ادب وفن

طلال حسن .. طفولة نقية / حسب الله يحيى

قبل نصف قرن، كان الرغيف عصيا، والبرتقال حلما. كانت الأصابع تبكي دما، وهي تأخذ باليمين حجرا وباليسار اسمنتا. كانت اليد لا تصفق فرحا، وإنما تدفع بخشونتها الخد الناعم فتجرحه. ومع ذلك كله كان للحياة معنى، وللصداقة وفاء وللمبادئ قضية مصفاة من الحقد والنفع والجاه.
وفي هذه الفاقة التي قدت من نقاء.. كان للكتاب شرف ان يباهي العيون وشرف (اللالة) ان تدخن الضوء تدخينا حتى نقرأ. وكنا قلة نجتمع بعفوية عند مكتبة الأمين في شارع النجفي كل مساء، نترقب وصول الصحف من بغداد.. وفي ساعة الانتظار، نتحدث عن كتاب قرأناه، وكتاب نقرأه، وصحيفة نحتت أسماءنا على صفحاتها.
وكان من بيننا.. طلال حسن، يتحدث برقة الورد وعذب النسيم وغسق المدينة.. عن القصة والمسرح، وضرورة البدء من الطفولة. شخصيا لم أعرف طفولة.. أية طفولة، ولا شبابا.. أي شباب وكان الصبا يحترق بين الطفولة والشبيبة في مشاق العمل الجسدي المضني.
طلال حسن كان من البرجوازية الوطنية في ذاك الزمن العصي، فهو معلم، وله القدرة على الجلوس في مقهى مترف اسمه (كازينو النهرين) وبإمكانه دخول دور السينما، واقتناء ما شاء من كتب ومجلات، وأن يجالس شيخ أدباء الموصل/ الراحل ذو النون شهاب.
وكان الشهاب كريما، وعبد الحليم اللاوند سخيا، وطلال حسن بينهما.. كريم متحفظ على كتبه.. على ان.. أنور عبد العزيز، وستار الشيخ، وطلال عبد المجيد، وزهير غانم، وسعد الدين خضر، والصديقان الأثيران/ حازم خليل ويوسف البارودي.. كانوا أسياد القراءة في المدينة التي لا يشغل أهلها إلا العمل، باستثناء: مثري العاني، الثري بحكايات وأكلات وصناعات وارث أهله.. وكنا نعرف صاحب مكتبة الأهالي/ عبد الرحمن.. الذي كان يمدنا بالسر والعلن بكتب أثيرة وعصية ونابهة ممنوعة.. ومع أننا كنا نخشاه ونحذر منه، لورود معلومات تقول: إن له علاقة با?أمن.. وللحقيقة لم ترد معلومات مؤكدة الى انه وشى بأحد منا.
وفي وقت كان د. عمر الطالب أستاذا جامعيا مرموقا، جعلنا د. عبد الاله احمد في نقده لدراسته القصة العراقية.. موضع الشك. لكن طلال حسن.. كان حمامة سلام بيننا وبين عبد الرحمن والطالب.. حتى أنني شخصيا أدين لطلال حسن كرم إقناع د. عمر الطالب بسحب شكواه ضدي بعد كتابة قصة (رجل اعتيادي جدا) والتي نشرت في جريدة (الرسالة) الموصلية و(ملحق الانوار) اللبنانية والذي كان يشرف على تحريره الروائي الراحل: غسان كنفاني. مثلما كان يسعى لإزالة الجفاء بيني وبين الشاعر الراحل: سالم الخباز، الذي أغاضته قصتي (الذي يتجذر في الأرض) والتي?نشرت في مجلة (الآداب) عام 1967 فصار يكشف رموزها المضادة للسلطة.
لن استرسل، فمهمة هذه الورقة، لا يراد منها استعراض تجربة كاتبها، بقدر ما يراد الكشف عن طبيعة الحياة والعلاقة الصميمية التي أنتجت هذا الحقل الممتد بعافية البقاء والذي اسمه طلال حسن.
حقا أقول.. لا تسعفني الذاكرة الشقية لمدينتي الموصل، وأنا استل منها بيرقا من بياض، فيما تشكل هذه المدينة وجعا في عقلي وقلبي وحواسي.. ولكن من طبع المحبة أن تداوي الجفاء والجراح والأذى.. والطفولة العذبة التي شغلت كل حياة طلال حسن.. كل الأحوال، حتى استحالت على الشيخوخة، وباتت عصية على النسيان.
نصف قرن من المعرفة التي اختلست مصباح الشارع والفانوس والشمعة واللالة.. حتى نقرأ كتبا مستعارة من طلال حسن الذي فتح مع مثري العاني شهيتي على المسرح الحقيقي، خارج ما كان مألوفا.. وخارج طفولة.. تتوسل اللقمة، فكيف بالكتاب.. وبقصة ومسرح الطفل؟!
طلال.. اطل على المشهد الثقافي مربيا لأجيال، ومن ثم معلما وتربويا فذا لأجيال متعاقبة من أطفال العراق والعالم.. وما زالت إطلالته، تجد صداها في كتاباته المعمقة والممتعة في روايات ومسرحيات تنشر مسلسلة في ملحق جريدة التآخي (أبعاد ثقافية) التي تزهر بعوالم طفولته التي ترفض ان تشيخ..
وإذا يتم الانتباه إليه الآن بعد نصف قرن من العطاء، ومن المسار الصعب الذي كان يغذي به (طريق الشعب) في سنوات خلت.. فإنما هو انتباه – وان جاء متأخرا ً- إلا انه يعطي للذاكرة التقدمية أن تتقدم باتجاه أولئك الذين أنستهم توجيهات لا اله إلا المال والسلطة كل شيء.. وفي عرف الوفاء والنقاء.. لا اله إلا الحقيقة.. وها هي تتألق في وجوه هذا الجمع الخير من نبلاء القوم.