ادب وفن

في تكاملية العرض المسرحي / د. زينة كفاح الشبيبي

تأثر المنجز الأدبي بالتطور العلمي في مختلف العلوم وعلى كافة الأصعدة، في الوقت الذي بقي الجانب النقدي مقتصراً على الجانب الأدبي، كون العرض أو العمل المسرحي قائماً على ثنائية نص وعرض، وبعدها دخل النقد ليضم هذه الثنائية بأكملها (النص، العرض) وفق وحدة فنية جمالية هي خطاب العرض
وإذا كان (النص) منتجاً فردياً من قبل المؤلف، فإن (العرض) منجز أو منتج من قبل مجموعة (مؤلف، مخرج، ممثل) ومجموعة مصممين (أزياء، إضاءة، ماكياج، موسيقى). ومن هنا امتزج الاثنان معاً في خطاب موحد هو العمل أو العرض المسرحي ضمن مفهوم تكاملية العرض المسرحي، حيث وجد خطاباً واحداً من حيث التأثير النهائي (فالدراما والمسرح شيئان ينبغي أن يكونا شيئاً واحداً، ووحدتهما هي واجب كل مسرح يدرك رسالته حقاً ومع وجوب اعتبارهما شيئاً واحداً فلا مناص من بقائهما اثنين).
ويتأسس الخطاب أو العمل المسرحي على ثنائية:
أولاً: الخطاب اللغوي (النص) المقروء أو المسموع.
ثانياً: خطاب العرض الذي يضم عناصر (الديكور، الإضاءة، الزي، الإكسسوار، الماكياج، الموسيقى)، إضافة إلى النص.
وهذه الثنائية (النص، العرض) باندماجهما مع بعض تخلق تركيباً فنياً، يضم ثنائية الكلمة والصورة، أي الجانب (السمعي، البصري) مع التمييز بين الخطاب الأدبي باعتباره نصاً مكتوباً بالكلمات، والخطاب المسرحي باعتباره نصاً مكتوباً بالصورة مع التأكيد على الترابط الوثيق بين الخطابين. لذا فإن الترابط الوثيق بين الخطابين يتيح إنتاج خطاب واحد، هو خطاب العرض المسرحي، وهذا الأخير بدوره هو حاصل لتفاعل كل العناصر الفنية والتقنية من (ممثل، ديكور، إضاءة، إكسسوار، زي، ماكياج، نص) في مكان رئيسي هو خشبة المسرح التي تعد نقطة التقاء الممثل مع المتلقي لكل تلك التقنية. إن المهمة التي تحمل في طياتها أهمية جمالية وفكرية تقع على عاتق المؤلف أولاً والمخرج ثانياً، لتحويل تلك الكلمات في سطور إلى حركات وصور وألوان على خشبة المسرح. إن العمل المسرحي هو عمل مشترك بين المؤلف والمخرج الذي يجعل جميع رسائل التعبير من "ديكور، أزياء، إكسسوار، ملابس، إضاءة تتعاون كلها لإبراز الشخصية ورسمها وتفسير موقعها من سائر الموجودات. وفضلاً عن هذا فإنه يقع على عاتق المخرج أيضاً تفسير هذا النص وتأويله وإعطاء وجهة نظر فنية".
إن عملية التكامل الفني تبدأ منذ اختيار النص المسرحي، وأن عملية اختيار النص ذات تباين بين مخرج وآخر، وذلك وفقاً لقراءاته لنصوص عالمية وعربية ومحلية، ووفقاً لاتجاهاته وميوله لمذهب معين دون غيره من المذاهب أو وفقاًً لرؤياه التجريبية لإعطاء فكرة معينة معاصرة لظرف اجتماعي أو اتجاه جمالي. وقد يكون اختيار النص من قبل المخرج متوقفاً على مقدرة المخرج المعرفية والأدبية بتحويل النص وإعداده، وهناك بعض المخرجين يلتزم بكتابة المؤلف وأفكاره ولا يغادرها، وإنما يسعى إلى تجسيدها بوسائله التقنية المتوفرة، إن لجوء بعض المخرجين إلى النصوص العالمية لأنهم يرون فيها آفاقاً جديدة في العملية الإخراجية التجريبية وأفقاً أكثر وضوحاً "لتفسير مأساوية العالم وحالات الإحباط واليأس والقهر، كي ينهض المشاهد نظيفاً من أدرانه من خلال وعيه المستفز بالمأساة". إن عملية التأليف بالنسبة إلى المخرج متباينة وذلك من خلال التقاط الصور المستفزة وكثرة التساؤلات، فهي التي تمهد إلى عملية الكتابة أو التأليف، إذا لم يجد المخرج في النصوص ما يحقق أهدافه. كما أن عملية الإضافة والتحويل والحذف والمزج بين أكثر من نصين هي عملية إبداعية من قبل المخرج.
