ادب وفن

نشوء المدن بين القصدية والعشوائية..الكوت أنموذجا ( 1-3) / حميد حسن جعفر

1- من الممكن أن يضع المتتبع لفكرة قيام المدن ـ الحواضر خاصة ـ سواء كان متابعا محترفا ـ كأن يكون مهندسا أو معمارا/ بناءً أو قد يكون مثقفا، أو أن يكون آثاريا أو ممن يكون منتميا إلى "الغاوون" ـ حيث يشكل المكان والجغرافيات الكثير من الاهتمامات والهموم والهواجس.
من الممكن أن يضع الكائن أعلاه يده على العديد من إشكالات نشوء المدن أو اندثارها، وكذلك إشكالات التاريخ ودور الكائن البشري في قيام المدينة والمدنيات، ومن هذه الإشكاليات هي النشوء الذي ينتسب إلى القصدية، أو من الممكن أن ينتسب إلى العفوية/ الارتجال.
حيث يكون في الأولى النظام هو السائد، وفي الثانية تكون الفوضى، حيث يمتلك الشكل الأول ـ القصدية ـ كل ما لا يمتلك النشوء الثاني ـ العفوية ـ وأقصد بذلك ارتكاز الأول على مبدأ التخطيط العمراني عبر البحث عن شكل المدينة المتخيل مسبقا، وارتكاز النشوء الثاني/ الفوضى على الارتجال والتشويش، عبر البحث عن المأوى الخالي من المواصفات.. البحث عن سقف وجدران ومنفذ يتحكم به الانسان وحالة أمان.
وحين يعتمد الأول على التخطيط المسبق وخارطة المستقبل، ووجود اللحظة المستقبلية، وتوفر ما يشبه الصورة.. أي إن الإنشاء أو النشوء يكون خاضعا لعامل التطور والمغايرة، والتوسع وزيادة أعداد المستفيدين من هكذا مشروع، ويكون مستجيبا للتحولات التي تمتلكها نظرة ونظرية المعمار، أو المهندس، أو صاحب الفكرة، أو المستفيد من هكذا بناء أو أبنية. في حين يكون الثاني واقعا تحت سلطة اللحظة الآنية، غير مدرك بسبب ضيق الأفق، وعدم القدرة على سبر المستقبل، وعدم امتلاك فكرة المتغيرات، لما سوف تؤول عليه وحدات الزمن القادمة ومتطلبات الإضافة والتغيير والامتدادات.
إن المستقبل هنا ـ وفي هذه اللحظة ـ من الممكن أن يدخل في فضاء الآلة، والتقنيات الحديثة ـ التكنولوجيا ـ ومتطلبات الحياة المعاصرة، من تواصل واتصالات، والاستفادة من الزمن، وتحولات البناء، ووظائف الأبنية، واختلافات مواد البناء، وطرق الإنشاء.
***
الى النشوء الأول تنتمي مدينة واسط، التي قامت ـ أو تم إنشاؤها ـ عند العام الثالث والثمانين أو سواه من القرن الهجري الأول.
والى النشوء الثاني تنتمي عشوائية ونشوء مدينة (الكوت)، والتي اصطلح البعض على تسميتها بـ (كوت سبع).
واسط مدينة قصدية النشوء، ظهرت للوجود، منذ اللحظة الأولى وضعت لها اسمها قبل أن يوضع لها حجر الأساس. وكان وجودها وفق طلب الأمير الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي، بعد أن ضاق ذرعا بأهل الكوفة.
الكوت، أو كوت العمارة، أو كوت سبع، لم تكن وليدة تصور لفضاء سكني/ سكاني، أو لحالة إيواء، أو إقامة دائمة. هذه لحظة وجود الجذر. والجذر/ الأساس هنا هي نقطة مراقبة/ حماية، تعتلي ضفة النهر/ نهر دجلة، ضمن مجراه الأخير/ الحالي، وليس ضمن مجراه الأول حيث مدينة واسط.
ومن مهمات نقطة المراقبة هذه الكوت، والتي من الممكن أن يكون لها وجود سابق يقف خارج التأسيس الأولي للمدينة.
من مهام هذه الكوت/ القلعة، والتي قد تكون أولا على شكل منصة، أو على شكل لسان أرضي، يمتد الى داخل النهر، والتي لم تكن هذه الكوت حينها مطلبا للسكن أو المعيشة، أو للإيواء. بل إن مهمتها الرئيسة، أن يقوم القيّم عليها، أو المناط به إقامتها، هي حماية وسائل النقل آنذاك. النقل النهري ـ الزوارق ـ كوسيلة نقل للمسافرين أو البضائع المصدرة والمستوردة ما بين بغداد والمدن التي تقع على مجرى النهر جنوبا، وصولا الى البصرة وبالعكس. وكذلك لحماية السفن الشراعية التي تعتمد على قوة عمال السحب، والتي تكون محملة بالبضائع والحبوب والمواد الغذائية والمتجهة شمالا حيث بغداد، أو جنوبا حيث البصرة وعبادان، ومحميات الخليج العربي آنذاك، حيث إن هذه الزوارق، والسفن التجارية ـ ركابا مسافرين أو بضائع ـ كثيرا ما تتعرض لحظة دخول النهر ومجراه منطقة الانحناءات، حيث تضعف التيارات المائية، وتبطئ حركة المرور، وتسهل عميلة الوصول الى الهدف ـ الذي هو الوصول الى وسائل النقل ـ مما يوفر للسُرّاق واللصوص، أو ما يسمى في يومنا هذا القراصنة، فرصة الوصول للمسافرين وتسليبهم ما يحملون وما يمتلكون، أو الى الوصول الى السفن وما تحمل من حبوب أو تمور أو بضائع.
