ادب وفن

مهدي المخزومي في فردوسه المفقود العراق / ستار الحسيني

من أين أبدا بالكتابة عن عالم جليل لا حصر لجهوده وآثاره النحوية واللغوية؟، من أين أبدا بأستاذ كان يعاني ويتألم في نهايات عمره, إذ آلمتني زيارتي الأخيرة له قبيل أن يودعنا في تسعينيات القرن الماضي ..... وهو من القلة القليلة الباقية آنذاك والتي كانت تنير دروب الباحثين في مسالك العلم , وفي كل لقاء كنت التقيه أعرب له عن خجلي من نسيانه من غير ذنب, فهذا الشيخ العالم الذي لا يستغني عنه باحث في تخصصه أو الاستعانة بآثاره في النحو كان الأجدى بالمتخصصين في ميدان التعليم ان يذكروه ونترك الأمر إلى وقت يحين به ذكر العلماء، فذات مساء ذهبت بمعية من الأقارب والأصدقاء من محبي الدكتور مهدي المخزومي لزيارته في بيته الواقع في حي الداوودي في ضاحية المنصور بعد ان بلغنا تدهور واعتلال صحته ومراجعته لعيادات اطباء قد لا يعرفون قدره , استقبلنا أبو مهند بحفاوة, وهدوء نفسي ودماثة أستاذ مرب لأجيال تعترف لأجيال وأجيال بفضله , وهو لا يقوى على السير بمفرد قدميه , الا على عكاز وهذا العكاز تآكل مسنده في الأرض فبات يرتجف بين يديه وبالكاد يثبته ليخطو باتجاه ضيوفه, استقبلنا وهو يفيض حبا بمقدمنا، فبيننا طلاب علم نهلوا من مدارس علمه وجامعاتها وهم الآن أساتذة ودكاترة في الجامعات ومنهم من كان على توافق أو اختلاف فكري معه أو ضده بيد أن ظروف تلك السنين كانت تجمعهم برؤيا واحدة.
في هذه الجلسة كنت ارنو ونحن في ضيافة جل علماء النحو وفقه اللغة عبر كتب ومجلدات كان يسند بعضها الآخر وقد تراصفت على حائط ضاق ولم يضق بها هذه الكتب كان أستاذنا قد التهم صفحاتها بوله شديد أيام دراسته للماجستير في القاهرة فدرس الخليل بن احمد الفراهيدي وسيبويه الذي انتهى الى انه راس مدرسة نحوية سميت فيما بعد بمدرسة البصرة ثم ما لبث أن واصل دراسته للدكتوراه فدخل الكوفة من أوسع أبوابها وبحث في علي بن حمزة الكسائي الذي رآه يرسم حدود مدرسة اخرى كان لها أنصار وتلاميذ وهو أيضا رأس مدرسة نحوية سميت فيما بعد بمدرسة الكوفة هذه الكوفة التي تبعد أميالا عن ضريح الإمام علي بن ابي طالب وبظاهرها منازل النعمان بن المنذر والحيرة والخورنق والسدير والغريان وما هنالك من متنزهات وأديرة كثيرة والتي حلم بها معن بن زائدة الشيباني اذ ضمت تلك البقعة من الكوفة دير هند فقال فيها

الا ليت شعري هل ابيتن ليلة
لدى دير هند والحبيب قريب
فنقضي لبانات ونلقى احبة
ويورق غصن للسرور رطيب

وغير هذا الدير فهنالك دير الجماجم ودير اللج ودير الحب واديرة كثيرة .
ونجد رملة حمراء تخالطها حصاء سميت بسببها الكوفة حسبما قال ياقوت الحموي في معجمه للبلدان , اظنني ابتعدت كثيرا عن هذه الجلسة الجميلة ورحت بعيدا , لكني كنت اقرأ عناوين هذه المجلدات واشعر برحلة العلم التي ركبها أستاذنا المخزومي وأبدع فيها أيما إبداع عبر مؤلفات وآثار غزيرة , بل قدم للعالم العربي أثرا نفيسا من آثار أستاذ عالم فاضل أنجبته مدينة النجف في العراق كما قال عنه أستاذه المشرف على رسالته للدكتوراه الأستاذ مصطفى السقا كما أنجبت شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري ومصطفى جمال الدين وآخرين بعقول منفتحة على العلم والحياة، وفي هذه الجلسة كان استاذنا المخزومي يتابع ويسمع ويجيب ويسال على سائله بدقة وهدوء متناهيين ثم سالت بجانبي صديقي الدكتور العالم ( ع. ع. ) الذي أقصي من عمادة إحدى كليات الآداب في السنين الأخيرة , سألته عن أستاذة وهل اثقل الزمن ذاكرته وفكره وعلمه وهو يصل للثمانين من عمره فاخبرني ان كل شيء في جسد هذا العالم معرض للتلف والاعتلال لا سمح الله بذلك  الا فكره الثاقب وذاكرته المتوقدة بالعلم وعقليته اللامعة دائما .
حدثنا الأستاذ المخزومي عن التعب الذي بدا يظهر على جسده نتيجة ثقل السنين الأخيرة عليه  طبعا هذه الزيارة كانت في نهاية عام 1992  وعن الفطريات التي احدث خطأ تشخيصها قلقا والما بدا يخف بعد أخذه جرعات من الدواء المركز ثم ذكر سلوته التي تبعده عن النكد المستمر وغير المستمر وغابته العذراء التي يعيش فيها او التي داسها عبر نظره وفكره هذه الغابة المشرئبة اليه والتي افنى زهرة شبابه فيها هي المكتبة فالف وقرأ وكتب ومازال يقرأ وقتها (والقراءة ملاذي ) لا غير كما يقول . إن أستاذا جامعيا وباحثا لغويا له من الدقة والأنات وطول التتبع وأصالة الفكر وغزارة المنهج ما يجعلنا نفخر به وننحني إجلالا لمكانته العلمية الرفيعة أقول هذا وقد تعالى غبار النسيان على اسوار بيته ومكتبته ولم يذكره الا محبوه وبعض ممن يقدر العلم والعلماء وأهل العلم قليلون وهو في كل هذا وبروحه في الفردوس كان ومازال زاهدا .