فهناك من المخرجين الذين يعمدون لاختيار النصوص الواضحة ليتم استقبالهم من قبل المتلقي آخذين بنظر الاعتبار الإمكانات المادية المتوافرة، بينما البعض الآخر يهوى النصوص المركبة، لأنها تنتج مجالاً أكبر للتفسير والتوضيح عبر أفكار ورؤى إخراجية، كما أن هناك مخرجين لا تقودهم النصوص إلى أفكار معينة، وإنما الوضع الاجتماعي والفكري هو الذي يقودهم إلى نص معين.
ومن الأركان الأساسية والمهمة في تكامل العرض المسرحي هو (الممثل)، الذي يشكل عند البعض مركز العرض المسرحي، إذ يعمل على تفسير وتحويل النص إلى حركة (فعل). كما أنه يمثل أداء المخرج في العملية الإخراجية الإبداعية، والممثل هو ذلك الشخص الذي ارتقى إلى خشبة المسرح منذ شكلها البدائي (الاستعراضات الدثرامبية) إلى شكلها المادي المجسد بخشبة وجمهور من أغان وأناشيد إيقاعية إلى نصوص مكتوبة، فهناك جدلية تفاعل بين المتلقي والممثل، ذلك المتلقي الثابت المتحرك "في قاعة المسرح، كثبات الممثل غير المستقر على الخشبة، المحرك لكل السينوغرافيا والذي يدخل في عمليات التغيير لكل الموجودات فيه".n إن ثبات المتلقي من خلال جلوسه على الكرسي ومتابعة أحداث المسرحية، هذا لا يعني أنه مستقر إلى حد الثبات وإنما هو متحرك من خلال أفكاره النقدية وقناعاته وردود أفعاله بما يشاهده من صور متحركة ملفوظة، أما الممثل فيبقى ذلك العنصر المحرك أو محور العمل المسرحي أن يستخدم كل ما وفرته السينوغرافيا، هذا بالإضافة إلى إمكانياته الجسدية والصوتية ومهارته في استيعاب توجهات المخرج الجمالية، يعرف عن الممثل أنه يمتلك أدوات إنسانية حيث يوظفها في فضاء المسرح (المشي، القفز... الخ)، ولهذا جاء تأكيد (ستانسلافسكي) على تمرين الممثل وإعداده بشكل جيد، وتوظيف كل ما يمتلكه من إمكانيات تعبيرية من خلال التمارين. يدخل الممثل مع بقية عناصر العرض المسرحي ليكونوا وحدة كلية متكاملة تصب في خدمة العرض المسرحي، تبدأ من قراءة النص لتبث لديه الانطباع الأول ثم لتهديه إلى المعايشة مع الدور من خلال الألفة التي تجمع بينهما، ومن خلال ذلك سوف يتمكن من تجسيد الدور المسند إليه بعد ما يتعرف على أساسيات مهمة تجعل من حركته سليمة ومقبولة. ومن خلال ذلك نستطيع القول بأن أهمية دور الممثل تكمن في العملية التكاملية للعرض المسرحي بتحويل النص الأدبي إلى نص حركي وصوت ومشاعر مؤثرة في نفس المتلقي من خلال رؤية إخراجية يريدها المخرج مع وجود العناصر الأخرى المكونة للفضاء المسرحي أو المنظومة السينوغرافية.
ترتبط هذه العناصر ضمن نسق خاص، هو نسق الفضاء المسرحي الذي يحيط بالممثل ويتعامل معه، بل هو جزء من هذا النسق، إذ يعمل الديكور على تحديد المكان الجغرافي والاجتماعي والبيئي، مما يترتب عليه أن يكون هناك زي يناسب المكان والجانب البيئي والجغرافي والإيديولوجي للشخصية، إذ يضفي المكان والذي دلالته على الفضاء المسرحي والشخصية المؤدية وهذا ذاته ينطبق على الماكياج والتسريحة.
فقد يحمل الماكياج والتسريحة دلالة زمانية ومكانية، من حيث العمر والجنس والبيئة والانتماء الاجتماعي. فالتقاء جميع هذه العناصر يساعد في خلق الفضاء المسرحي لكي يكون مساهماً جمالياً في خلق منظومة العرض المسرحي وتواصلها مع المتلقي الذي يعد الفيصل النهائي على مشهدية العرض المسرحي. إن اجتماع هذه العناصر في الفضاء المسرحي يحدد انتماء العرض لتسمية مذهب معين دون غيره، كأن يكون فضاء واقعياً أو طبيعياً أو رمزياً أو فضاء تعبيرياً... الخ.
