ادب وفن

يحيى ق: «أنا أحكي وما أخاف» / فرات أحمد

مناضل ومربي وكاتب مسرحي وصاحب قول جريء، كل هذه الصفات كان يحملها "يحيى ق". وأهل الموصل يذكرون جيداً ويتداولون عبارة "يحيى قاف... يحكي وما يخاف"، هذه العبارة قرأتها بنفسي على جدار مدرستي، المدرسة العدنانية الابتدائية للبنين في الموصل. فمعروف عن "يحيى ق" جرأته وجديته بمهاجمة الأعداء وتحديهم.
أسمه الكامل:" يحيى الشيخ عبد الواحد ال زين العابدين"، من عائلة معروفة في الموصل، ولد عام 1900 م، وقيل إن ولادته قبل هذا التاريخ. جمع يحيى ق بين الأدب والتمثيل والنثر الفني وكان مربيا فاضلا له باع طويل بالتدريس وتخريج وجبات كبيرة جدا من الطلاب المثقفين الواعين، ومناضل جسور له وقفات مشهورة ومشهودة كوقفته مع الملك فيصل الأول في الجامع النوري الكبير في الموصل والتي كان لها صدى واسعاً وبقيت لفترة طويلة تنقل وتروي بكل اعتزاز وإكبار، أن مواقفه هذه لم يكن مكانها في الموصل فقط ولكنها امتدت إلى أماكن أخرى من العراق مما جعل الناس يرددون عبارة (يحيى ق يحكي وما يخاف).
لقد عمل سنيناً طويلة يكافح ويناضل ويربي ويعلم ويمثل ويخطب، وشارك في سنوات حياته المبكرة في النضال الوطني ضد الاستعمار البريطاني للعراق وكان حلقة الوصل بين ثوار الموصل والقائمين بثورة العشرين في بداية القرن الماضي حيث كان يقوم بنقل الرسائل ما بين الموصل والثوار في جنوب العراق. كما انه صاحب مدرسة متفردة وطريقة خاصة في مكافحته الأمية، فالمدارس المسائية ومنها المدارس القحطانية الابتدائية للبنين في الموصل الذي كان مديرها معروفاً بتخريج العديد من المتعلمين على يديه وطريقته مدونة ضمن كتاب مطبوع بعنوان (تعليم الأميين) الذي كان يوزعه مجاناً مع القرطاسية على الراغبين بالتعلم. لقد انقذ الكثير من ظلام الجهل. ونتيجة لمواقفه المشرفة في ثورة العشرين وتصديه الشجاع لكل المواقف المتخاذلة في الحكومات المتعاقبة فقد أوقف وسجن وأبعد عدة مرات ومنع من مزاولة أي نشاط، وحورب بشتى الطرق. لكن هذا لم يثبط من عزيمته أو يثنها بل زادته صلابة وقوة وتصميما فكان يعمل على مساندة الأحزاب الوطنية ماديا ومدها بالمال عن طريق إقامة الحفلات وعرض المسرحيات التي يؤلفها ويشارك في تمثيلها ومن هذه الأحزاب (الحزب الوطني وحزب الاستقلال المؤسسين في الموصل) حيث كان المدير المسؤول لدار التمثيل العربي.
لقد قمت بإلقاء محاضرة عن هذا المناضل الجريء والرائد المسرحي الكبير عام 1973 وذلك بمناسبة يوم المسرح العالمي ونشرت تلك المحاضرة في مجلة الثقافة التي كانت تصدر في بغداد وبنفس العام. كما أني عملت على جمع مسرحياته المفقودة وبعد أن عثرت عليها قمت بتحقيقها ودراستها وقد تم نشر (مسرحيات يحيى... ق) وصدرت عن "دار الشؤون الثقافية بغداد" عام 2006 حيث ستكون بمتناول أيدي الباحثين والدارسين وتفتح أمامهم أفاقا جديدة حول تاريخ المسرح العراقي وأبرز رواده.
