ادب وفن

طفل السرد في رواية «آخر نساء لنجة» / باسم سليمان*

هل نستطيع أنْ نحسب الحياة هي المُكاء, الصّوت العالي والرّواية هي التصدية أيّ صدى المُكاء؟، وهل ينطبق ما سبق على شخصيتي رواية" آخر نساء لنجة" الشّابة ميعاد والعجوز/ الجدّة رزيقة؟، ولماذا نسعى لهذا التقسيم؟، هل لأنّ صوت ميعاد كان صوت المتكلِّم أو المايسترو الذي يضبط آلات السّرد النفخية عندما تعلو الأصوات الأخرى مقتحمة صوت المتكلم أو تنسحب للوراء كسرد وتري هامس حين يستقلّ صوتُ البيانو المنفرد لوحده ليقود اللحن,
لحن ميعاد التي تكتشف مستقبلها برمي ودع الذاكرة بتربة أمّها المتوفاة أو عبر ثقل القهوة بفنجان الجدّة رزيقة أو لأن الجدّة رزيقة تلك الأنثى المعجونة من الأزمنة والأمكنة بقدر ما تركت للحفيدة أنْ يعلو صوتها كانت في خلفية المشهد تضبط أوتارها وملامسها البيضاء والسّوداء وماذا عن رجال الرّواية الجدّ السّردال إبراهيم والأب والزوج يوسف المرمي في جبّة الغياب تنتظره ميعاد أو سالم السيّارة التي تلتقط ميعاد من جب الانتظار وكأنّ غياب يوسف غيابها هي الأخرى؟.

النساء وثلاثية الزمن

بما أنّ الرّواية المذكورة تنتهي بنقطة على حافة المستقبل وتنطلق من الماضي لتحايث الحاضر, تصبح نساؤها آلة زمنية قادرة على طي الزّمن واستحضار أمكنته, هكذا تتوضح لنا الأمكنة سواء في جلفار أم لنجة أم البحرين, فتنهض أبعاد المكان من طلية التّذكّر إلى لحظة الحياة, فيغادر السّرد بعده النفسي وينزل لمعترك الحياة, مصوّراً رحم ميعاد الذي ينتظر جنيناً بذوره في الغياب, ناشراً رائحة خبز تنور الجدّة المعجون بالكبرياء والكرامة واقفاً على بيت الجدّ السّردال إبراهيم مستحضراً سالماً الذي ضاعت معه في طفولة بعيدة الطفلة ميعاد ويوسف الزوج العقيم الهارب والذي يلبس قناعاً, ملامحه أنْ يمضي الزمن على رحم ميعاد, فيعود ولا يلقي فيه بذرته غير الموجودة أصلاً.
هكذا تتولد النسوة الثلاث من رحم بعضهن البعض, فلا الجدّة تستكين بل تظلّ تلك المرأة التي ترى وجودها معلقاً برائحة الخبز الصّادر من تنورها ولا الأمّ التي يأتي طيفها كندى الصّباح ولا ميعاد التي تاهتْ بقدر ما تاه زوجها يوسف معلقة غير مطلقة, لكنّها ذات رحم وذوات الأرحام قادرات على إنجاب أنفسهن مادام هناك شبهة لحبيب أو رجل يَعد بالأمطار وإنْ كان تائهاً هو الآخر في حرب العراق ينقل بكلمته وصورته تشظي بلاد الرافدين.
وكما كانت الكتابة دليل خصب في رحم حياة ميعاد هكذا كانت رسائل سالم تأتي محمّلة بالأجنة الذين ولدتْ منهم الرَّاوية ميعاد كأنثى فيها من غياب أمّها الكثير وحضور جدّتها الكثير.

الحضور والغياب

تتناوب شخصيات الرّواية في حضورها أو غيابها, هذه الثنائية لم تكن حدّية, فحجر الرّحى ميعاد كانت تطحن قمح حضورهم وشعير غيابهم, فترسم شخصياتهم من خلال جدلها مع ميعاد التي طالت حضانتها سواء في بيت أبيها ومن ثم زوجها وأخيراً جدتها وخلال هذه المدّة كانت الشخصية تتكون رويداً, رويداً, لتنبثق من صلب زمن تراثي يُسمى الجدّة وحديث سواء بالزوج أم الوالد أم سالم الحبيب المفترض كحبر للكتابة وللحياة, هكذا تلعب ميعاد دور الحدّ الوسط لتجمع زمنين ومكانين, فتنجز الوصل وتجبّ القطيعة مع ماضٍ صار أقرب للحكاية وحاضرٍ لا يعنيه إلا لحظته ولا ينظر لهروبها نحو الماضي, فميعاد هي ثنائية الحضور والغياب وهي الجنين الذي ينتظره رحمها, ففي النقطة المرتسمة على حدود المستقبل, نرى الزّوج يحضر من غيابه ليقيل ميعاد من انتظاره ونرى سالم الحبيب قاب قوسين من الحضور والجدّة تفقد ذاكرتها وتموت، ومن خلال ذلك تولد ميعاد شخصية متكاملة, أنجزتْ ولادة زمنها ومكانها وأصبحت جاهزة ليستقبل رحمها جنيناً يهبها الأمومة, الأمومة التي عاشتها قبلاً برعايتها جدتها وأبيها والعودة لبيت الجدّ السّردال وتشريع نوافذه للحياة وعجن الطحين وخبزه في تنور الجدّة رزيقة, فالعائلة التي تبحث عن فرع جديد يعطيها مستقبلاً كانتْ ميعاد هي هذا الفرع.
آخر نساء لنجة رواية للكاتبة لولوه المنصوري من الإمارات, فالرّواية إذ ترصد سيرة ثلاث نساء, ترصد حياة بلد يتشكّل ويخرج من ثوبه القديم ليرتدي ثوب الحداثة, فتكون ميعاد, هي الصّراع الدائر في كلّ عائلة وفي جوهر البلد حتى يستقر الحدّ الوسط بين ماضٍ تراثي وحاضر يكاد يقطع جذوره.
رواية مكتوبة بسرد شاعري وبوح شفيف مع إظهار أصالة التراث وتأصيل الحاضر فيه, فالقيم التي يقوم عليها المجتمع ليست أبداً قيما مادية خالصة بل في صلبها تلك القيم الروحية التي تحفظ للإنسان إنسانيته وتجعله خليقا بوراثة هذه الأرض.
اكتمل السّرد كشخصيته الرئيسية، ميعاد معلقة على فجر يكاد يشق لونه ظلام الليل؛ إنّه الأمل.
تمّ افتتاح هذه المقاربة بالكثير من الأسئلة وبقدر ما رسمتْ طبيعة المقاربة إلّا أنّها تملك الكثير من حيثيات المناص, ليقارب القارئ هذه الرواية الجديرة بالاهتمام.
ـــــــــــــــــــ
*كاتب من سوريا