ادب وفن

قراءة لقصيدة «الشيوعي جسر الوادم»* / عبد العزيز لازم

ثابرالشاعرعلي العضب منذ شبابه على صنع القول الشعري الشعبي المتسم بالسلاسة التي يتقبلها بسطاء الناس الطيبين الذين يمكن ان يضعوا كل ثقتهم بالحزب لما يحمله من احلام تتطابق مع احلامهم باعتبارهم الاغلبية المسحوقة .
لذلك اتجه الشاعر منذ سبعينيات القرن الماضي نحو شعر الاوبريت فبرع في انتاج الاردودات المدعمة بالصور التي تحقق الاتفاق بين الناس من مختلف المستويات الفكرية والطبقية، لكنها تحقق تمركزا خاصا وباليسر الكافي في وجدان الكادحين الذين يمثلهم الشيوعيون ويسعون الى تحقيق العدالة الاجتماعية لصالحهم. وقد إتجه الشاعر نحو خلق الحكاية الشعبية التي يحتاجها جنس الاوبريت لتحقيق الاستيعاب الامثل لفكر الحزب وبرامجه من قبل الأغلبية الساحقة والفقراء بخاصة. لذلك استمد الشاعر موسيقاه من اوساط الشعب مدعمة بالفرح والتفاؤل بان ثمة ضوء سيطل على الربوع ليحقق السعادة المجسدة في شعار الحزب الرئيسي. وكان هو مبدع أمثولة الجسر الذي يعبر عليه الوادم " عموم الناس " لوصف الشيوعي المناضل الذي كرس كل حياته لقيادة هؤلاء. وقد تكررت تلك الامثولة في اعمال اخرى للشاعر ، لان الجسر يعني العبور الى حياة جديدة ، ولان الناس إذ يعبرون فإنما يغادرون حياة قهرٍ يرفضونها الى حياة جديدة خالية من القهر وقلة الاعتبار . وعندما يكون الشيوعي جسرا للمظلومين فإن ذلك يعني إنه يوضح طريق الخلاص للناس من وضع بائس ويدلهم على طريق العبور نحو حياة خالية من الاستغلال وأنواع الضغط الأخرى.
إن علي العضب يتجدد هنا في قصيدة " الشيوعي جسر للوادم يعبرون " لأنه يلقي علينا صورا جديدة من سمات الظرف الجديد الذي يعيشه الناس والحزب. فهو يستهل قصيدته بوصف الطغاة الجدد الذين يوجهون سهام طغيانهم نحو عموم الشعب مراعيا حقيقة ان الصورة الجديدة ماهي الا امتداد لخطط الطغاة الذين جثموا على صدر الشعب ولكن باساليب أخرى : ( تاهت والرعيع يسابك الفرسان / المزامط جذب وبلا بخت يحجون / القاتل والحرامي .. الأمي والدجال / صاروا بالوطن من حقهم يرشحون ..)
يتضمن هذا الجزء من القصيدة كشفا ثوريا اوليا للظروف الصعبة التي رافقت تأسيس حزب الشيوعيين مترافقا بكشف تاريخي آخر لطبيعة التكوين الاجتماعي العراقي فيعرض قائمة بأسماء القبائل العراقية التي جاء منها المناضلون الذين قدموا جهودهم الثورية واجترحوا المواجهات الصعبة والخطرة ضد السلطات الغاشمة التي يمثل الحزب ومبادؤه خطرا على مصالحها.
