ادب وفن

بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 / فيصل لعيبي صاحي

إن قبول العراق ووزارة الثقافة العراقية في جعل بغداد عام 2013 ، عاصمةً للثقافة العربية، هو بحد ذاته شجاعة وجرءة، تدعونا للإشادة به. وذلك لما تمر به البلاد من فوضى وخراب وفساد منظم وغير منظم أيضاً. كما ان الوضع الأمني الصعب والتوتر السياسي والطائفي والقومي ، لايساعد هؤلاء الشجعان الذين وافقوا على تحمل مسؤولية هذا الحدث الهام في حياة بغداد والعراق معاً.
فإليهم والى كل من حاول وبذل الجهد لجعل هذا العام عاماً ثقافياً بإمتياز في عاصمتنا الحبيبة بغداد، الشكر والتقدير ، كما ان الصح والغلط مرجوع للطرفين.
لكن ما معنى ان تكون هذه المدينة او تلك عاصمة للثقافة؟
هل يكفي إتخاذ قرار فوقي لمثل هذه المناسبة، كي تقام هذه الفعالية الهامة والجديرة بالتمعن والنظر؟
كيف يمكن ان نتحقق من نجاح الخطة والبرنامج وشروط قيامها؟
عليّ ان اشير هنا الى انني قد وصلتني دعوة كريمة من وزارة الثقافة لحضور حفل إفتتاح الفعالية الأول، كما تم دعوتي ايضاً للمشاركة في الملتقي التشكيلي والمعرض الشامل الذي سيفتتح في بداية الشهر القادم، ولهذا ، انا لا اكتب اليوم بسبب عدم دعوتي او عدم الإهتمام بي، كما يفعل البعض في نقده للفعالية، مع ان الكثير مما قيل كان صحيحاً.
لا أعرف إن تمت مناقشة هذه الفعالية من قبل المختصين في وزارة الثقافة مع المؤسسات العراقية التي لها علاقة مباشرةبالإبداع، مثل نقابة الفنانين ، جمعية الفنانين ، إتحاد الأدباء ، جمعية الموسيقيين، مؤسسة السينما والمسرح ، الفرق المسرحية الخاصة وكذلك الفنانين العراقيين انفسهم من أصحاب الخبرات والتجارب والعلاقات الواسعة مع الوسط الثقافي العربي والدولي . ام أقتصر الأمر على الوزارة وعلاقاتها الرسمية مع الوزارات العربية للثقافة ؟
سؤال آخر يتبادرالى ذهني، ماذا تملك بغداد من مؤسسات للفن والثقافة صالحة لإستقبال هذا الحدث ؟ هل توجد سينمات جيدة وقاعات عرض مناسبة ومسارح عصرية وأماكن يستطيع الضيوف زيارتها والتعرف على مظاهر الحياة المدنية، لمدينة مثل بغداد وإسمها الشهير؟
أين يمكن للضيوف قضاء وقت ممتع - مثلاً في هذه المدينة التي يسبق إسمها التاريخي وجودها الحالي؟
أسئلة كثيرة كان يجب الإجابة عنها قبل إتخاذ القرار النهائي لمثل هذه المناسبة الهامة. ولكن مادامت الفعالية قد قاربت على نهايتها ولم يبق غير أشهر ثلاث على ختامها. علي ان أشير الى ان صدى هذه الفعالية عربياً ودولياً هو صدى خافت، وطغت عليه اصوات التفجيرات وعدد الشهداء والضحايا، إضافة الى صراعات القوى المتنفذة في الداخل وكان ضعف مستوى التمثيل العربي والأجنبي من الفنانين والمبدعين في مختلف صنوف الفنون والمعرفة اكثر من واضح . فهل كانت وسائل الإعلام في الوزارة غير مهتمة بالجانب الإعلامي، ام ان الفعالية لم تثر الصحف العراقية والعربية والدولية لسبب ما ؟ فانا هنا اتكلم من الخارج .
المدن عموماً لها أسس تستند إليها في حالة التفكير في جعلها مدينة للثقافة حقاً، وليس إقامة فعالية تحت هذا الإسم يحيلها الى مدينة للثقافة والعطاء والإنتاج المعرفي الرصين ، هذا لا يقصد منه التقليل من دور المبدع العراقي إطلاقاً ، ولكني أتكلم هنا عن البنى التحتية للمؤسسات الإبداعية التي تساعد في جعل هذه المدينة او تلك مدينة للثقافة .
المدينة الثقافية ، تملك إقتصاد ثقافة بمعزل عن صادراتها ومنتجاتها الأخرى وحتى عن ميزانية حكومتها المحلية ؟
إقتصاد الثقافة اليوم في المدن الثقافية ، يوازي إقتصاد النفط والإقتصاد بشكل عام لأي مدينة على هذه الكرة.
إليكم لندن كمثال على المدينة الثقافية .
يساهم اكثر من 680.000 شخص في الصناعة الإبداعية، ويشكلون 15بالمئة من إقتصاد لندن.
وهم يكونون 20بالمئة من قوة العمل فيها. ويدخلون الى ميزانية المدينة بحدود : 20 29 بليون جنيه إسترليني كرأسمال.
ويمثلون 12بالمئة من سكان لندن و 40بالمئة من بنيتها الفنية التحتية.
