ادب وفن

الأب الكرملي.. ظاهرة أدبية مميزة / نبيل عبد الأمير الربيعي

يعد تأريخ الشخصيات الثقافية والأدبية البارزة , تأريخاً مهماَ جداَ في تأريخ أي شعب كان, لأن هؤلاء ينتمون عادةَ إلى النخبة التي تؤدي دوراً مهماً ومتميزاً في تطوير المجتمع في شتى الميادين, لذا فإن قيام أي دراسة لشخصيات اجتماعية واقتصادية وثقافية في العراق الحديث والمعاصر بدأ يأخذ ما يستحق من الاهتمام من لدن الباحثين, يعد الأب انستاس ماري الكرملي واحداَ من تلك الشخصيات التي قومها عدد من المفكرين والمعجبين اللغويين والمؤرخين والأدباء البارزين في مناسبات شتى تقويماَ رفيعاَ , على إنه واحد من ألمع وجوه نهضتنا الحديثة.
ولد الأب انستاس الكرملي في بغداد 5 آب 1866 لعائلة من الرهبان الكرمليين وهي يمنية الأصل ,وقد سمي الأب الكرملي بأربعة أسماء هي (بطرس, بولص,عبد الأحد, ماري) , وقد ذكر ذلك الأب نفسه في كتاباته وفي مصادر ترجمته, لقب الكرملي نسبة إلى طائفة تنتسب إلى جبل الكرمل في لبنان وبهذا اشتهر , فقد ترعرع الكرملي في بغداد ومات فيها,كما لقب الراحل بـ (الألياوي) نسبة إلى النبي إليا.
عرف عن والد الأب انستاس انه مترجم لأحد الأمراء من أسرة (بونابرت) رافقه في رحلة استمرت سنتين زار خلالها (مصر, سوريا, الأناضول, العراق, بلاد فارس), وفي العراق تعرف على الفتاة (مريم), فلما انتهت مهمته عاد إلى العراق عام 1850 وتزوجها, لذلك استقر في العراق فرزق منها خمسة أولاد وأربع بنات.
يؤكد الكرملي في رسالة بعثها إلى وزير خارجية اليمن إذ قال" أما سبب حبي لليمن واليمانيين فهو إن أصلنا من مراد وقد لجأ جدنا الأكبر في صدر الإسلام إلى جبل لبنان فأقام فيه لإ نسل وتناسل أولاده, إن مراد هي قبيلة عربية نزحت من جنوب الجزيرة واشتهرت هذه القبيلة ببيت آل عواد ".
يعتز الكرملي بعربيته وقد أكد ذلك بمقال للرد على من يحاول تشويه موقفه من العرب " كيف يسعني أن أهجو العرب وأنا بهم أفتخر, أو أندد بهم وأنا من موائدهم التقط, ومن روح علومهم استثمر , وإليهم انتسب, فليس من ينكر على العرب فضلهم إلا لفظته الإنسانية, وعدم حقيقته البشرية".
عندما أكمل الكرملي المرحلة الابتدائية ألحق بمدرسة الأنفاق الكاثوليكي ببغداد وتخرج منها عام 1882, فعين مدرساً للغة العربية في مدارس الآباء الكرمليين، ثم في مدرسة الراهبات حيث كان عمره آنذاك ستة عشر عاماَ , عام 1889 غادر بغداد إلى بيروت للتدريس والدراسة "فدرّس اللغة العربية وآدابها في المدرسة الانكليزية اليسوعية وتعلم اللاتينية واليونانية وأتم دراسة الآداب الفرنسية, ثم رحل إلى شيفرمون من كبريات المدن البلجيكية فبدأ حياة الرهبنة في دير الآباء الكرمليين حيث أمضى سنتين في الدراسة وفي 22 حزيران عام1889 نذر نذور الرهبانية وسمي بالراهب (أنستاس ماري الألياوي , ثم غادر إلى مدينة لالميتو قرب مدينة نيس في فرنسا فدرس فيها الفلسفة وتعلم وانجز الدراسة اللاهوتية والفقهية وتفسير الكتاب المقدس والتاريخ الكنسي , حيث أمضى في الدراسة ست سنوات فكان أول عراقي ينضم إلى الرهبنة الكرملية, ثم غادر إلى اسبانيا ثم عاد إلى بغداد في تشرين الأول من عام 1894 فانصرف إلى البحث والدراسة والتأليف فكان يتقن عدة لغات منها( الفرنسية, اللاتينية,اليونانية, العربية, السريالية, العبرية, الفارسية, التركية, الانكليزية, الاسبانية, الايطالية, الأرمنية والصابئية".
