ادب وفن

مختارات من قصص الأديب المبدع طلال حسن

الجذور
حين ارتفعت الضجة، كنتُ أبحث عن قوتي، فرفعت رأسي، وأنصت، لم أعرف أول الأمر ماذا جرى، فتركت مكاني، ورحت أشق التربة ببطء نحو الأعلى، ومن بين الأصوات تبينت صوت البومة: "لقد ماتت".
يا للشؤم، وارتفع صوت يؤيدها:"هذا صحيح، أنظروا إليها، لقد جفت أغصانها، واصفرت أوراقها".
وناح صوت آخر:"مسكينة، لم تتحمل برد هذا الشتاء، إنها تحب الدفء".
آه فهمت، إنها شجرة البرتقال، لقد جاء السنونو ببذرتها من بلاد الشمس، وزرعها هنا. تلفتُ حولي وتلمستُ الجذور، ثم مضيتُ أشق التربة نحو الأعلى، وما إن خرجتُ إلى الضوء، حتى سمعتُ العصفور، يصيح بنهم:"دودة".
لكني رفعتُ رأسي، وصحتُ:»مهلاً، لدي خبر مهم».
صاح السنجاب الصغير: "دعها".
ثم التفت إليّ، وقال:"تكلمي".
رمقتُ العصفور بحذر، وقلتُ:»الشجرة لم تمت»
احتجت أصوات عديدة، وارتفع صوت البومة:
«أيتها الحمقاء، انظري إلى أغصانها، وأوراقها»
رفعت عيني إلى البومة، وقلت:»المهم هو الجذور»
تطلع الجميع إلي، وتساءل أكثر من صوت.
«الجذور !»
فأضفت:»الجذور حية، وهذا يعني أن الشجرة ستبقى حية»
لم يصدقني البعض، لكن بعد عدة أسابيع صاح الجميع بفرح:»صدقت الدودة»
فقد أورقت شجرة البرتقال، وتفتحت فوق أغصانها أزهار القداح، ألم أقل.. المهم هو الجذور ؟
طفل
منذ أن وعيت، وظلي طفل، يركض وراء الفراشات والكلمات والجمال، وها إني كبرت، وشخت، لكن ظلي مازال طفلاً يركض وراء الفراشات والكلمات والجمال.
فوق المصطبة
جلست، أنا وظلي العجوز، فوق مصطبة في الحديقة.وعند الغروب، نهض ظلي العجوز، ومضى كالعادة إلى البيت، أما أنا فقد بقيت جثة هامدة فوق المصطبة.
الأرض كروية
صاح ظلي، وسط الأطفال الأرض كروية؟
أمسكوا بي، وأمام أنظار الأطفال، ألقوا بي في النار.
ووسط النار، وأمام عيون الأطفال المدهوشة، راح ظلي يصيح الأرض كروية.. الأرض كروية.
حب
رغماً عني، تقدم ظلي منها، وقال أحبك.
نظرت إليّ، وعيناها العسليتان تقولان اخجل، أنت كهل.
ووقفت حائراً، لا أدري كيف أفهم عينيها العسليتين، أنّ ظلي لم يكتهل، وأنه مازال يستطيع أن يحبّ.
الحرب
أصاب قناص ظليّ بإطلاقة، فأرداني قتيلاً.
وحفر رفاقي حفرة، وسجوا ظلي فيها، وألقى كلّ منهم فوقي زهرة برية. وقبل أن يردموا الحفرة، انتفضت من بين رفاقي، وأسرعت لأرقد إلى جانب ظلي.
الظلال الأربعة
أربعة كنّا، وظلالنا كانت أربعة، أنا وأخي وأمي وأبي.
اختفى ظلّ أبي، واختطفت الحرب ظلّ أخي، وها نحن، أنا وأمي، ظلان أنثويان قاتمان، نحنّ إلى ظلالنا، التي كانت يوماً أربعة.
الظل العجوز
نهضا معاً عن مقعدهما، ونهض معهما ظلاهما العجوزان.
لوح الأول للثاني غداً نلتقي.
فردّ الثاني مازحاً إذا أشرقت الشمس.
