مدارات

تعذيب رهيب وصمود بطولي / عزيز سباهي

لقد حاول طالب شبيب، والقادة البعثيون الآخرون، أن يرجعوا الفظاظة في التعذيب بالصورة الرهيبة التي جرت فيها الى العسكريين تارة، والى نوازع الثأر وما إليها تارة أخرى. لكنهم يتناسون ان البعث قد تربى منذ أيامه الأولى على معاداة الشيوعية في رأس الاهداف التي تضمنها برنامجه الانتخابي الذي ورد في بيانه الانتخابي في صيف 1943. لقد صار الموت هو الأمر الوحيد الذي ينتظره كل معتقل. ولذلك يقول الفكيكي: "وبسبب هذه البدائية في التعذيب والقتل الكيفي، خيم على المعتقلين شعور بالهلع والقلق، وضاعت عليهم مقاييس (التحقيق) ومعاييره. فقد خضع المعترف وغير المعترف، القائد والعضو العادي، المتصدي بالسلاح والقابع في داره، للقسوة ذاتها في التعذيب والإيذاء، وكان الموت أقرب للجميع من حبل الوريد"(1).
بيد أن البعثيين لم ينقلوا لنا، في مذكراتهم، صور الصمود البطولي الذي قابل به قادة الحزب الشيوعي ما صُبَّ عليهم من ألوان التعذيب وأفانينه إلا النادر منها. إلا ان ما نقل عن هؤلاء القادة عن طريق من نجا من المعتقلين من الموت بصورة من الصور، يكفي للتعريف بالشجاعة الهائلة التي واجه بها سلام عادل الجلادين وهم يجربون معه كل ما اتقنوه من فنون التعذيب. فهل يتجرأ من بقي من رموز سلطة الانقلاب على الحديث عن هذا الانسان الكبير وما جرى له من تعذيب يفوق قدرة البشر دون ان يتفوه بشيء؟ واية كلمة يمكن ان تقال وهم يتلذذون بقطع اوصاله.. او ضغط عينيه، حتى تفقدا ماء البصر.. او كيف قطعوا اعصابه بالكلابات، أو كيف واصلوا ضربه على الرأس حتى لفظ انفاسه؟ والصمود الأسطوري ذاته يتكرر مع عبدالرحيم شريف، ومع محمد حسين ابو العيس وهو يكابد العذاب امام زوجته الشابة والأديبة الموهوبة سافرة جميل حافظ التي كانت تُعذب امامه هي الأخرى حتى لفظ انفاسه أمامها.
... والثبات الذي لا يعرف الحد للدكتور محمد الجلبي، وهو يتجرع الموت قطرة فقطرة.. والحديث يطول عن صلابة نافع يونس او حمزة سلمان او حسن عوينة أو صاحب الميرزة او صبيح سباهي او طالب عبدالجبار او الياس حنا كوهاري (ابو طلعت) او هشام اسماعيل صفوة او ابراهيم الحكاك او الصغيرين الأخوين فاضل الصفار (16 سنة) ونظمي الصفار (14 سنة) اللذين لفظا انفاسهما أمام أمهما التي كانت "تتسلى" عنهما بالضرب الذي تتلقاه وهي حامل، وفضلا الموت على ان يدلا الجلادين على الدار التي يسكنها زوج أمهما، جمال الحيدري. لن يكون بوسع أي كاتب مهما اوتي من براعة التصوير، ان يعرض القصة الكاملة لما جرى في (قصر النهاية)(2) و(ملعب الإدارة المحلية) و(النادي الاولمبي) و(محكمة الشعب) وغيرها من الأماكن التي جرى تحويلها الى مقرات للتحقيق والتعذيب، لاسيما بعد ان غاب كثير من الذين شهدوا هذا الجلد، من الضحايا او الجلادين.
ــــــــــــــــــ
* مقتطفات من كتاب "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" ج2