كان (يحيى ق) مديرا لمدرسة الغري الأهلية في النجف عام 1340هــ وقد قيل عنه أن أحسن الإخوان الذين اشتغلوا بالخارج هما (ق. وشاكر) ويقصد بالأول يحيى ق والثاني شاكر سليم. وقد تم تشجيعهما وتلطفهما ليزيدا في أعمالهما ويقتدي بهما الغير. عاد يحيى ق من بغداد أوائل عام 1923 حيث اتفق مع بعض الشباب المتعلم على تمثيل رواية لمنفعة المعهد العلمي فاختاروا رواية (مسرحية وفود النعمان على كسرى) وتم تمثيلها وقدمت في مدرسة الطاهرة في الموصل. وكان ليحيى ق الفضل لمد يد المساعدة المالية للأحزاب الوطنية وكما ذكرنا دعما وتأييدا لها مع العلم أن يحيى ق كان من مؤسسي دار التمثيل العربي وأصبح المدير المسؤول لها إضافة إلى اعتباره احد العناصر الرئيسة للمعهد العلمي الذي كان يقدم مسرحياته أبان العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. لا يمكن التغاضي عن مكانة ودور يحيى ق في مسيرة المسرح العراقي كأحد رواده المبرزين وقد كان لي شرف التعرف عليه والعمل معه للمرة الأولى عند أقامة الحفل الختامي لمدرسة القحطانية للبنين فقد حضرت العرض المذكور أبان الخمسينيات من القرن الماضي الذي قدمت فيه العديد من الفعاليات الطلابية ومنها عرض إحدى المسرحيات التي أبهرتني كثيراً و شدتني إلى المسرح وكانت البذرة الأولى لمواصلة المشاركة في التمثيل ثم التحري والبحث والدراسة والتي ما زالت حتى الآن. بعد أن تم تعييني كاتبا في نقابة المعلمين فرع الموصل وكان يداوم في الحضور يوميا عصرا في مقر النقابة وهو يحمل الجرائد والمجلات اليومية ويتركها ليطالعها زملاؤه من المعلمين. فقد طلب مني أن أشاركه في تعليم الأميين القراءة والكتابة فبادرت للاستجابة لطلبه وبدأت بإلقاء المحاضرات في المدرسة العدنانية الابتدائية للبنين في الموصل كان ذلك بعد نجاح ثورة 14 تموز الوطنية التقدمية. فمع بداية العام الدراسي 1959 ساهمت بناءا على طلبه بالعمل في هذا المجال وكان يحضر إلى المدرسة بين الفينة والأخرى للاطلاع على سير التدريسات وتزويد الطلبة بالكتب والأقلام والدفاتر والطباشير من حسابه الخاص إضافة إلى الإرشادات التي يوجهها لاتباعها. في عام 1960 وعندما كنا في نقابة المعلمين دخل النقابة الشاعر بشير مصطفى الذي كان رئيسا لتحرير جريدة الشبيبة ليخبرنا أن السلطات الأمنية منعت توزيع جريدته (الشبيبة) بعد الانتهاء من طبعها وحجزها في المطبعة فما كان من يحيى ق الذي كان حاضرا الا ان قال للشاعر بشير مصطفى انه مستعد لمنحه بعض اجور الطباعة والورق تعويضا له عن خسارته. وفي أحد الأيام من عام 1960 قام بعض الأوغاد بالاعتداء عليه وهو يروم شراء الجرائد اليومية من شارع ألنجفي في الموصل حيث حضر إلى النقابة وأثار الاعتداء واضحة عليه لكنه كان صلبا وجريئا كعادته فقد جابههم بكل شجاعة رغم كبر سنة وعدم احترامهم لمكانته وعمره. لقد قال عنهم عبارته المشهورة (اضرب عليهم بنعل أنهم غلط). قامت نقابة المعلمين في الموصل بتقديم مسرحية (المفتش العام) لغوغـل وقد كانت التمرينات تجري في نادي المعلمين الواقع في باب سنجار حيث اشترك بتمثيلها العديد من المعلمين منهم الشاعر محمود المحروق والقاص المعروف غانم الدباغ. وكان يحيى ق يحضر في بعض الأيام للاطلاع على التدريبات التي تجري على المسرحية وكان يبدي ملاحظات مهمة وقيمة في طريقة التمثيل والإلقاء المسرحي يتم الأخذ بها من قبل مخرج المسرحية والممثلين وكان يحضر معه كل يوم تقريبا الشاعر ذو النون الشهاب الذي قام بدور الملقن في المسرحية عند عرضها. ومن مواقفه المشهورة وقفته مع الزعيم عبد الكريم قاسم عندما قابله وفد نقابة المعلمين في الموصل حيث وقف أمام عبد الكريم قاسم وكان ذلك قبل حدوث محاولة الشواف عام 1959م حيث طلب من عبد الكريم قاسم وجوب الانتباه واليقظة والتصدي لبذور المؤامرة التي تحاك ضد الجمهورية الفتية، كما طلب العمل على تسليح الشعب للدفاع عن مكتسباته مما أزعج عبد الكريم قاسم وطلب من الوفد ترك الأمور لأصحابها لمعالجة الموضوع مما دفع بمرافقه وصفي طاهر الطلب من (يحيى ق) الالتزام بأقوال الزعيم.