فلحظة وجود الكوت/ القلعة، كانت مهمتها حماية الممر المائي، وليست إقامة قرية أو قصبة أو مدينة.
2- هذا الاختلاف في التشكيل والنشوء، صنع لكل من صنفي المدينتين وظيفة وصفات وملامح. وظيفة الأولى هي إنشاء مدينة فيها الكثير من التكامل المنشود آنذاك، سواء كان في تصورات ذهنيات المواطن في الخمس الأخير من القرن الأول الهجري، أو على الورق كما يقال، أولا، وعلى الأرض حيث التنفيذ، وخروج هذا النموذج المدني من التصور الى الواقع المادي.
وظيفة الثانية ـ كمدينة مقترحة أو مفترضة ـ والتي لم تكن لحظتها مدينة أو قرية أو حتى بيتا للسكن، بل كانت نقطة مراقبة أو حماية، أو نقطة استطلاع.. أو نقطة حراسات لكل من يستغل مجرى النهر من المسافرين والتجار. كل هذا من أجل صناعة حالة أمن، لكل من النازل من بغداد حيث مدن الجنوب أو الصاعد من مدن الجنوب، البصرة ومحميات الخليج العربي صعودا حيث بغداد وما يليها.
هذا الاختلاف والتباين وفر للأولى ظروف النهوض والنشوء والارتقاء، وإنتاج كل ما يمكن أن ينتسب الى التمدن والتحضر. حيث تتم عملية إنتاج الآداب والفنون والثقافات، علوم ومعارف وسلوكيات وممارسات حياتية.
إن الرجل/ حارس النهر ـ صاحب نقطة الحراسات والمراقبة ـ ولأن نقطة الحراسة هذه، تحتاج الى حالة من ارتفاع المكان وعلو الاستطلاع الذي من الممكن أن يصل اليه الحارس من خلال مرقاة/ سلالم. هذه الحال أوجبت على هذا الانسان أن يقوم بإنشاء مرتفع يشرف من خلاله على مساحة واسعة من النهر، وضفتيه، والأراضي المحيطة. هذه الوظيفة/ الإشراف من علوٍّ لا توفرها إلا ما يمكن أن تسمى بـ (الكوت) أو (القلعة)، تلك اللفظة التي تنتمي الى لغات أخرى، قد تكون آرامية أو آشورية، أو برتغالية.
إذ إن البرتغال تعد من أول البلدان/ الدول التي وصلت أساطيلها الى أعالي منطقة الخليج العربي من أجل السيطرة على طرق المواصلات أولا، وعلى بحار ويابسة مازالت بكرا، من الممكن الاستفادة مما تنتج من مواد أولية ثانيا.
الرجل/ الحارس لحظتها لم يكن معنيا بإقامة مدينة، أو مجموعة بيوت، وما كانت ضمن تفكيره ـ عندما تم الاتفاق فيما بينه وحكومة المركز ـ على أن يكون ممثلا لها في تلك المنطقة. وما كانت ضمن مفكرته في أن تتحول نقطة الحراسة هذه الى لحظة انطلاق من أجل إنشاء مدينة.
*****
في يوم 4/ 4/ 2011 تم افتتاح مركز، أو متحف التراث/ أو التاريخ، التابع لمدينة الكوت، على إحدى قاعات جامعة واسط؛ وبحضور السيد الدكتور جواد مطر الموسوي، ومجموعة من المختصين بالتاريخ العربي والاسلامي وما قبل الاسلام، وبحضور عدد من الأدباء والمثقفين والمهتمين بشؤون تاريخ الحضارات القديمة لبلاد ما بين النهرين عامة، ومدينة واسط خاصة.
أوجب هذا الافتتاح نقاشا وحوارا وجدلا بين مجموعة من الأساتذة المختصين والحضور. هذا النقاش دفع بالدكتور ـ رئيس جامعة واسط حينها ـ جواد مطر الموسوي، أن يطرح تساؤلا مفاده: لماذا لا تعد كلمة (كوت) هي تحريف، أو تخريج، أو اشتقاق، من كلمة (كوخ)؟ وبذلك تتخلص من إشكاليات البحث عن أصول أو جذور أو أوليات تسمية المدينة بـ (الكوت). هذا الرأي/ التساؤل دفعني شخصيا الى أن أذهب الى ما قاله الأسلاف، حيث قاموس (الرائد) تحديدا ـ معجم لغوي عصري لـ (جبران مسعود) ـ لأجد ما لا جدال حوله. لأن القواميس كثيرا ما تتحول الى الفيصل. ولأجد أن الكوخ هو بيت الفلاح، الكوخ كل سكن يتخذه الزارع قرب زرعه. وإن (الكوت) كلفظ لا يمكن لي عنقها لتتحول الى(الكوخ)، لأنها لا تعني في نهاية الأمر سوى (القلعة)، في واحدة من تفسيراتها. وهي المكان المشرف على مجرى الماء سواء كان هذا المجرى نهرا أم بحرا.
ولو تمكن الباحثون والجغرافيون أو التاريخيون ـ ومن بينهم الدكتور الفاضل جواد مطر الموسوي ـ أن يعودوا/ يرجعوا الى ـ كما فعلت أنا شخصيا ـ أصول واشتقاقات أو ما يحاذي كلمة (الكوت)، لوجد البعض أن لفظة (الكورة) والتي تأتي في واحدة من معانيها الطبيعة، ولو تمت المحاذاة هذه لوجدنا (الكورة) هي المدينة، أو البقعة التي تجتمع فيها المساكن والقرى.