يتصف الأب الكرملي بالزهد وطيبة القلب و المعشر متسماَ بأخلاق العلماء في البحث دؤوباَ على المطالعة والتأليف وقد ذكر نجدت فتحي صفوت ما نصه" إنه وصله في أحد الأيام صك على أحد المصارف, وفيه عبارة: ادفعوا لأمر قدره....او لحامله ثلاثون ديناراَ الخ, فما كان منه إلا أن أخرج قلمه من جيب ردائه بغير شعور منه ووضع تحت العدد (المدفوع) خطاَ أزرق , ولما أخذ الصك إلى البنك تردد الموظف في صرف صك تغطية مثل هذه الخطوط الزرقاء , وسأله عن المقصود منها". بهذا يصف الكرملي بتشدده وتعصبه للغة العربية حتى بلغ به القول: إن لسان العرب فوق كل لسان, ولا تدانيها لسان آخر من ألسنة العالم مجالاً ولا تركيباً ولا أصولاَ ولا ....".
يعتبر الأب الكرملي احد الرجالات الذين صنعوا لنا ثقافتنا ووعينا الثقافي , في وقت كان المواطن العراقي يحتاج لروح الحرية والاستقلال والإصلاح الذاتي , مع العلم انه كان"دؤوباَ على المطالعة والتأليف لا يصرفه عن ذلك إلا المرض أو السفر , ولم يكن عمله اليومي في ميدان البحث والتحقيق ليصل لعشر ساعات في اليوم على مدار السنة, كان الكرملي يمتلك مكتبة خاصة يقول كوركيس عواد " من أعظم خزائن العراق الخاصة وأوسعها نطاقاَ, حوت أمهات المصادر العربية القديمة في اللغة والأدب والتاريخ والبلدان والتراجم وغيرها من الموضوعات.
اهتم الأب الكرملي بالقصة والحكاية فسجلها واعتنى بالأمثال العامية, يعتبر من رواد الصحافة عند العراقيين, كما كتب المقال حيث أحصى الباحث كوركيس عواد هذه المقالات فوجدها (تبلغ أكثر من ألف مقالة) عدد صفحاتها زهاء خمسة آلاف صفحة".
الكرملي يعتبر موسوعة عالمية علمية قائمة بذاتها , ويعتبر من رواد مشعل الحضارة الحديثة الذي أنار الطريق بما أفاد الثقافة ونهض باللغة العربية بسبب تدهورها في ظل الدولة العثمانية , فقد انتج خلال حياته " آلاف الدراسات والكتب والأبحاث ومئات المقالات التي نشرها في الصحف والمجلات العربية والأوربية والتأريخ على مدى أكثر من ستين عاماَ", لهذه الأعمال القيمة فقد أهدته الحكومة البريطانية وسام الخدمة الامبراطوري مع لقب (M.BE) مع العلم انه كان من المؤسسين الأوائل للمجمع العلمي العراقي وعضواَ في مجمع اللغة العربية في القاهرة منذ تأسيسه عام 1932 وعضواً في لجنة توحيد المصطلحات العربية في العلوم الطبية عام1940 و عضوا لجنة التأليف والنشر العراقية التي ألفتها وزارة المعارف عام1945, فقد وصفته جريدة العرب لجهوده اللغوية بأنه" أفنى عمره في خدمة لغة الضاد, باحثاَ منقباَ في أصول الألفاظ", فقد شاد بمنزلته الكثير من الأعلام المعاصرين أمثال(د.مصطفى جواد,بشر فارس, عباس العزاوي, أحمد الشايب, ابراهيم السامرائي والمستشرق جب) حيث أشادوا بجهود الكرملي في مجال البحث وسحر بيانه اللغوي وقوة برهانه فهو عالم مجيد وذو عقلية فذة حتى نهاية حياته. مع العلم انه رجل كنيسة متعلم بين مذهبه العقائدي وبين الإحساس الجمالي والكلاسيكية في جميع دراساته وأبحاثه, فقد انقطع كلياَ لغرض البحث والتأليف لإخلاصه لعلوم العربية والقدرة الخلاقة والفذة في الامتداد عبر مساحة كبيرة من الدراسات , فقد شملت معظم فروع المعرفة , فضلاَ عن صفة أبحاثه المتميزة عن المكون العراقي من الأكراد والسريان والآيزيديين والصابئة المندائية , كانت دراسته الجغرافية بارعة في وقتها وتفاصيلها . من هذا يعد الأب الكرملي ظاهرة أدبية تاريخية مميزة بين قادة النهضة العربية الحديثة.