مدارات

الخطوات الاولى في المسيرة الثورية : الطلبة ومعاهدة بورتسموث (11) / الفريد سمعان

الشارع العراقي يضج..الصرخات ترتفع.. الكادحون يطالبون بحقوق اطبقت عليها عهود الظلام. والقمع والاضطهاد.. زمرة صغيرة تتحكم بالملايين وتعتبر نفسها صاحبة افضال.. لانها كانت تؤيد الأنكليز والتعاون معهم للتخلص من الكابوس العثماني الذي فرض نفوذه لعقود طويلة حافلة بالظلم والاستهتار والاستخفاف بمطالب الشعوب التي استطاعت بعد ان وطدت علاقاتها مع الضرب الاستعماري الذي لم يدافع عنها لشعوره بالتعسف العثماني بل ليأخذ مكانه بدلاً عنها في التحكم بالرقاب والتلويح بالسياط عندما يتململ المضطهدون ويرفعون راية النضال.. الاضطرابات التي قام بها العمال.. والكادحون.. وكل المعد?ين والمحرومين.. وجدت صداها في اواسط الطلبة لان ما كانت تعاني منه ينعكس على مجريات الحركة العلمية والنشاط الثقافي والتربوي وكانت الدولة عاجزة عن النهوض بمشاريع كبيرة لردم الفجوات في البنية التحتية.. لان شركات النفط كانت تستأثر بالارباح وترمي (الفضلات) على الشعب العراقي. وتمسك بيد من حديد مغطاة بحرير ناعم. للتمويه وذر الرماد في العيون...لقد بدأ التحرك الطلابي.. وكان الحزب الشيوعي في الطليعة يبشر ويدعو ويحرك كوادره لتشديد القبضة. وعلى الفئة الحاكمة في كلية الحقوق جرت الانتخابات باتحادات الطلبة.. الاخرى كان الصراع عنيفاً.. بين القوميين واليساريين.. انتهت بفوز القوى التقدمية وكان انتصاراً ردع الكيانات القومية وعرفوا من خلال النتائج، حجمهم الحقيقي.. في الصف الأول حقوق فاز اديب جورج، والصف الثاني خلوف أمين زكي.... والذي رجح كفة التقدميين هم الطلبة القادمون من المدن الأخرى في حين كانت القوى القومية تعتمد على بغداد.. ولهذا معنى واضح لان الرعاية السلطوية لم تشمل المدن الأخرى كما كانت تحظى به بغداد العاصمة.. كما ان المستوى المعاشي في الاطراف كان متدنيا وتشكل اتحاد الطلبة العلني وكان اول رئيس له جعفر اللبان من اهل الحلة.. من طلاب دار المعلمين العالية وكان شاباً كيساً وهادئاً ولطيفاً... يتمتع بنظرات نفاذة وفكر متوهج ومواقف جريئة... وبساطة محببة. وكان شيوعياً.. وبدأت شوارع بغداد تستقبل المتظاهرين من العمال والفلاحين والطلبة.. معهم. (ماذا تريدون؟ الخبز والحرية..) (فليسقط الاستعمار).. (اطلاق الحريات الديمقراطية).. هذه بعض الشعارات التي كانت تنادي بها الحناجر.. وتتعالى لتبلغ السماء.. وقوات الشرطة تلاحق وتطارد.. وتهاجم بين وقت وآخر وتستغل المواقف التي تناسبها وحسب عدد! المتظاهرين كما كانت ترصد الطلبة النشطاء والعناصر التي تلعب دوراً قيادياً وتمتلك قدرات خاصة.. تنادي وتحرض وتتمتع بحيوية ونشاط بارز وحسب ما تردد.. وعرفناه.. بان الرفاق فهد والشبيبي وزكي بسيم كانوا- قبل الحكم عليهم.. بالسجن يشاركون الجماهير ويتابعون بهدوء وحنكة من بعيد لبعيد وكان لذلك اصداء روعت السلطة وجعلت الاحزاب العلنية التي تمت اجازتها عام 1946 تفكر في ضخامة الحشود وانتمائها الواضح وقدرة قيادة الحزب على تحريك الجماهير رغم سرية العمل في حين يتعذر عليهم رغم العلنية.. قيادة وتحريك هذه الحشود عبر هذه الاجواء ظهر قادة نقابيون سجلوا بحروف ناصعة اخلاصهم وتعلقهم بالمطالب العادلة للطبقة العاملة وتعرضوا للاعتقال والاضطهاد منهم صادق الفلاحي- نقابة عمال النسيج في الكاظمية. كليبان صالح.. عمال الميكانيك علي شكر وزاهد محمد عمال السكك.. عبد الامير عباس.. ولم يقتصر الأمر على بغداد حيث برز آرا خاجا دور في نفط كركوك وهندال وعبد الحسن الموانجئ.. في البصرة.. ومحمود الحداد من النجف ومحمد الحلو وآخرون.... لا تحضرني اسماؤهم في مختلف مدن العراق الرئيسية كالناصرية والكوت.. والحلة.. والعمارة وفي مواجهة هذا المد الثوري كان الاستعمار البريطاني يسعى لتجديد معاهدة 1936 التي كبلت الشعب العراقي س?