بعد الانقلاب الأسود الدموي في 8 شباط 1963 تعرض يحيى ق إلى الاعتقال والاعتداء وقد التقيت به في معتقل (خلف السدة) ليحثني ومن معي على الصمود والتصدي للجبناء الذين كان يقول عنهم ان مقرهم مزبلة التاريخ. لقد تعرض إلى الاعتقال لمرات عديدة وبأوقات مختلفة.
يعتبر يحيى ق من أبرز مؤلفي المسرحيات فهو من الرواد الأوائل في المسرح العراقي ومن مسرحياته المنشورة:-
1- مسرحية فتح مصر
2- مسرحية فتح الشام
3- مسرحية فتح القادسية
وقد مثلت مسرحياته أعلاه لمرات متعددة في أكثر من مدينة عراقية.
"يحيى ق" رائد من الرواد الأوائل في أكثر من مجال ومبدع فهو من الرواد الأوائل في مجال التربية والتعليم فقد خدم في هذا المجال أكثر من أربعين عاماً كان فيها مثالا للمربي الفاضل الحريص على إشاعة العلم والمعرفة. كما انه أحد الرواد المبرزين في مجال تعليم الكبار ومحو الأمية ويكاد يكون الوحيد في مدينة الموصل الذي لم يتوقف عن خدمة آلاف الأميين ورفع غائلة الأمية عنهم وتعليمهم القراءة والكتابة وله كتاب مطبوع وطريقة خاصة تسمى طريقة (يحيى ق) فقد كان يوزع مستلزمات الدراسة مجانا ومن حسابه الخاص. لقد قمت مع الكاتب المبدع طلال حسن بنشر تحقيق صحفي مطول عن طريقته بمكافحة الأمية نشر في جريدة (الفكر الجديد) تم على أثره استدعاؤنا إلى مديرية الأمن في الموصل والتحقيق معنا عن سبب نشر هذا التحقيق والدافع لذلك حيث ترافق نشره مع قيام الدولة في حينه بحملة محو الأمية. حيث أعلمنا المحقق أن عمله هذا يعني أفضل مما تقوم به الحكومة وهو غير مقبول أصلا خاصة وأن أكثر من علامة استفهام كانت موضوعة علينا جميعا. أما في مجال المسرح فهو رائد مبرز ومتفرد له باع طويل ومساهمات لا حصر لها في التأليف والتمثيل وكتابة النصوص الغنائية وإلقاء القصائد الشعرية أثناء عرض المسرحيات وكما كان معهودا في حينه. أن اتحاد الأدباء و وزارة الثقافة والجامعات ومراكز البحوث والدراسات مدعوة جميعا لتسليط الأضواء على إبداعات هذا المناضل الصلب والأديب الرائد والمربي الفاضل وطبع كتبه والتعريف به ومساهماته المتعددة و ابراز مكانته. توفي يحيى ق في سجن الحلة يوم 17/ 4/ 1966.