مدارات

المهندس (رواء) : والدي لم ينتحر وفضل المقاومة والتضحية دفاعا عن مبادئه وقيمه النبيلة / علي ناصر الكناني

مازالت تلك الصور المأساوية المؤلمة تتداعى في ذاكرة الصبي (رواء) الذي لم يكن حينها قد تجاوز الثانية عشرة من عمره بدت وكأنها تتراءى امامه من جديد وهو يستذكر تفاصيل تلك اللحظات الحرجة من حياته ومستقبله، بعد ان احس بان مصير والده ومثله الاعلى ومصير اسرته الكبيرة التي احبها وعاش في كنفها سنوات عمره يتأرجح امام ناظريه متداعيا بين خطر الضياع والموت بأبشع صوره..
ساعات وايام مخيفة ومرعبة عاشتها تلك الاسرة الصابرة تعكس في صورها هول المأساة المروعة وهم يرون احلامهم الندية بل احلام وامال كل محبيهم ومناصريهم تنهد بمعاول الانقلابيين الجدد فقبل خمسة واربعين عاما مضت وقف رواء ماجد محمد امين متسمرا أمام والده الذي احتضنه بقوة، تغالبه دموع الحزن والم الفراق الابدي..
في ذلك اليوم الرمضاني الصعب من شهر شباط عام 1963 , لم يكن ماجد امين الذي يعد واحدا من ابرز الضباط الاحرار المشاركين في ثورة 14 تموز عام 1958 والذي تولى فيما بعد منصب المدعي العام لمحكمة الشعب آنذاك، يتوقع في ذلك اليوم، ان هناك من سيخبره وعبر هاتف منزله بخبر وجود انقلاب على الثورة ونظام الحكم.. مما حال دون حركة الجميع باتجاه التحرك السريع للانقضاض على القائمين بالمحاولة وانقاذ الثورة ومما لم تجد في ذلك نفعا فقد فات الاوان وانقضى كل شيء حيث تمت التصفية الجسدية للزعيم وكبار قادته من اخوانه الضباط على وجه السرعة على الرغم من ان هناك من تصدى بسلاحه المتواضع لعناصر السلطة الجديدة ولكن من دون جدوى ومن هؤلاء المرحوم ماجد محمد امين الذي حاولنا من خلال هذا اللقاء ان نستعرض جوانب من سيرة حياته عبر اللقاء بنجله المهندس (رواء) الحاصل على شهادة البكالوريوس في هندسة النفط. فالمرحوم ماجد محمد امين الذي طالما تردد صدى صوته الجهوري في قاعة محكمة الشعب خلال محاكمة رجال العهد الملكي، الذي تعرض للقتل اثناء مقاومته لرجال السلطة ابان الانقلاب المذكور حيث قال:
ولد والدي المرحوم ماجد محمد امين عبد الله الامامي في مدينة النعمانية التابعة لمحافظة واسط عام 1922، وقد واصل دراسته الابتدائية والمتوسطة والاعدادية فيها , ليقبل بعد ذاك في الكلية العسكرية في بداية الاربعينيات وحصل على شهادة الماجستير في العلوم العسكرية، حين كان برتبة رائد..ثم واصل دراسته الجامعية في كلية الحقوق والاركان ليتم تعيينه بمنصب آمر لأحد الألوية في منطقة جلولاء بعد ان حصل على رتبة رائد ركن وليتزوج بعدها في عام 1948 ثم انتقلنا الى مدينة الحلة حيث يسكن اخوالي واهل والدتي. رغم انه كان مكان عمله في منطقة جلولاء
وفي الخمسينيات كان والدي قد انضم إلى مجموعة من الضباط الاحرار وقد وثق ذلك في المصادر التاريخية ومنها كتاب عن ثورة تموز عام 1958 للباحث ليث عبد الحسن الزبيدي.وفي عام 1957 شارك في احدى دورات الهندسة العسكرية في الولايات المتحدة الامريكية وحصل فيها على المرتبة الاولى على اقرانه وانجز الدورة بفترة قياسية ولكن للأسف الشديد تعرضت الوثائق والصور والمستندات الخاصة به الى التلف والحرق والدمار بعد مداهمة ما يسمى بالحرس القومي عام 1963 لدارنا اثر الانقلاب الذي حصل ذلك الوقت.