وفي الغد أشرقت الشمس، كما تشرق كلّ يوم، لكن الثاني لم يأت، وظلّ الأول فوق المقعد، وحيداً مع ظلّه العجوز ؟
ظلان باتجاه الشمس
أقبل فتى وظلّه من اليسار، وأقبلت فتاة وظلّها من اليمين، وتبادل الفتى وظلّه، نظرة خاطفة، مع الفتاة وظلّها.لم يتوقف الفتى، ولم تتوقف الفتاة، لكن ظلّيهما توقفا، ثمّ سارا معاً باتجاه الشمس، وسرعان ما توقف الفتى والفتاة، ولحقا بظليهما.
الظلّ الفرح
نمت صبيرة وسط الصحراء، ولم يكن حولها سوى الرمال والرياح. وذات ظهيرة، مرّ بها طائر صغير، يلهث من الحرّ، وما إن رآها، حتى أسرع يلوذ بها، وابتسمت الصبيرة، ونشرت ظلّها الفرح، فوق الطائر الصغير.
التنين
بالأزهار وأغصان الغار، استقبل الناس بطلهم المنتصر، عند سور المدينة.ووقف الحكيم وابنه يتأملان البطل، وسط مستقبليه.
قال الحكيم حقاً إنه بطل، ستذكره الأجيال القادمة طويلاً، فقد قتل التنين.
قال الابن لكن التنين وهم.
فردّ الحكيم قائلاً: وهل أصعب من قتل هذا.. التنين ؟
أنا الذي رأى
رأيت، ويا لهول ما رأيت، ورغم رعبي، صرخت بي أنت إنسان، قل.. لا.
إنسان
من هذا العصر
أشعلت شمعة، وعلى ضوئها، لمحت في هوة الليل، إنساناً يلوح لي، طالباً النجدة، فهجمت على الشمعة، وأطفأتها.
المطر وهي
منذ المساء، والمطر يهمي، قطرات صغير، دافئة، وبدت أشجار الحديقة، تقف في العتمة تحت المطر. ووقفت هي، خلف النافذة، وحيدة، عارية، تحت بجامتها، متمنية لو تقف كشجرة، تحت قطرات المطر الدافئة.
الرمال المتحركة
فجأة وجدتني، وسط رمال مدومة، متحركة، تتناهشني أوجاع لا حدود لها. ومن الليل، انبثق طفل، لم أر منه سوى عينيه، وشفتيه المبللتين، وبأعلى صوتي هتفت النجدة.
لم يسمعني الطفل، وكيف يسمعني، وأنا لم أسمع نفسي ؟
وتحرك الطفل، وسرعان ما تلاشى في الليل.
غفوة
عاد أبي ليلاً، وأوى إلى فراشه، وأغفى.
وعند الفجر، لم ينهض كعادته، ويذهب إلى العمل.
والتمّ حوله الرجال والنساء يندبون، فتقدمت من أبي، وغطيت وجهه، وقلت كفى رجاء، دعوا بابا في غفوته، لقد أتعبته اليقظة ؟
يوم ممطر
نزلت المرأة من الباص، في الساحة المكتظة بالسيارات. وسارت تحت المطر، عبر ممرات مليئة بالنفايات والأوحال. وفي أحد الممرات، تراءى لها رجل يخنق صبياً، فسارعت بالخروج من الساحة، وهي تقول في نفسها لابد أنه أبوه.
وعلى الطوار، رأت رجلاً يستجدي، فوضعت في يده الممدودة مبلغاً من المال، ومضت تسير تحت المطر.
لماذا الـ.. لا
وقف الرجل أمام ببغائه متحيراً، وقال عجباً، إنني أوفر لك، في القفص، الطعام والشراب والأمن، ومع ذلك فأنت حزين.
ولاذ بالصمت لحظة، تم هتف وجدتها، أنت تريد رفيقة، حسن، سأذهب غداً إلى الغابة وأصطاد لك..
فهبّ الببغاء صارخاً لا.
هذه الكلمة الحلوة
جاءني من مجرة بعيدة، وتجول معي بين الناس، ثم قال لي الحرية، هذه الكلمة أسمعها عندكم في كلّ مكان ؟
فابتسمت قائلا هذه الكلمة الحلوة، الحرية، ستبقى معنا دوماً، فقد حنطناها بأحدث الطرق، وحفظناها في صندوق زجاجي مفرغ من الهواء، فنحن هنا نقدس.. الحرية.
اللغم
زرعوا جسده بأجهزة إنصات، وأنصتوا.. تك.. تك.. تك.
قال الخبير أصغوا، أسمع شيئاً يتكتك.