يحقق الشاعر وبنجاح واضح الانسجام الكامل بين كلمة الحق التي يمثلها الحزب وبين تلك القبائل التي تحتم تقاليدها العامة احترام كلمة الحق والعدالة من اي مصدر جاءت. وبذلك يزيح الشاعر ما عرف بالتقاليد البالية التي اتبعتها تلك القبائل عن نظيرتها التقاليد المشرقة التي رافقت حياتها ايضا، وكأنه يحقق غربلة للتراكمات التي جمعتها سنين التخلف ليفرز التطلعات الانسانية لديها عن تلك التي تجسدت في نوازع الأنانية واساليب تحقيق السطوة المعروفة لدى القبائل البدوية. هنا يدخل الحزب ومبادءه حسب القصيدة عاملا هاما في مساعدة تلك التجمعات السكانية العريقة على التخلص مما علق بسلوكها من ممارسات مرفوضة قائمة على الاستهانة بحقوق الانسان، وذلك من خلال انخراط بعض ابنائها بصفوف المناضلين من اجل مصالح عموم الشعب العراقي والوطن العراقي وليس من اجل المصالح الانانية للقبيلة : "إسال والشعب بيده سجل تاريخ / من اسس فهد / للحاضر تعرفون /اسجون / ومشانق/ موت / والتعذيب /بصولات النضال ../ الناس يتغنون / انتم آل زيرج بيرغ اعله الراس/ صويحب وي حرز / والوثبة (لبكانون) / عطبي والحلاف والعيسى والعبود /...." تمضي القصيدة في سرد اسماء القبائل في كتلة لونية معززة بالغناء الاحتفالي ، وكأن تلك القبائل ماضية في عرس ينقلها الى حياة مزدهرة ذات عبق متصاعد مودعة ظروفها القاسية الى غير رجعة . وقد يتخذ هذا العرس اسلوب الاوبريت اعتمادا على الايقاع الجماعي للكتل البشرية وهذه الثيمة بالذات هي التي يستند عليها الحزب الجديد في برامجه الكفاحية المميزة ومن أجلها يصير " جسرا للوادم يعبرون ".
يتصاعد الجرد الثوري في الجزء الثاني المعنون " الحزب الأول "مع عناية خاصة بالتسلسل التاريخي لاحداث الحزب ونضوج مواجهاته بمشاركة المزيد من مكونات الشعب . لذلك ينتقل الشاعر من القبائل الاولى الى المكونات الاثنية و العرقية للمجتمع العراقي : "من كل الطوايف بالحزب موجود / سالم يا حزبنا ..والوطن مامون / كردي وي مسيحي ..صابئي وتلكيف / عربي وتركماني..بخط فهد يمشون /بولص وي علي . ومحيسن وهوّار / ... ثم :" يا محلى الرفاق عيونهم دنية ومسكن / للفقير اطفالنا يسكنون / أميرة مكبعة وتفتر بالدرابين / توزع بالجريدة .../ بحايط يكتبون " ... الاسطر الأخيرة تتضمن اشارة لكلمات اغنية قديمة قدمها الشاعر ضمن اوبريت سابق ، وكانه بذلك يقدم جرده الخاص لأعماله الفنية والادبية التي رافقت مراحل حديثة من نضال الحزب . وقد انتشرت تلك الاغنية بعنوان " مكبعة " في جميع انحاء العالم حيثما وجد المناضلون الشيوعيون العراقيون الهاربون من جحيم الدكتاتورية فتحولت الى ما يشبه النشيد الطبقي لمناضلي الحزب في الخارج وفي الداخل أيضا.
كل هذه الجرود تاخذ اجيجها الباهر مما يجري في الظروف الراهنة . فلا ينسى الشاعر ان ما جرى في الماضي من مواجهات نضالية انما يحضر اليوم بظروف جديدة مع روح جديدة في تصاعدها يمتلكها الشيوعيون وفق برنامج جديد. لذلك فالقصيدة توصي صاحب الصوت الانتخابي وهو ذاته صاحب القضية الذي لم يسعفه وعيه الراهن في ادراك طبيعة القوى التي تحاول الاستحواذ غلى مقدراته : " لا تنطي الامانة ../ الصوت فكر بيه / دم هاي الضحاية / بركبتك مرهون " مذكرا الناخبين : " لكل واحد سكن مكتوب .. بالدستور / و ببيوت التنك /نص شعبي يسكنون / اطفال الشوارع .. تملي الدرابين " ويعود الى مضمون اللازمة التذكيرية أيضا.
في موضع آخر للجواب على صورة أخرى ملقيا المزيد من الضوء على طبيعة ما يجري : ( لو كلمن تحزم .. صار طير ..وطار / ماباعت الفاخت .. طوكها لمجنون / القاتل والحرامي / الأمي والدجال / صاروا بالوطن كلهم .. سوة يرشحون / تاهت والرعيع يسابك الفرسان / المزامط جذب وبلا بخت يمشون ..)
ــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في العدد 154 السنة 78 الخميس 28/ آذار 2013