من هنا بدأت الحكاية..

وكيف تمت مفاتحة الوالد (رحمه الله) للاشتراك بالثورة؟
لكون والدي هو احد الضباط الاحرار فقد فاتحه احد اصدقائه المقربين ويدعى (ابو شوكت) وهو من الاخوة التركمان ومعروف بنزاهته و وطنيته واخلاصه للاشتراك بهذه الثورة وقلب نظام الحكم، فوافق من دون تردد، حيث التقى بعدد اخر من الضباط من بينهم العقيد الراحل فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب بعد ثورة 14 تموز وقد توطدت معرفته وصداقته بوالدي ابان تلك الفترة، مما شجعه على الاشتراك بالثورة وكنا حينها نسكن في مدينة الحلة وانتقلنا بعدها الى بغداد للسكن في منطقة راغبة خاتون. وأود ان أشير هنا إلى إن والدي كان لا يطلع احداً على اسرار اشتراكه بالثورة وما كانوا يخططون له بخصوص اسقاط النظام الملكي وانضمامه الى حركة الضباط الاحرار، حتى عائلته.

معرفة سابقة بالزعيم ..

اذن كيف تعرف والدكم على الزعيم عبد الكريم قاسم ؟
لوالدي معرفة سابقة بزعيم الثورة الراحل عبد الكريم قاسم , حيث تعرف عليه. خلال اشتراكه في معارك فلسطين عام 1948. إذ كان ضمن قطعات احدى وحدات الهندسة العسكرية فضلاً عن تعرفه هناك على عدد اخر من الضباط الاحرار. وعلى الرغم من كوني كنت صغيرا في السن الا انني تعرفت فيما بعد على الكثير من التفاصيل عن هذه الثورة عن طريق والدتي ومطالعاتي للمصادر والكتب التي تناولت تلك الفترة.وبعد نجاح الثورة تم تشكيل محكمة الشعب حيث تم اختيار المرحوم فاضل عباس المهداوي رئيسا لها ووالدي كمدعٍ عام فيها.

ماذا جرى في محاكمة عبد السلام عارف..؟
هنا سألت المهندس (رواء) ان يحدثني عن بعض ما حصل في محاكمة الرئيس الاسبق عبد السلام محمد عارف الذي كان احد المشاركين بثورة 14 تموز عام 1958 بحسب ما تشير المصادر التاريخية ومن ثم اتهامه بالتآمر على سلامة الثورة والزعيم فقال:من المواقف التي لاتنسى عن تلك الفترة هي اصرار والدي على تطبيق حكم المحكمة الذي صدر بحق عبد السلام محمد عارف لاتهامه بالخيانة العظمى الا ان المرحوم عبد الكريم قاسم رفض تطبيق هذا الحكم بحقه وطالب بتخفيفه الى السجن، وقد حدث ذلك بعد جلسة المداولة التي دارت بين المرحوم فاضل المهداوي رئيس المحكمة ووالدي، وامام اصرار والدي على تطبيق وتنفيذ الحكم بحق عبد السلام اضطر المهداوي للاتصال بالزعيم عبد الكريم واخباره بالأمر، وعندما طلب الزعيم من والدي تخفيف عقوبة الاعدام عن عبد السلام رفض ذلك قائلا له ان هذا الشخص سوف يكون اول من يتآمر عليك ولذلك ارجو قبول استقالتي. فصدر الحكم على عبد السلام بالسجن بدلا من الاعدام. ولم يكن والدي حاضرا لحظتها في قاعة المحكمة وبقي جليس المنزل لمدة خمسة عشر يوما.

الزعيم في بيتنا..!