هناك 70بالمئة من أستوديهات تسجيل الموسيقى و90بالمئة من انشطة الإستثمار الموسيقي البريطانية داخل مدينة لندن.
40بالمئة من النشاط السينمائي لعموم نشاط المملكة المتحدة السينمائي يقع داخل مدينة لندن.
46بالمئة من نشاط الإعلانات البريطانية. و85بالمئة من مصممي الأزياء.
27بالمئة من الأعمال المعمارية. إضافة الى جيش جرار من العاملين في حقل الإبداع لحسابهم الخاص، والتي تزيد نسبتهم على 81بالمئة من العاملين في الحقل الإبداعي في المدينة. وتقدر عائداتهم المالية من الخارج فقط بحدود : 3.852 بليون جنيه إسترليني .
اما الوحدات والشركات العاملة في حقل الصناعة الإبداعية في لندن ، فيقدر بـ ( 11.700 ) ألف وحدة فنية
ويتحدث سكان لندن بـ 300 لغة مختلفة، وفيها 50 طائفة دينية .
وفي عصر العولمة والتقنيات الحديثة للمعرفة، وضعت الحكومة البريطانية برنامجاً واسعاً لدمج مختلف الصناعات الإبداعية في بعضها، لتسهيل سير وحركة هذه المنتجات ولسرعة تنفيذها وتسويقها كذلك. فبعد ان كانت النشاطات منعزلة عن بعضها سينما مسرح تشكيل موسيقى - تلفزيون ازياء طباعة كتب ادب وشعر إلخ ... - بدأت الان حركة لتوحيد الجهود وتجميعها لترابطها الطبيعي والمنطقي أيضاً.وقد تضمنت هذه الخطة بعض المفاهيم المهمة في فهم دور الفن والثقافة عموماً في حياة المدن ، مثل :
1 الحفاظ على شخصية المدينة وعالمها والإبتعاد عن موجة التماثل التي تعم المعمورة وغلبة شكل واحد على المباني، كما هو الحال في مدن الخليج العربي الحديثة ، التي تحاكي نيويورك مثلاً، لكنها لاتملك تقاليد مجتمع نيويورك وعالمه المختلف وتفتقد حركتها ونشاطها.
2 عنصر الإبداع مهم في جعل لندن مدينة مختلفة عن غيرها من المدن ومساهمة كذلك في رفد الثقافة في العالم بما تقدمه من نتاج معرفي .
3 الثقافة والفنون ، هي قيم سامية وجمالية وروحية معاً، توحد ابناء المدن وتقرب المسافات بين المجتمعات المتحضرة وتخلق ارضية مشتركة بين الناس من مختلف التوجهات.
4 الإهتمام بالسياحة ، لتعريف الآخر بمدن البلاد وهي تزيد من ميزانية المدينة المالية وتسهم في تطوير الفنون والصناعات الفنية التقليدية والحديثة، كما تساعد على تشغيل أيدي عاملة اكثر وتخلق علاقات جديدة بين سكان المدينة و سكان مدن اخرى بعيدة و تقرّب المسافات بين المجتمعات المختلفة.
5 - مؤسسات الإبداع تمثل اليوم الأماكن الأكثر اهمية، وقد تقترب من الأماكن الدينية في تاثيرها الروحي على البشر، فزيارتك لمتحف ستجعلك مختلفاً بعد الخروج منه ، عنك وانت تدخله اول مرة . لهذا يتوجب الأهتمام بها وتطويرها وجعلها منارات للإشعاع الفكري والثقافي والروحي داخل المدن.
الثقافة إذن ، و بشديد التركيز والإختصار، هي : طريقة حياة او نظام تام للمعنى، كما يقول رايموند وليمز.
وهناك أكثر من مصدر لثقافة المدن الهامة، مثل :
1 التراث الجمالي للمدينة : فنون وآداب وافكار.
2 التراث الإجتماعي : أنثروبولوجيا الأقوام والشعوب التي عاشت فيها.
3 الثراث الإقتصادي :التطور التقني والعلمي - صناعة زراعة وحرف مختلفة.
فالميزة الهامة في الثقافة التي لا تجدها في أي منتوج بشري آخر، هي ان الثقافة تنمو مع الإستخدام لها ولا تستهلك كبقية المنتجات الأخرى بعد الإستعمال، وهذا يعطيها فرصاً اكبر من أي إقتصاد آخر للنمو والإتساع والتأثير. وقد قدر إنتاج الصناعات الإبداعية في العالم في حدود عام 2000. بحدود 2.2 ترليون دولار امريكي، أي ما يعادل 75بالمئة من الإنتاج القومي العالمي .
كتبت هذه المادة بعد إطلاعي على بعض المعلومات النافعة عن مدينة لندن كمدينة للثقافة، وهي ليست للمقارنة بين بغداد ولندن، لأن هذا ظلم وإجحاف بحق المدينتين والقائمين عليها ، ولكن للإستفادة منها في حالة التفكير من جعل احدى مدن العراق الأخرى مدينة للثقافة العربية او الإسلامية او العالمية. فمن يدري ، ربما تنفع من يريد القيام بمثل هذه الفعالية مستقبلاً والمصلحة العامة من وراء القصد.