أصغوا، وأصغوا، وخناجرهم في أيديهم، فقال الخبير هذا لغم.
وهبّ الحاكم صارخاً أبطلوه وإلا نسف العالم.
وانهالت الخناجر على الجسد، تفتش كلّ زاوية فيه. وفي القفص الصدري، تحت الثدي الأيسر، عثروا عليه يتكتك، وبكل هدوء، وبأصابع متمرسة، انتزعه الخبير، و.. أنقذ العالم.
الكابوس
مددت يدي في العتمة، والحمى تشويني، لم أجده إلى جانبي، يا إلهي، إنني وحيد ة.
طرق الباب، اعتدلت مترددة، فقد قال لي: لا تفتحي الباب لأحد.
طرق الباب ثانية، إنهم هم، لعله وقع في أيديهم، و صرخت لا.
دفعوا الباب، حتى تهاوى، واندفعوا نحوي، وقبل أن يمسكوا بي، حاولت أن أستيقظ، لكن دون جدوى.
قطرة الندى
استيقظت الزهرة مبكرة، وحين فتحت عينيها الجميلتين، رأت قطرة ندى تتأرجح بجوارها، فابتسمت ببشاشة، وقالت:»صباح الخير».
أجابت قطرة الندى، دون أن تلتفت: صباح النور».
قالت الزهرة:»تفضلي بالجلوس فوق أوراقي».
فقالت قطرة الندى بجفاء:»لستُ تعبة».
ظنت الزهرة أن قطرة الندى متأثرة لأمر ما، فقالت بحنان:"تعالي تطيبي بعطري".
صاحت قطرة الندى: "دعيني، لا أريد عطركِ".
وهمت قطرة الندى أن تمضي، فقالت الزهرة: "عزيزتي، ستشرق الشمس بعد قليل، وقد تؤذيكِ، تعالي اختبئي بين أوراقي".
قالت قطرة الندى، وهي تتطاير مع الريح: "كلا، أريد أن أتجول".
أشرقت الشمس، وتطلعت حولها، وحين وقعت عيناها المشتعلتان على قطرة الندى، وهي تتسكع فوق الحقول، حدجتها بنظرة غاضبة، فتبخرت قطرة الندى، وتبددت في الهواء.
الغراب
نعب الغراب بأعلى صوته هجوووووم.
فهبّ الأموات من خنادقهم، شاكي السلاح، واندفعوا معولين كالريح إلى الحرب.
وتوقف واحد منهم، وسط العويل، واستدار بهدوء شديد، وبهدوء أشد، سدد بندقيته نحو الغراب، ثم ضغط على الزناد.
المراقب
قرر البلبل والعصفور ونقار الخشب أن يبنوا بيتاً مشتركاً، وحين سمع الوروار بذلك عرض عليهم أن يشاركهم في العمل، فلم يمانعوا، وقبل أن يبدأوا العمل، قال البلبل:»أنا أجلب الأخشاب».
وقال نقار الخشب:»وأنا أنظفها، وأحولها إلى ألواح».
وقال العصفور:
"وأنا أبني البيت».أما الوروار فقد قال:»وأنا أراقب العمل.
نظر الجميع إلى الوروار بدهشة، لكنهم سرعان ما انصرفوا إلى العمل، دون أن يتكلموا. أسرع البلبل إلى الغابة، وجاء بالأخشاب، وراح نقار الخشب ينظفها، ويحولها إلى ألواح، وأخذ العصفور يبني البيت، أما الوروار فكان يراقب العمل، وقد حاول أكثر من مرة أن يتدخل في العمل، لكن أحداً لم يصغ ِ إليه.
وما إن حلّ المساء، حتى كان البيت المشترك جاهزاً، فدخل البلبل والعصفور ونقار الخشب، وأغلقوا الباب وراءهم، أما الوروار فقد وقف مذهولاً، وهو يتمتم:
"ماذا جرى ؟ لماذا أغلقتم الباب في وجهي ؟».
لكن أحداً لم يجبه، وأنتم تعرفون لماذا.
آه يا عشي الجميل
حذرني البلبل العجوز، قبل العاصفة، وقال:»يا بنيّ، حصن عشك فقد تهب عاصفة، وتقتلعه».
لم ألتفت إلى البلبل العجوز، فقد كانت النهارات جميلة، والليالي مقمرة، والغابة تضج بالحياة، وفجأة هبت العاصفة، وكانت أقوى بكثير مما توقعها البلبل العجوز، فاقتلعت مئات الأعشاش، وفي مقدمتها عشي.