وعلى اثرها زارنا الزعيم في بيتنا ليطلب من والدي العدول عن استقالته والعودة للمحكمة، وفعلا بعد ايام عاد والدي الى عمله . تقديراً للزعيم ومكانته عنده.وقد دخلت يومها الى غرفة الاستقبال لاجد نفسي امام زعيم الثورة فاستقبلني بابتسامته المعهودة واجلسني في حجره ثم سألني عن دراستي حيث كنت يومها في الصف الرابع الابتدائي، فقبلني وشجعني على ان اكون الأول على اقراني في الدراسة.

ماذا حدث في (8) شباط..؟
ثم حدثنا المهندس رواء عما يتذكره عن الانقلاب الذي حصل في 8 شباط عام 1963 قائلا :مازلت اتذكر ذلك اليوم المشؤوم من صباح يوم الجمعة وكان قد حل علينا شهر رمضان المبارك وكنا صائمين رغم صغر سننا وقد جلست مع اخوتي الاخرين لمشاهدة افلام كارتون من التلفزيون. وكان والدي يتأهب للذهاب مع صديقه ابوشوكت لغرض الصيد وهنا رن جرس الهاتف ليطلب احد الاشخاص التحدث مع والدي، ليعلمه بان هناك محاولة انقلاب ضد الحكم , فدخل والدي على الفور الى غرفته واستبدل ملابسه، بملابس مدنية اخرى واخفى تحت قميصه مسدسه الشخصي، وقد أحس ساعة الوداع الاخيرة والابدية قد حانت فقبلنا الواحد بعد الاخر وهمس في اذني وقد اغرورقت عيناه بالدموع بان اهتم بوالدتي واسمع كلامها ولا اخالف لها امرا واوصى بقية اخوتي كذلك بهذا الامر. فخرج برفقة صديقه ابو شوكت الذي كانت سيارته على ما اذكر نوع (مسكوفج حمراء) الا انه لم يخبرنا بوجهته، وقال لوالدتي بان سائقه الشخصي المرحوم كاظم سياتي الينا لنقلنا الى مكان اخر، كما طلب من جنود الحماية الموجودين قرب دارنا بعدم المقاومة حرصا منه على حياتهم والذهاب الى عوائلهم فيما لو تعقدت واشتدت الامور.

في الطريق الى الصويرة والنعمانية..

وبعد اسبوع تقريبا اذاع التلفزيون خبر مقتل والدي وهو في طريقه الى الصويرة والنعمانية في منطقة تقع بين الصويرة والزبيدية بعد ان تعرف عليه احد الاشخاص في احدى نقاط السيطرة وقد قاوم بسلاحه رجال السلطة وتمكن من قتل عدد منهم مما ادى الى تكثيف النيران عليه اثناء مطاردته في احد البساتين فتمكنوا منه، وهنا اود ان اشير الى إن هناك شائعات قد ترددت في حينها تدعي بانه انتحر ولكن استطيع ان اجزم هنا بالنفي والمستحيل ان يقدم على مثل هذه الخطوة وذلك لأنه انسان مؤمن ويخشى الله سبحانه، ولكن مع الاسف الشديد اننا ولحد الان لم نعثر له على قبر او شاهد سوى انه دفن في المكان الذي استشهد فيه وهذه الحالة المؤلمة شملت جميع الضباط الاحرار الذين شاركوا في الثورة وضحوا بأنفسهم من اجل وطنهم واستقلاله وحريته، اما آخر رتبة حصل عليها فكانت عميد التي لم يمض عليها سوى شهر واحد تقريبا، قلت للمهندس رواء ماجد محمد امين، لنعد الى لحظات خروجكم من المنزل بعد مجيء سائق والدكم الشخصي المرحوم كاظم فأضاف قائلاً: بعد ان اوصى والدي (رحمه الله) والدتي قبل خروجه الاخير بان نذهب مع سائقه الخاص المرحوم رئيس عرفاء كاظم مريوش بسيارتنا المدنية باتجاه دار جدي في منطقة النعمانية وفي حالة تعذر ذلك الذهاب الى الحلة حيث بيت اخوالي. وفعلا توجهنا الى الحلة لأنه كانت هناك صعوبات امام طريقنا للوصول الى النعمانية في مدينة الكوت. وبعد ان ذهبنا بصحبته الى منطقة بغداد الجديدة حيث بيت اعمامي عاصم وحامد اللذين كان احدهما قائداً لإحدى الفرق العسكرية ولكن خوفا عليهم من انتقام السلطة منهم قررنا مغادرة بيت اعمامي الى مكان اخر.

