ادب وفن

فؤاد سالم .. رحلة الفن والمنفى/ رحمن خضير عباس

لم يكن من المنتظر ان يعود العاشق الى وطنه محمولا على الأكتاف . لقد ملّ الأنتظارعلى أرصفة الغربة ، وملّ من حرقة النأي وهو يقف ( على درب اليمرون ..) باكيا وطنا ، متوسلا اللقاء بالأحبة والأصدقاء . ولكن الغربة التي اصبحت قدره ، لم تفارقه حتى النفس الأخير الذي أفاضه في احدى مستشفيات دمشق.
كان فليح حسن بريج شابا وسيما ، ذا مواهب متعددة ، فهو شاعر شعبي وهو فنان يمتلك صوتا متميزا، استطاع ان يلج المعترك الفني في مدينته البصرة . حيث واحة الفن انذاك ، اعني وادي الفنون ، وحيث تمخضت جهود هذا النادي ، عن انجاز اوبريت (بيادر الخير) ثم بعده بعام واحد اوبريت( المطرقة ). كان ذالك في بداية سبعينات القرن الماضي و لفناننا الراحل دور كبير في اداء الأغاني والأهازيج يشاركه كوكبة من الفنانين ومنهم الفنانة المبدعة ذات الصوت الأمومي شوقية ، وقد اصبحت تلك الأغاني فاتحة طريق لأغنية عراقية ملتزمة ذات مضامين إنسانية ، حيث ترجمت افراح المحرومين واتراحهم، واستنبطت من الواقع اليومي للكادحين طعم الرغيف المغموس برائحة التعب ، ولون الحلم ونكهة التراب . كثيرون ساهموا في هذين العملين اللذين تركا صدى فنيا في عموم العراق ،في ظل مناخ سياسي يفوح بالمتغيرات ( قصي البصري ، طالب القرة غلي' علي العضب ،فؤاد سالم ، شوقية ..وآخرون )
وكانت البصرة ثغرا يتسع للعابرين ، يختصر الوطن . شط هائل يلامس الحدود المحفوفة بالنخيل ، ثم ينأى بعيدا حتى يعانق الخليج ، بواخرتجارية تتسكع مابين التنومة وبين الكورنيش ، وزوارق خشبية تعبث بالمياه الدافئة .ثم تنزلق على نهر العشارالذي ناشده فقيدنا باغنيته المعروفة ( يابو بلم عشاري ..) بينما نصب السياب يلتقط حبيبات ندى الهواء الشرقي الثقيل ليعلن " الشمس أجمل في بلادي من سواها .." الدجة التي تلامس النهر العشاري ، تقدم شايا وجريدة في العصاري المضمخة بالرطوبة ، حيث سوق الهنود يغصّ بالمتسكعين ،والجسر المؤدي الى اسواق حنا الشيخ يستمريء دعابات تومان الذي يعزف الناي بطريقة مبتكرة . في هذه الأجواء ، نشا فؤاد الشاب وتشرب بقيم الحزب الذي سلك دروب النضال والآيثار . فقد كان مناضلا وفنانا ، بهذه العقلية غادر البصرة ليقدم نفسه الى بغداد . من خلال البرنامج التلفزيوني الذي يبحث عن الوجوه الغنائية الجديدة والمسمى ( وجه لوجه ) . أطل على الجمهور شاب وسيم ، ممتليء بالحيوية ، ذو خامة صوتية متميزة ، وباسم فني ملائم من اقتراح عازف القانون سالم حسين . ومن تلك اللحظة عرفه الجمهور كفؤاد سالم .
في بغداد استطاع ان يشق طريقه الفني بنجاح حيث كان يوائم في غنائه مابين النغمات الريفية الشجية ومابين الطرب البغدادي ، مما جعل اغانيه قريبة من قلوب العراقيين . يرددها العشاق ويترنم بها العمال والطلبة والجنود والكسبة ،حتى اصبح نجما في سماء الأغنية العراقية التي كانت تزدان بفنانين رائعين من امثال فاضل عواد وياس خضر وسعدون جابر ورياض احمد وحسين نعمة وآخرون ، وكأنه يعيد الى الذاكرة جمالية الطرب الأصيل لفقيد الأغنية العراقية ناظم الغزالي .
