصبح الشعر أقل بريقاً إذا استعار التكنيك لغاية معينة، لا سيما ونحن نعلم أنّ المعاني الدلالية لا تُستخلص في أغلب الأحيان من الصور الشعرية، بل هي نتيجة محض لاختزال الأفكار في أكثر الأحوال، مع أنّنا لم نجد ظاهرة لغوية، وهذا أسلوب خاص بالشاعر، وليس طريقة تعبير جنس معين: نستطيع أن نستدل بـ (الطير الذي لقحته الأفعى) ص13 كمثال خالص لهذه المقاربة.
هكذا نحصل على المعاني الدلالية من صيرورة البناء أي من (المضمون) في تقديرنا، وليس من بناء الجملة الشعرية المركّبة بفضل بنيتها اللغوية، وفي جميع الأحوال يتحوّل النص لدى الشاعر إلى كينونة خارقة للقوانين، لذلك فلا يمكن أن يخضع النص لرقابة أو لضغط خارجي، مثل هذه الأشعار لا تنتمي إجمالاً إلى البنيوية ولا إلى الكلاسيكية وهي لم تضع ضمن سياقها الأسلوبية كمنظور شعري..
نحن نلاحظ أنَّ السرد يكوّنُ المظهر الخارجي للنص وتصبح التعابير الشعرية أجزاء منه، هذه الجدليّة يمكن أن تنمو تسلسلياً لتكوّن في النهاية الموضوع الرئيس. وقصيدتا (تهشمت المرآة عن أنثى من نوعه) ص 14، ورحم الإلهة ص73 مثالان صريحان على قولنا.
والحقيقة أنَّ التراكيب الشعرية لا ترتبط بجوهر اللغة وبنيتها، بل إنّها ترتبط بجوهر السرد نفسه، والذي يقنعنا باختيار هذه الطريقة هو اختلافه بالقياس إلى الشعراء. هذا الإنزياح يقودنا إلى المعاني الدلالية في نهاية المطاف، وكأنّما تمثّل أشعاره شذرات من قصص محبوكة، وقد تؤكّد هذه الجملة صحة كلامنا:
"ثم جاءت غزالة أكلت الجبل الذي أجلس في لبه" ص17:
(خرجتُ من ثقبها الأسود)
وفي البحث عن الذات والعثور عليها نستدلّ بالجملة الآتية:
"عند نهاية موسم السبات وجدت تمثال الإله
قد استحال إلى مرآة رأيت ذاتي فيها" ص18/19.
(كيف أتحد بإله)
ولذلك فإنَّ سرد الشعر يكاد يكون المقياس لرسم أيّة صيغة شعرية. ثمّة نزعة ذاتية لتصوير التجارب مقابل غياب الصورة الشعرية، وفي قصيدتي "تماهيت في ثمرة التفاح" ص20، ولبّ الأرض" ص72 تصبح الذات دليلاً لا يمكن الاستغناء عنه.
يصف الشاعر (الشعر لغة في الجوهر) وليست اللغة مرجعاً معيارياً حتمياً، ولتمييز أسلوبه يدرج السرد كآلية تغدو وظيفتها في نهاية المطاف درامية، وقد تحيل أحياناُ على صيغة جمالية يكون مدلولها إيجابياً:
مثل: (تباطأ السهم وقع على الأرض وقد صار غصناً تنبثق منه وردة) ص31 .
(صار السهم غصناً ذا وردة حمراء)
كلّ شعر هو رجوع إلى الفن بإهماله للمقوّمات اللغوية وإحياء للفن باعتماده اللغة إطاراً. والحق أنّ قراءة تامّة للكتاب ستحيلنا على استطيقا من طبيعة خاصة مآلها إشاعة عناصر الجمال وتحوليها جدلياً إلى عناصر أساسية تبدو وكأنها مدروسة، ولكن هل لنا تجريدها من صفة الشعر حتى لو افترضنا جدلاً أنّ الفكر اللغوي اللساني مفقود منها أو كتبرير لفقدانه الآلي؟ والنص (ثدي مليء بالموسيقى) ص75 مثال صارخ لإشاعة جماليات غير محسومة، لتغدو محسومة يلزمها الفكر.