العائلة والصحاف ..

ما علاقة الصحاف بعائلة ماجد محمد امين ؟
علاقات متشابكة..

وما هي طبيعة العلاقة التي تربطكم بعوائل وابناء بعض اصدقاء الوالد من ضباط الثورة ..؟
كانت لنا علاقة طيبة جدا بعدد من هذه العوائل آنذاك ومنها عائلة المرحوم فاضل المهداوي والمرحوم جلال الاوقاتي الذي اغتيل هو الاخر في منزله. واود ان اذكر هنا ايضا ان لوالدي علاقة طيبة وجيدة بالأديبين فخري وناجي جواد الساعاتي اللذين كانا يستضيفانه في البساتين العائدة لهما في كربلاء. رغم ان والدي كانت له علاقة جيدة بالسيد جلال الطالباني رئيس الجمهورية الحالي، الا اننا لم نلتق احدا سوى السيد حميد مجيد موسى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي وطلبنا الوحيد من حكومتنا الحالية هو رد الاعتبار لوالدي ولجميع الضباط الاحرار الابطال الذين باتوا طي النسيان ولا يتذكرهم احد. ومن الجدير بالذكر ان للمرحوم ماجد محمد امين ابناء آخرين اضافة الى رواء وهم كل من، الدكتور ولاء تولد 1949 وهو بروفيسور في طب الاسنان ورئيس قسم الاسنان في الجامعة الاردنية وثناء وهي معلمة متقاعدة مواليد 1950 وسلام ويحمل شهادة الدكتوراه في طب وجراحة الامراض النسائية وهو من مواليد عام 1952 وثائر وهو متخصص في هندسة طب الاسنان وحاليا في الدنمارك ومحمد رفعت ونداء وهي مهندسة معمارية كانت تعمل في المطار ابان عهد النظام السابق وتركت العمل لكثرة المضايقات التي كانت تتعرض لها من قبل السلطات الامنية آنذاك. أما أخر العنقود فهو صارم وهو مهندس مدني يعمل لحسابه الخاص.
حجة وفاة بعد 48عاماً!

لقد اخبرني المهندس رواء بأمر لا يخلو من العجب والغرابة وهو انه حصل مؤخراً وبعد مراجعات دامت ثلاث سنوات للجهات والدوائر المعنية بغيه الحصول على شهادة وفاة لوالده المرحوم ماجد محمد امين بعد ان استدعته مؤسسه الشهداء في محافظة واسط لتخصيص قطعة ارض للعائلة في مسقط راس والده النعمانية ومن بين المستمسكات لإكمال المعاملة كانت شهاده الوفاة للشهيد ,وعلى حد قوله ,هل لك ان تتصور بأني اتعبتني كثرة المراجعات مما اضطرني للاتصال بالأستاذ حميد مجيد موسى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الذي اخبرني بأن هناك مداولات في مجلس النواب لاعتبار شهداء انقلاب عام 1963هم شهداء الوطن ,وفعلا صدر قرار ديواني بذلك وتم على اثرها تزويدي بكتاب الى محكمة الاحوال الشخصية في الكاظمية على ان تقوم بأحضار شاهدين بأعمار كبيرة ليتم منحنا حجة وفاة بعد 48 عاماً على استشهاده!
ـــــــــــــــ
* المدعي العام لمحكمة الشعب عام 1958