ادب وفن

مقهى "أبو جاسم" ملتقى الأدباء والمثقفين / أعد الحوار أحمد الغانم وسالم وريوش الحميد

تعد هذه المقهى واحدة من أشهر مقاهي مدينة الثورة آنذاك.. تقع في قطاع 42 حيث صارت ملتقى لكل الأدباء والمثقفين والرياضيين التقدميين، وتحديدا الشيوعيين الذين كانوا بمثابة معين لا ينضب لنشر الأفكار الماركسية والتقدمية بين الشباب وتوعيتهم وكانوا لسان الحزب وجريدته الناطقة.. فكانت أشبه بمقر غير معلن للحزب.. ويكفي أن روادها كبار الكتاب والشعراء والمثقفين, فكان من روادها الراحل كاظم إسماعيل الكاطع, عريان السيد خلف ، وفالح حسون الدراجي وكريم العراقي وغالي الخزعلي والشهيد كاظم فياض وجمعة الحلفي و?اضل الربيعي ورحيم العراقي وحميد قاسم.. هؤلاء القامات السامقة والذين مازال عطاء الكثير منهم قائم. كانوا رواد مقهى (أبو جاسم)، السيد محمد حميد، والذي زارته طريق الشعب، حيث وجدته أنه لازال جذوة متقدة من الأمل.
وذاكرته مشحونة بعشرات الذكريات عن نضال الحزب ،وعن هذه المقهى التي باتت تؤرق مديرية أمن الثورة / القسم السياسي فأرسلت مخبريها لغرض مراقبة روادها والتحري عنهم وخصوصا (أبو جاسم).. الذي قال أنه رغم ما لاقاه من أذى وحرمان واعتقالات متكررة إلا أنه غير آسف ولا نادم على ما فات بل كان فخورا بتأريخه.. لأنه بقي مخلصا ووفيا لمبادئ ا لحزب ولم يهن ولم يضعف أمام جلادي البعث...
تحدث أبو جاسم حديثا طويلا وشيقا عن تأريخ المقهى وما كان لها من دور تثقيفي لأجيال كثيرة من الشباب، كانت تتوافد بشكل يومي للتعلم من مناضلي الحزب ورواده تبهرهم قدرة الرفاق على الإقناع وسعة أفقهم وثقافتهم الشاسعة وهم يتناولون الأحداث السياسية والثقافية والعلمية على مدار الساعة ، ولينهلوا من تلك الأفكار الثورية ..
وقد حاورته طريق الشعب
 كيف بدأت فكرة المقهى؟
- كان في المدينة طاقات ثقافية وعلمية وفنية كبيرة.. ورغم كثافة ساكنيها لكن لا توجد هناك مجالات لتخريج هذه الطاقات وإن وجدت فكانت عبارة عن مقاهي للهو ولعب الدومينو وهدر الوقت، ولجمع هؤلاء .. تحت مظلة واحدة قررت أن أنشئ هذه المقهى اعتمادا على إمكانياتي الذاتية.. في نهاية الستينيات وبالتحديد 1968حيث كنت خارجا من السجن ومطرودا من الجيش.. قمت بفتح هذه المقهى وكان الهدف منها أن تصبح قاعدة ومنطلقاً لإقامة أوجه عدة من النشاطات الجماهيرية مستغلين بذلك الحراك السياسي والثقافي والرياضي في المدينة وح?جة الناس إلى متنفس لطرح أفكارهم الحرة ...
 كيف كنتم تديرون هذه المقهى؟
- الحقيقة أن المقهى لم يكن لها هدف مادي، وهذه واحدة من عوامل استقطاب الشباب لها ، كانت تعتمد على تبرعات الأصدقاء .. وكانت هناك (طاسة) إناء من الفافون يلقي به من يريد أي مبلغ كان .. والذي لا يريد أن يدفع لا حرج عليه .. و في كثير من الأحيان يأخذون من هذه الطاسة لأن البعض كانوا لا يملكون نقودا ولم تستغل مطلقا هذه المبالغ استغلالا سيئا لأن الكل كان يتعامل بصدق والكل كان يريد أن يديم. بقاء المقهى لأنها أصبحت مصدرا للغذاء الروحي والثقافي للجميع وكانت مصدرا لإلهام البعض من الأدباء والشعراء ?كون لا يوجد فيها تلفزيون ولا دومينو كان هناك شطرنج فقط .كان نظام الخدمة فيها أخدم نفسك بنفسك تفتح الساعة الرابعة عصرا وتغلق الساعة الثانية عشرة ليلا ( ثم ضحك وقال مستطردا ) أنها أول تطبيق للمشاعة ..
 ما هي أوجه النشاطات الأخرى التي قمتم بها ...؟
- لقد تنوع نشاطنا بين تثقيفي وفني ورياضي وترفيهي وتبادل للكتب الثقافية والسياسية حيث كنت أعمل جاهدا على توفير النشرات الداخلية وكراسات مؤتمرات الحزب وكراسات الرفيق الخالد فهد والكتب التي تصدر من دار التقدم والكتب الماركسية .. كنا نتبادلها سرا ..
في الرياضة أنشأنا فريقاً أطلقنا عليه أسم فريق اتحاد الشعب والذي كان يديره الشهيد كاظم فياض و من لاعبيه المتميزين عادل كاطع ورسن بنيان . وأشخاص كثيرون .. أتذكر أننا حينما ذهبنا إلى الحلة للعب مع فريقها .. استقبلنا بحفاوة بالغة من قبل أهل الحلة واذكر أن الهدية التي تم تبادلها مع فريق الحلة قطعة فنية لرأس لينين منحوتة من الجبس.