ليس السرد الشعري إلاّ عائقاً ما دام ينهك العبارة الشعرية والشعر معاً، ولا يقدّم لهما صياغة شاملة، ولكي تصبح اللغة سمة للفن الشعري يجب ضبط طبيعتها لاختيار أسلوب ما ذي هيبة يستقي من خاصيات السرد صفته. إنّ كلّ اختبار عياني ـ لأنماط الجُمل ـ تتمخّض عنه ابستملوجيا يصعب علينا فهمها بسبب فوضوية التراكيب الشعرية (1) ومهما يكن التأويل موجباً أو سالباً يتحوّل المتن الشعري في كلّ الأحوال إلى مزية جمالية هدفها خرق السائد في إطار سردي، ولكنه مترابط تركيبياً في مستواه المتحقّق في نهاية النص: (2)
"فيما كنا في الفضاء ابتسم البالغ
فرأيت أن أسناناً لبنية قد نبتت له" ص63.
(حشرات لها أشكال البنادق)
يقودنا الشعر دائماً إلى سلسلة طويلة من الاكتشافات كتحصيل حاصل، ولا شك في أنَّ البحث عن السعادة (إمتحان عسير) في عالم يقوم على مبدأ التناقضات والصور التركيبية المختلفة، والشعر هنا يندّ عن الجمال ويوازيه دلالياً ولا يتردّد قطعاً، الحقيقة إذا اقتنعنا بصياغة جمالية وهذا ما يحصل، فإننا لا نقتنع بالصياغة اللغوية، كونها مضمرة بسبب السير بالسرد إلى أقصى حدوده كما لاحظناه في القصيدة الموسومة (الطفل الذي لم يبلغ) ص128.
فالسرد موضوع الشعر، والواقع أنه لا يرتبط بطول القصيدة أو قصرها، أنظر إلى "بحيرة لها شكل الغزالة" ص24.
لكن اكتشاف صورة دلالية من لدن السرد وهذا نادر جداً يمكن أن يُقرّب الشعر من النمط الدلالي (3)
وفي المثال الشعري الآتي نجد ضالتنا
"دخلت الفراشة في حلم الطبيعة الدائم" ص23.
( فكرة ومضت في رحم الأم)
السرد بالتحديد لا يقوّض التراكيب البنائية، ولا يناقض النظم وجوهره الدلالي، وهذا النزوع نفسه ما يجعل الشعر مترابطاً تركيبياً بفضل تجانس معانيه، وليس بفضل انسيابيته الطبيعية.

صيغ تركيبية تعارض بديهيات السرد:

تعدّ قصائد (مرآة ترى الروح) ص34، و(رحمتي غلبت غضبي) ص172، و(في البيضة) ص102 نماذج مختلفة لصيَغ تركيبية تعارض صيرورة السرد بالمقارنة مع البديهيات السرديّة، هذه النقلة بالذات يمكن أن تعوّض عن نقص اللغة المترتّب بفعل الترهّل أو الحشو أو التكرار (4) كلّ ذات هي روح ترى المرآة صورتها:
"هذا الخيميائي الذي دورقه رحمه، قطر روحه إلى عين جنين فرآى ذاته" ص34/35
(مرآة ترى الروح)
وتحتلُّ القصائد القصار جانباً كبيراً من التراكيب الشعرية، فما ندعوه الحشو لا تظهر ملامحه في الصورة، وقد يرجع ذلك إلى اختيار الأسلوب، والملاحظ أنّنا نحصل في النص (صلاة الحمار) مثلاً على جملة مكثفة تعبيرياً ومختزلة إلى حدّ معين "كان الناعور يدور كدوران الأرض حول نفسها
فينسكب الماء كالسماء
يسقي البذور فتورق نجوماً" ص174.
(صلاة الحمار)
الواقع أنّ خاصيّة السرد تختفي كما يظهر لنا، ويرجع ذلك إلى أسلوب التكنيك ضمن محاولة لتقنين الجملة أو تقنين السرد.
"رأى الجنين أن ذلك الكون اللامتناهي محاط بقفص، قفص صغير بحجم السجن" ص81.