وتذهب بعض الاتجاهات الإخراجية في رؤيتها لتكاملية العرض المسرحي بجعل الستارة جزءاً من الرؤية الإخراجية والتي تعد جزءاً من الديكور في بعض العروض المسرحية من خلال دلالتها واستخدام الممثل لها، معتمداً ذلك على توظيفها من قبل المخرج. ولا يمكن إخفاء دور الإضاءة في تكاملية العرض المسرحي، إذ تتابع حركة الممثل وتركز على بعض قطع الإكسسوار والديكور المسرحي من خلال خصائصه الأساسية الأربع (الشدة، اللون، التوزيع، الحركة)، إذ تندمج أهمية الإضاءة المسرحية مع بقية عناصر سينوغرافيا العرض المسرحي لإعطاء مشهد واضح المعالم والأبعاد والتاريخ.
وتتعدد الطرق المشكّلة للفضاء المسرحي معتمدة على فنية استخدام قطع الديكور المتوازنة بالحجم والكتلة مع الإضاءة الموزعة والمتنوعة والمتناسقة مع جغرافية وطبيعة العرض، والمفاهيم المراد إيضاحها على الخشبة، ولهذا فإن اجتماع عناصر العرض المسرحي مكونة بنية تكامل العرض المسرحي، ولذا أحياناً ما يطلق عليها اسم أو مصطلح السينوغرافيا "كتعبير جديد عن الحياة المسرحية، جمع الجمالية بين صالة الجمهور وخشبة المسرح... إلى جانب العديد من المشكلات التي يمكن أن يعاني منها إعداد خشبة المسرح من المناظر أو الديكور، أو مواد فن تخطيط الوجه (الماكياج) أو الستائر بأنواعها). وعليه فإن للعرض المسرحي بنية خاصة به مثلما هنالك بنية للنص المسرحي التي باجتماع مكوناتها وعناصرها مكونة النص المسرحي أو الأدبي، فإن عناصر السينوغرافيا باجتماعها تعمل على تكاملية العرض المسرحي. إذ يمكن أن يكون هناك عرض دون حوار وفقاً لرؤية إخراجية معينة يرتئيها المخرج فتكون المسرحية عبارة عن رسم حركي وصوري من قبل الممثل وبقية عناصر العرض المسرحي الأخرى، أو تكون اللغة غير واضحة أو مشفرة كما هي في الدراما العبثية ذات جانب فكري، وقد لا يتكون الديكور إلاّ من قطع صغيرة أو بسيطة كما في المسرح الفقير، أو تنعدم أحياناً ولكن هنالك فعلاً (دوراً) للإضاءة بدلاً منها، وهذا يعود إلى رؤية المخرج وأسلوبيته الجمالية. ولكن هذا لا يعني أن خطاب العرض غير متكامل لأنها تتبع (المسرحية) لوجهة نظر يكرسها المخرج إضافة لكونها تتبع المذهب الذي لا ينتمي إليه النص، فللمخرج رؤيته اللاحقة لكتابة النص بمراحل تاريخية لاحقة. وعلى العكس من ذلك هناك من لم يوظف عناصر العرض المسرحي بشكل جيد مما يظهر العرض المسرحي بأنه غير متكامل رغم وجودها جميعاً، إما لسوء أداء التمثيل أو العناصر الفنية أو النص.
لذلك يعد العرض المسرحي متكاملاً بعناصره الفنية التي تجتمع فيه مقدمة خطاب مسرحي بعد تحول النص إلى كلمات صوتية وحركات مجسدة تحمل أبعاداً سياسية أو اجتماعية أو فكرية. ويؤشر (ألكسي بوبوف) إلى أن (الوحدة الكلية) التي تقوم على "طبيعة الأداء التمثيلي، وطريقة الاتصال بين الممثلين والسرعة الإيقاعية والميزانسين وأخيراً الأساس الذي يقوم عليه الديكور في العرض، فإذا ما ارتبطت هذه الوسائل وخصائص المسرحية من دراما وشكل مسرحي"، فإنها في النهاية تعني عرضاً مسرحياً أساسه التكامل ليتواصل مع المتلقي وفق رؤية فنية وجمالية هادفة وواعية في أسلوب بنائها ووظائفها الجمالية والفكرية صوب المتلقي الهدف الأكبر من نتاج الخطاب بكليته.