لم يكتف فؤاد سالم بدخول الإذاعة ، بل حاول ان يدخل باب الفن من ابوابه الأكاديمية ، فدخل معهد الفنون الجميلة . ولكنه لم يستطع إكمال مشواره فيه فقد فصل من المعهد ، لأسباب سياسية وتعرض للمضايقة والتنكيل والضرب من قبل أجهزة الأمن ، في محاولة لترويضه وإدخاله ضمن جوقة المداحين للنظام البعثي الذي جعل من الغناء وسيلة لتمجيد القائد. وجعل الفن في خدمة سياساته الشوفينية ، ولكن إصرار فؤاد سالم على رفض مسخ شخصيته جعله يقف موقفا مبدئيا في رفض عروضهم، فمنعوه من الغناء ، وهددوه بالقتل ، فلم يكن ثمة مجال امام فؤاد سالم سوى الهرب من قبضة النظام ، فكانت رحلتة الأبدية المؤلمة ، في المدن الغريبة ، بينما كانت اغانيه تضيء له عتمة المنفى .
اليمن كانت محطته الأولى ،حيث وجد الكثير من العراقيين الهاربين من بطش السلطة الحاكمة ، كما كان لليمن موقف مشرف في استيعاب الهمّ العراقي . مكث في الكويت فترة من الزمن 'واستطاع ان يكتب ويلحن بعض الأغاني متأثرا باجواء المجتمع الكويتي ومن اشهر أغانيه ( مشكورة ) لكنه آثر أنْ يستقر في الشام ، ليجد فيها وطنا بديلا بينما كان يعاني من صعوبة العيش ، معتمدا على ماتدر عليه اعماله الفنية والشعرية ، في الوقت الذي كان فيه نظام صدام يغدق بالغالي والنفيس على المطربين الذين يمدحون القائد ويمجدون ممارساته . ولكن فؤاد الفنان الملتزم ، ارتضى شظف المنافي ،على نعمة الدكتاتورية التي احالت المطربين الى اجواق ، تسبّحُ بإسم القائد . رفض فؤاد الفنان والإنسان كل ذالك ، وبقي يعاني من الحنين الى الوطن والأهل والأحبة، . لذالك جاءت أغانيه زاخرة بهموم الوطن وبروح الإنتماء اليه .
ومن اغنيته الأولى ( سوار الذهب ) حتى آخر اغانيه مرورا بمحلاها العيون ومشكورة وردتك تمر ضيف وانا ياطير، كان يحمل دفء االكلمة الصادقة والصوت الهاديء الذي يثير البهجة . فلم يلجأ الى الكلمات المبتذلة او الى الأغاني الهابطة ، بل كان يرتقي بالأغنية لتؤدي رسالتها ، لكن الوطن يبقى هاجسه ، يدق ابوابه مستجيرا به من ألم الغربة ( دكيت بابك ياوطن وآنا غريب ببابك ) . وما تلحينه لقصيدة السياب (غريب على الخليج ) الأ تعبير عن اعماق الوجع الذي طالما رافقه في هذه الرحلة اللانهائية . كما جسّد قصيدة يا دجلة الخير غنائيا ، وكأنه يريد ان يرسم لنا حجم ما كان يعانيه الجواهري وهو بعيد عن دجلته وفراته .
حينما قامت الإنتفاضة عام 1991 كان فؤاد يقف مع المنتفضين ، يسند خطواتهم ويباركها وفي اغنيته الحماسية المعبرة (ليش يا عمي حمزة ) والتي إستطاع من خلالها ان يفضح النظام ويبين حتمية سقوطه وسقوط الدكتاتورية . ولكن فشل الإنتفاضة جاء صدمة كبيرة لهذا الفنان الملتزم .
وحينما سقط النظام اخيرا في عام 2003 على يد قوات الغزو الأمريكية . حمل فؤاد سالم حقائب السفر الطويل ، حيث كان يحلم بمعانقة الوطن الى الأبد كما كان يتوهم بعراق ديمقراطي جديد . ولكنه وجد خرابا شاملا ، ووجد حكاما يتقاسمون كعكة الوطن ، ووجد الروح العراقية قد تشظت بين ملل ونحل ومذاهب ، فوجد نفسه غريبا في وطنه لأنه فقد ما كرس جُلّ حياته من أجله ، وجد وطنا يئن من أبنائه ، وحكاما لايختلفون عن أسلافهم ، فعاد الى منفاه الإختياري ، وهو يردد نفس الأغنية التي طالما بكى وابكى مستمعية ( دكيت بابك ياوطن ,وآنا غريب ببابك ) .