ادب وفن

في التربية الوطنية / وديع شامخ

يوم كنّا صغارا كانت هناك وزارة مختصة تسمى:»التربية والتعليم»، وكان المعلمون جنسُ من هذه الطبيعة المزدوجة «تربية وتعليم»، لذا شاع نموذج المعلم» النموذجي» في حياتنا، نحن التلاميذ، فالمعلم نموذجي في حياته المهنية، لأنه معلم، ومربي أيضا، وليس له أجنحة ولا حناجر يطير بها سوى هاتين المملكتين، «تربية وتعليم».
كان معلمنا أنيقا جدا، حلوا، مترفا إلى حد ما، لا ينتابه الفقر، وإن صنّف في باب» البرجوازية الصغيرة».
كان يذهب إلى دوامه معطرا، بكامل الأناقة، وله حصة في شاي الوطن يجلبها « فراش المدرسة « دون عبودية.
المعلم، «البرجوازي الصغير» يحمل منديلين، واحد للبصاق، وآخر لتنظيف الأنف، كي يشعر التلاميذ «نحن» أنه نموذج في التربية والتعليم.
* *
في محلة الجمهورية، التي تقع جنوب القلب، جنوب البصرة، جنوب الدهور أيضا، هناك «وكّر الرفاق» على أعشاش الناس، بينما الصقر الأسود يتصيد حمامة الوطن البيضاء، رغم الهدنة السياسية المسماة، «جبهة وطنية».
هنا وهناك تراقص الرفاق، وشربوا كـأس الوطن، لكن صاحب الجمل حمل الوطن بما حمل وبقينا ننتظر وطنا مجعدا نازلا من حمير الحروب، وطن بلا طعم ولا لون ولا رائحة، يسمونه وطنا نموت لأجله.
نموت ويحيا الوطن
صارت تجربة العراقيين في الهروب من الحياة والهروب من الحلم، والهروب من الأمل أيضا نموذجا لخروج «المعلم» من محنة « النموذج».
حروب لا تنتهي، وتربية تهزل كل يوم، وتعليم تُجزّ ناصيته قربانا على مذبح الأوهام.
لا تربية ولا تعليم.. هناك خيط « خاكي»، وهناك أجساد خاكية، وهناك عقول «خاكية»، كلهم يرتدون بذلة واحدة، يرتدون العراق بخفة لتدوين سيرتهم على أفواه الناس قبل دفاترهم.
من هنا انطلقت شرارة الحرب، وشاعت ثقافة العنف حيث الأطفال يُلوحون للحرب، والطلائع يرتدون عدّة الموت، والفتوة يهزجون للوطن والقائد بحناجر طرية جدا.. يقف وراءها مصوتون عتاة، لزرع قنابل الحرب في أجساد وحناجر الطفولة والصبا في العراق.
هكذا بدأ المعلم «الخاكي» يطفو على الدرس كاملا.. لتختفي قيم ٌ وتظهر أخرى، لتتمزق صفحة البراءة وتشوه التربية والتعليم معا، ويبدأ درس الوطنية بضمور ملامح الوطن والناس وبروز بشاعة الحزب ودمامل القائد وقيح النوايا.
من هناك بدأ «رفاق التربية والتعليم الجدد» يحفرون قبر العراق بخفة وهمة خاكية منقطعة النظير.. دقت أجراس الحرب الأهلية فكان خرابا للجبهة الوطنية واعتقال رفاق الأمس وإعدام كل من يقف ضد ماكنة «التربية والتعليم» الجديدين!.
وإستمر «غراب» الحرب بالنعيب ونفش «الحوم» ريشه لترقب «الجثث» وهي تتكوم في ساحات الحروب لاحقا.
طغا المعلم الخاكي على صدر الحكاية وصار ربان السفينة ومؤرشف تاريخها الجديد، ومُعيد كتابة التاريخ كله.
العراق يقترن دائما بتكرار البدايات، لا نمو نوعي ولا تراكم يقود لأفق آخر، دائما نبدأ من جديد، ينهار الأمس كلّه ويعاد تقويمه لصالح الحاضر «الخاكي» ليكون حمار الأسفار للمستقبل المجهول.
منذ أن دقت طبول الحرب في «ثمانينات» القرن الماضي دخل العراق في بازار «الموت»، وصرنا على أعتاب تاريخ جديد، تقويم حربي لأيام العراقيين المشوية على سفود الحرب.
عندما تختفي حمامة السلام عن سماء وطن، وعندما يغيب «المعلم النقي» وعندما يكون «الحشد» ظاهرة الحاضر، فأعلم أن هذا الوطن سيذهب إلى الهلاك.
وبهذه الثلاثية المريرة توسع قبر العراقيين جدا وصار الموت حياتهم الأولى.. مات المعلم الأنيق، وهاجر العراقيون الى الموت فرادا وزرافات والى المنافي خلاصا فرديا.. والى الخيار الأمَر، البقاء في أسوار السجن الأكبر المسمى «وطن».
وجاءت تسعينات القرن المنصرم لتزيد عجاف العراقيين عجافا وذلة وجوعا وموتا وحصارات لا تنتهي، فتقيح الجرح وأزرّق الأمل، وإختفى «المعلم، ومعه التربية» في أزقة الجوع وسوق العمل الرخيص، وانتعش بازار العهر الفكري.
فقرأ الكثير «الفاتحة» على جسد العراق المسجى على طاولة التشريح الوطني والإقليمي والدولي.
لكن شبّاك العراق يبقى مفتوحا، وزيت القناديل غير ناضب.