(الجنين ذلك الإله)
وقد تنطبق كذلك نفس الملاحظات السابقة على قصيدة "في لحظات الفجر الصافية" ص80.
فالنقلة الايجابية تُحدّد نهاية النص وتسمح بالتعبير عن الدلالة، لتلغي ظلماً ما أو ترفع حيفاً بمعنى من المعاني، فكيفما تكن العواقب تظلّ الحيوانات مفرغة من الحبّ والكره على حدّ سواء، لكنها تتكلّم بلغة البشر وتعلّم الأطفال:
لنلاحظ مثلاً الجملتين الآتيتين:
"حيوانات صغيرة دون رأس وأطراف،
مفرغة من الحبّ والكره تتكلّم لغة البشر تعلم الاطفال" ص48.
(حيوانات صغيرة)
"فيما كان الأسد يفترس الغزالة
ومن فوقه حيث الغصن تفتحت الوردة" ص64.
(إفتراس وردة)

التكرار إمتداد جذري للمدلولات:

الملاحظ أنَّ الصور الشعرية قد تفقد دلالتها بصفة كاملة، إذا ما تغلّب التكرار على بنائيتها المعمارية، فلم يعد ممكناً الحديث عن الشعر في إطار هذه المعضلة. إنَّ الشعر لا يلتبس إلاّ بالسرد ولا يتلاشى التأثير الشعري إلاّ بالخطاب الفج، ولا يفقد سماته الإبداعية إلاّ بفعل ذاتيته السائدة، فالنص "عين الأرض ذات المقلة الخضراء" ص27 تجسيد لما قلناه. فـالخطاب الشعري الحقيقي لا يجترّ نفس الكلمات ولا يخضع أصلاً لمفهموم النظم. فمن جهة يسقط الشاعر في هوّة التكرار إلى حدّ الرتابة، ومن جهة نجد نزعة الذات أو الأنا (Ego) تمثُل صيغة معيارية شائعة تمسّ ظواهر خاصة بالشاعر نفسه، وقد تبدو متمرّدة لا تخضع لأيّة قيود، فضلاً عن ظواهر دلالية لا تني تفرض بنياتها العميقة. وقد تكاد تكون مفردة الموسيقى نغماً يرتبط بالوجع وإيقاع الحياة كظاهرة لإشاعته في تقوية المعنى، وأمّا مفردة القيثارة كأخواتها من الكلمات المكرّرة، فقد تكرّست بافراط، لأنّها جزءٌ من طبيعة النغم..
لا تكون الجملة شعرية إلاّ إذا قامت على ضبط إيقاعها العام، فالموسيقى السائلة تغدو الكلمة الحاضرة دوماً في القصائد:
"تتغذى البذرة على جثث العقارب
جثث الشياطين
تتغذى على القنبلة النووية
الماء، الطين
وتضيف إلى ذلك إكسير جمال من لبّها
فيصبح موسيقى سائلة تشكل منها وردتها" ص99.
(إكسير الجمال)
لا مأخذ على التكرار إذا أُخذَ بطريقة عفوية، والتكرار بطبيعة الحال ليس الحشو كما سنرى، لكن يمكن أن نعزو الفرق إلى الحشو في حالات خاصة، فكلّ كلمة مماثلة قد تعدو إمتداداً جذرياً للمدلولات. وما يسمّى الحشو يدفع بالشعر إلى القصّ، وأيّة صياغة يقينية لا تختزل العبارات الدلالية يمكن أن تجعل من الشعر نمطاً يندرج في خط النظم أو البديهة، وما يشفع للدريعي خاصة اختلافه، ومن المفارقات أن نراه يلاسن الحيوانات ويخاطبها بوصفها جزءاً من المخلوقات الأساسية على الأرض..
ومهما يكن فلا تخضع الجُمل المكرّرة الكثيرة لضغوط رقابية، لأنّها تعدّ من وجهة نظر الشاعر طبيعية سواء أكانت هدفاً لتوليد الدلالة أو نمطاً مرهوناً بالشكل، والحالة هذه يبقى التكرار في العمق ظاهرياً وبنائياً رهيناً بصيغته المحايدة، ولا يمسّ المعاني أو علاقته بها، ولا يجعل تغليبها على الشكل مستحيلاً