ادب وفن

الدكتور مهدي المخزومي رائد المدرسة العراقية لتيسير النحو العربي / عبد القادر البراك

كنت أود أن أكون آخر من يقول كلمة في إظهار مدى فاجعة اللغة العربية بارتحال احد كبار أساتذتها الأفذاذ الدكتور مهدي المخزومي إلى عالم البقاء.

لأني وان كنت من أقدم أصدقائه - على البعد- ومن القلة التي تقدر القيمة الكبرى لكل ما أسداه للغة الضاد، كنت أود أن يسبقني إلى أداء هذا الواجب من أترابه وزملائه في كافة مراحل الدراسة والتدريس كمن كان يقف منهم كتفا إلى كتف في مضمار البحث اللغوي وفي التنقيب عن جوانب العبقرية والإبداع في الأعلام القلائل الذين لم يفرغ الباحثون بعد من تعداد ما أسدوه لهذه اللغة من أمثال (سيبويه) و(الخليل الفراهيدي) و(الفراء) وغيرهم لأنهم أجدر واقدر من غيرهم في تعريف الأجيال الطالعة بمكان فقيدنا (المخزومي) بينهم!
ولعل من بين ما أخرني عن قول كلمة الوداع في الصديق الكبير في شخصه وعلمه، وفي كل ما نهد إليه من قول وعمل في مجال تخصصه خشيتي من السأم الذي قد يعتور نفوس البعض حين يواجهون لبعض ما أرسله من كلمات عن مثل هذه المناسبات وما اخذ يعتادني من ملل يعقب كل ما اعتدت تأديته من واجب الوفاء لأمثال فقيد كالدكتور المخزومي، حتى ليصبح في قول (حافظ إبراهيم) في مثل هذا الموقف.
إني مللت وقوفي كل آونة
ابكي وأنظم أشجانا بأشجان
إذا تصفحت ديواني لتقرأني
وجدت شعر المراثي نصف ديواني
ولكن الشعور بالواجب صرفني عن أن أتردد في كتابة بعض ما أثارته في الفاجعة بوفاة الدكتور المخزومي، الرجل الذي تهيأ لي التعرف عليه قبل انتقاله من دور الدراسة التقليدية (الجادة) القديمة في أول الأربعينيات إلى دور الدراسة العصرية الجديدة في (دار العلوم) في القاهرة، وقد كان في الدورين هو في الحياء والخِفر والتواضع ولين الجانب حتى لقد كانت تحجب هذه الفضائل عن الرجل فضله وعلمه وتقصيه لكل ما حفلت به كتب الدرس من (متون) و(حواشي) (تعليقات) وعمق استكناهه للنصوص الغامضة وقدرته على جلائها وإيضاحها بالشكل الذي كان يستنزل الإعجاب والإكبار من البعيدين قبل القريبين.
ولان لم تنل هذه المؤهلات من معاصري المخزومي في وطنه ما هي أهل له فقد أنالته ما هو جدير به من إعجاب وتقدير الأساتذة وتقدير الأساتذة الكبار الذين تلقى الدرس عنهم وسرعان ما استطاع ان ينال من تقديرهم ما رفعه إلى المصاف الذي كانوا يحتلونه.
ذلك ان (المخزومي) قد اظهر لأساتذة دار العلوم بأنه الرائد العصري للمدرسة العراقية في تيسير النحو وان ما أعده من دراسات عن مدارس الكوفة والبصرة وأعلامها وعن الدرس النحوي وأعلامه، قد أحله محل (ابن القرطبي)، احد الأوائل الذين عملوا على تيسير النحو العربي وعلى هديه او على سراه أتم الرحلة الدكتور (إبراهيم مصطفى) في كتابه "المعجزة يتيسر النحو" متمما لكتاب "الرد على النحاة" الذي سبقه إليه (القرطبي) والذي جاء (المخزومي) ليكون ثالث اثنين كان لهما اكبر السعي في تنقية الدرس النحوي مما لحقته من زيادات زادت من غموض الواضح قبل ان توضح ما هو غامض من قواعد النحو حتى لقد برم الأستاذ (احمد حسن الزيات) مما الحق النحاة بعلم النحو من زيادات فثار ثورته الشهيرة في مقالة (آفة هذه اللغة النحو).
لقد فقدت اللغة العربية ودرسها النحوي في العصر الحديث والدراسات المعتمدة في الدكتور مهدي المخزومي عالما عاملا، لم يأخذ الزهو بما أحرز من شهادات وتقديرات. ولم يقعده البطر بما نالته آثاره من الإكبار والإجلال عن مواصلة الدرس، ولم تفارقه روح (الطلب) وهو على كرسي الاستاذية.
ولقد أكسبته سيرته الحميدة في الدراسة والإدارة إعجاب من تلقوا عنه الدرس، او زاولوا في التدريس او نهلوا مما قدمه لهم من آثار التقدير الخالص والاحترام الكامل فلاغرو ان جارت الأوساط العلمية والادبية بالشكوى لما كان يعانيه من أوصاب المرض، ومتاعب الحياة ولاغرو ان استشعرت هذه الأوساط وغيرها معظم الخسارة في فقده، أستاذا، ومؤلفا، ورائدا لم يقصر في أداء دوره كرائد من رواد الدراسات الجادة لجعل النحو العربي علما تألفه الأجيال الطالعة ولإبراز دور المدرسة العراقية القديمة في الاضطلاع بواجب التيسير الذي كان ولا يزال في موضعه من الاهتمام الذي وضعه فيه الدكتور مهدي المخزومي اسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والغفران، ويسر للأجيال الطالعة الانتفاع بما أعطاه لها من مؤلفاته الجديرة بإعادة الطبع ومخطوطاته التي لا يقل الانتفاع المرجو منها بأقل مما أفادته آثاره الجليلة المطبوعة، وهذا اقل ما يجزي الفقيد كفاء ما أسداه من أياد للغة العربية.