وفي المجالات الترفيهية كنا نعمل سفرات مختلفة حيث لا يكاد يمر شهر إلا وذهبنا بسفرة كنا ننشد فيها للحزب و نتغنى بالوطن ولم تكن حكرا هذه السفرات على الشيوعيين بل كانت تشمل الأصدقاء والأقارب والمتعاطفين مع الحزب .. وأتذكر أن آخر سفرة لنا كانت إلى سدة الهندية حضرتها الراحلة زكية خليفة
 نتيجة لهذا الحضور الملفت للنظر هل أغلقت المقهى ... ؟
- أغلقت المقهى ثلاث مرات ولفترات قليلة بعد تبليغي من قبل أمن الوحدة بالحضور لغرض معرفة ما ترمي إليه نشاطاتنا والتي كانوا يصفونها بأنها مناوئة للثورة وبعد التهديد والوعيد يطلق سراحي في المرة الأولى تم إغلاقها لمدة يومين ، وفي المرة الثانية لمدة ثلاثة أيام ...ثم أغلقت المقهى نهائيا عام 1974 بعد أخذ تعهد خطي مني بإغلاق المقهى نهائيا وإلا تعرضت للمساءلة القانونية باعتبارها أحد أو كار الشيوعيين
 من تتذكر من رواد هذه المقهى ؟
- لا تصدق إن قلت لك أن كل روادها بالأمس هم من يتبوأ المشهد الثقافي والسياسي اليوم..
 من تتذكر منهم ..؟
- قد يكون الجميع شبابا في ذلك الوقت .. فهناك الكثير من الأسماء التي مازالت راسخة في ذهني .. مثل خلف الشرع الشهيدين ياسر عبود ، شاكر أبو صمد والشهيد خيون شقيق الشاعر فالح حسون الدراجي .. وعبد الحسين فالح أبو شروق وخالد جازع ويعيش في المنفى حاليا وعلي الواسطي وكريم فالح وسيد حنين ووادي السليماوي .. وأنا إذ أستذكر هؤلاء أنما هو جزء من الوفاء الذي يستحقونه وكثيرا ممن لا تسعفني الذاكرة بذكرهم.
 ما قصة الماعز الذي أكل السعف؟
أبو جاسم ضحك طويلا حين تذكر هذه الحادثة وقال:
أنها أشبه بمعجزة.. حيث أجبرت من قبل المختار على وضع سعف وأعلام على واجهة المقهى للاحتفاء بذكرى 7نيسان مولد البعث بعد أن هددني المختار بالإبلاغ عني إذا لم أذعن لأوامرهم .. ولكن الصدفة تشاء أن يأتي قطيع من الماعز ليلتهم سعف النخيل ويحطم النشرة بالكامل ..ويمزق الأعلام .. مما أثار ارتياحا غريبا لدى الجميع وبقيت نكته يتندر بها الجميع.. حينها قال لي الشاعر عريان السيد خلف.. "ارتاحيت سيد"، ها هي الماعز تخلصك مما لم تقدر عليه..
ومن ذكرياتي أن أكثر الذين يـتأخرون في المقهى كانا الصديقين الشاعر جمعة الحلفي والقاص عبدالله صخي ..
ولأبي أخلاص غالي الخزعلي الكاتب و الناقد ذكريات جميلة كانت في خزائن ذاكرته وما أن ذكرناه بها حتى أغمض عينيه وسحب نفسا عميقا من سيجارته ... وقال
ذكريات ، سنين طويلة مرت وكأنها السحاب ، أعدتموني إلى أجمل أيام عمري .. ثم أضاف قائلا .. المقهى كانت شيئا عظيما
كانت مدرسة تعلمنا فيها الكثير ..تعرفنا فيها على أساتذة كبار
كنا ننظم مجاميع من الأصدقاء للذهاب للمسرح حيث تعرض مسرحيات لفرقة المسرح الفني الحديث .. نأجر سيارة باص كبيرة لمشاهدة هذه المسرحيات منها مسرحية بغداد الأزل والشريعة وفي انتظار كودو ..
أما بالنسبة لفريق كرة القدم فقد كان باسم اتحاد الصداقة وهو ليس ما قال السيد اتحاد الشعب إذ كنت أنا كابتن للفريق
وكنا نعتمد في شراء كرات القدم وكذلك الدريسات وأحذية اللعب وشراء الهدايا على دعم (أبو جاسم) المادي لنا وكنت أنا أيضا أساهم بمبلغ من المال في سد النقص المادي للفريق كوني موظفا.. وأذكر إني ساهمت في توزيع كاسيتات شيخ إمام على رواد المقهى والأصدقاء المقربين والتي طبعت على حساب السيد أبو جاسم وكنا ننسخ أشعار مظفر النواب والشاعر الراحل كاظم إسماعيل الكاطع ونوزعها سرا فقد كان سخيا إلى حد كبير .. وكان منهلا للعطاء لا ينضب
وأذكر إني ساهمت في عقد أول لقاء في تلك المقهى بين الشاعر عريان السيد خلف والشاعر حسن المرواني صاحب قصيدة أنا وليلى وقد قال حينها الشاعر عريان ( ميلاد شاعر وكأنه ميلاد لمتنبي .آخر ....) كنا في حركة دائبة لا نكل و لا نمل.
أغلقت المقهى عام 1974 ولكن لقاءاتنا لم تنقطع.. ولخوف السلطات من تنامي هذا الحراك الذي بات يؤرقهم عمدت إلى غلق المقهى واعتقل السيد بتهمة كيدية وبعد خروجه من السجن لم نستسلم لليأس فقد كان بيتهم وبيتنا ملتقانا الجديد...
للحوار بقية مع رواد الملتقى..