صدمتني المفاجأة، وتلفتُ حولي في ذهول، لا نهارات جميلة، ولا ليال مقمرة، والغابة يسودها الخراب، ما العمل ؟
لم أستطع أن أتمالك نفسي، وهزتني موجة من البكاء، وراحت دموعي تسيل.. تسيل.. تسيل، آه يا عشي الجميل، سأبكيك العمر كله، وسأغنيك بدموع لا تجف، فأنت المثال، أنت الحلم، أنت..
لكن جموعي جفت بعد أيام، وفوجئت بعشرات الأعشاش قد بُنيت فوق الأشجار، يا إلهي، ماذا جرى ؟ ومرّ بلبل شاب فسألته:»تمهل يا عزيزي، متى بنيتم هذه الأعشاش ؟»
لكن البلبل الشاب لم يتمهل، وأجاب، وهو يحلق مسرعاً:»لقد بنياها عندما كنت مستغرقاً في البكاء».
شجيرة الور
مالت الشمس للغروب، وتهيأ النهار للرحيل، وراح الظلام يزحف على الغابة، فتمايلت شجيرة الورد، وراحت تتأوه:»أوه».
ابتسمت شجرة السنديان، فقد خبرت آهات شجيرات الورد، ودلالهن، ولكن حين حلّ الليل، سمعت شجيرة الورد تنوح، فتساءلت وهي تميل عليها:»ما الأمر يا عزيزتي ؟»
فأجابت شجيرة الورد:»الحياة.. قاتمة».
مدت شجرة السنديان أحد أغصانها، وداعبت شعفة شجيرة الورد المليئة بالأكمام، وقالت: يبدو أنك تصغين كثيراً إلى الأغاريد الحزينة».
تنهدت شجيرة الورد، وقالت:»لقد غربت الشمس، ورحل النهار، وملأ الظلام الغابة».
فابتسمت شجرة السنديان، وقالت:»بالعكس يا عزيزتي، إن الشمس ستشرق قريباً، وسيأتي النهار، وينجلي الظلام عن الغابة».
لاذت شجيرة الورد بالصمت، واستسلمت للنوم، ولكن سرعان ما استيقظت، وإذا بالشمس مشرقة، والنهار يملأ الغابة، فابتسمت شجرة السنديان، وهي ترى شجيرة الورد تمدّ أذرعها إلى الشمس، وتبتسم للحياة.
خلاف في الرأي
أفاق الضفدع على أصوات تهز العالم ، وتكاد تطيح بمياهه ونباتاته وكائناته . فهمّ أن يلوذ بأعماق المستنقع ، لكنه رأى غريمه يقف بين الأعشاب ، فتناسى خلافهما ، وسأله : " ما الذي يجري ؟ إن عالمنا سيدمر".
لم يلتفت غريمه إليه ، لكنه قال : " هذا لا يخصنا " .
ثم أضاف بلهجة متعالية : " إنهم البشر ، يتحاربون " .
اتسعت عينا الضفدع ، وقال : لكنهم من فصيلة واحدة ".
وبنفس اللهجة المتعالية ، قال غريمه : هذه طريقتهم في حسم خلافاتهم في الرأي " .
لم يتمالك الضفدع نفسه ، فصاح : " يا للحمقى " .
ثم نظر إلى غريمه ، وأضاف : " ترى ماذا كانوا سيفعلون لو أنهم سمعوا أن العالم دائري ؟ " .
عندئذ التفت إليه غريمه ، وقال : " لكنه دائري " .
فحدق الضفدع في غريمه ، وقال : " بل مربع " .
تجمعت الضفادع على صوت الضفدعين ، وحاولت أن تهدئهما ، لكن الغريم ند نحو الضفدع نطة ، وقال : " أنت أحمق " .
وقبل أن تفهم الضفادع ما يجري حولها ، التحم الغريمان في معركة طاحنة ، وفجأة صاح أحد الضفادع : " اللقلق " .
هبت الضفادع ، ولاذت بأعماق المستنقع ، وحاول الغريمان أن يهربا ، لكن المعركة كانت قد أنهكتهما ، وسرعان ما أقبل اللقلق ، والتقطهما بمنقاره ، وغيبهما في حوصلته ، مع خلافهما في الرأي حول شكل العالم