وات طوال فكانت معاهدة بورتسموث.. التي عقدها رئيس الوزراء صالح جبر مع بريطانيا في ميناء بورتسموث .. وتطايرت الانباء.. وما كادت تصل الحروف الاولى منها.. حتى هب الشعب العراقي.. بقيادة طليعة النضال الحزب الشيوعي مع كافة القوى التقدمية. ومحاولات القوى القومية لحشر نفسها في ما جرى. بحماس ضئيل لانها وجدت في الانتفاضة الشعبية التي عرفت فيها بعد (وثبة كانون) ارتفاعاً في اسهم اليسار.. وطغيان شعاراته على شعاراتهم المتوجه باغصان القومية.. كنا نأخذ طريقنا الى دار المعلمين العالية.. لان طلبتها رغم حماسهم ووعيهم كانوا مع?ضين للفصل أو الطرد من الأقسام الداخلية ولذلك كان للبعض منهم التحفظات.. كانت تمزقها صرخات طلبة الحقوق وضجيجهم.. وتلتحم الصفوف بأتجاه كلية الهندسة مقابل دائرة التجنيد.. ومديرية الري .( وقهوة عرب) في منطقة الكرنتينة.. ثم الباب المعظم.. وكلية الطب حيث يداوم قتيبة الشيخ نوري ورافد صبحي اديب ونمضي بأتجاه شارع الرشيد حيث ترتفع الشعارات وتتعالى الهتافات. ويلوح رجال الشرطة بالعصي.. والبنادق.. ولكن بحذر شديد ولا يلتحمون بل (يصطادون) مؤخرة المتظاهرين.. أو العابرين وقد تعرض عدد كبير من الناس المتطرفين للاعتقال بحجة انهم كانوا مشتركين في التظاهرات.. لأن دولة التحقيقات كانت مطالبة بتقديم الحساب للرؤساء.. والا فالعواقب الأدارية وخيمة- وكانت القضبة الشعبية تزداد تضخماً ونشاطاً وينضم الى صفوفها المزيد من الجماهير الشعبية بشتى أنتماءاتهم. تآلفت فيها الروح الوطنية والعداء المطلق... للاستعمار وعملائه. وكان اللهب يزداد عندما تسيل الدماء.. الفتى قيس الالوسي يسقط في الاعظمية. شهيداً.. دحام الحمال يسقط في ساحة الرصافي مع اجندته التي شربت من دمه الشريف.. المثقف جعفر الجواهري سقط في معركة الجسر الذي اصبح فيما بعد جسر الشهداء.. بدر الذياب محمولاً على الاكتاف وكتفي واحد منها يقرأ قصائد ثورية.. الجواهري بقصائده بعد استشهاد شقيقه جعفر يقلب الدنيا على المستعمرين والعملاء. والجماهير تستمع وتردد وترتفع اصداؤها أتعلم أم أنت لاتعلم/ بأن جراح الضحايا فم
كانت الجماهير تتوقف امام الزقاق الذي كانت جريدة الرأي العام تستقر فيه بجوار جامع الحيدر فأنه... مقابل قهوة البرلمان التي يتردد الجواهري عليها ويلتقي بالمعجبين والشعراء وبعض رحالات السياسة.. ايضاً.. وكانت هنالك ظاهرة رائعة.. تتعلق بمجموعة الموظفين الذين كانوا يعملون في مديرية الاستيراد.. يتركون كراسيهم بالجملة وينزلون الى الشارع.. كما كان المحامون التقدميون وكانت المحاكم في نهاية شارع المتنبي وكذلك غرفة المحامين.. يزحفون الى شارع الرشيد وساحة الرصافي ليشاركوا في التظاهرات وعلى رأسهم المحامي كاظم جعفر الذي قلل البعثيون ولده سلام.. كما انقضوا على والده بالفأس عندما كان يقوم بدفنه في المقبرة.. انه من بعض القرابين التي استشهدت على... مذبح الحرية وكان قبل ان يعمل محامياً ضابطاً اثناء حركة الكيلاني واعتقل بعد فشل الحركة مع بعض الضباط في الفاو ميناء العراق الوحيد على الخليج.