مدارات

مع المسيرة الثوريةالخطوات الأولى تظاهرة الكاظمية (12) / ألفريد سمعان

كنت على موعد مع الرفيق المسؤول لسبب أجهله.. وعندما ألتقينا اعطاني عنواناً وطلب مني أن اقصد المكان المحدد والتقي أحد الرفاق وهنالك سوف أعرف ما هي المهمة التي تنتظر التنفيذ..قصدت المكان.. كان في منطقة العوينه.. في زقاق ملتو غير مبلط وهنالك بضعة دكاكين تبيع اللحم والخضروات وخباز.. وحركة دائبة من الاطفال والنساء.. كلها تؤكد الفقر والبساطة التي يعيشها سكان هذه المنطقة. طرقت الباب.. وسألت أحدى النساء التي أجابت دون أن تفتح الباب..
- من أنت.. وماذا تريد؟
فأجبت.. أني صديق (س) اريد أن اراه لان لدي أمانة أريد أن اسلمها له.. فكان الجواب
- أنتظر سوف نخبره..
ولم يتأخر الجواب فقد جاءت أشارة السماح لي بالدخول..
كان منزلاً بسيطاً.. أرضه مبلطة بالطابوق (الفرشي) وهنالك باب متواضع على اليسار.. اشارت لي اليه المرأة التي لم اشاهد وجهها.. فدخلت.. ووجدت رجلاً يجلس على (فراش) على الأرض.. وهنالك مصباح صغير.. وإنارة خافتة.. رحب بي ودعاني للجلوس على الفراش.. كانت حواليه مجموعة من الصحف وادوات الشاي.. (وبريمز) وفانوس.. وبضعة صحون وحاجات مبعثرة بلا انتظام.. ولعله لاحظ استغرابي من الحالة التي يعيش فيها.. فاعتذر.. بأن الغرفة لم يجر تنظيفها وترتيب اوضاعها.. سألني عن وضعي وصحتي واحوال الحركة الطلابية ثم أشار بشكل عابر إلى أنه يعرف?ي بالأسم.. ولم أسأله كيف.. ومتى.. لان الاسئلة كانت محظورة في غير الهدف الذي جئت من أجله.. كما كان هنالك نوع من الرهبة والاحترام.. لمثل هذه الأماكن التي كانت تسمى (البيوت الحزبية) وهي التي كان يلجأ اليها الرفاق الذين يقودون الحركة بسرية.. من قبل عناصر نذرت نفسها للعمل السري والتكتم على تحركات الحزب ونشاط اعضائه.. وكانت عادة مطعمة بعناصر ذات تاريخ ونشاط سابق.. مما عرضها للمطاردة وكان الافضل ان تكون في إطار عائلي لكي لا تثير الشبهات حيث يكون احد الرفاق متزوجاً أو يعيش مع والدته لاضفاء الطابع العائلي والتخلص م? الاسئلة الحرجة وفضول الاخرين.
وكان هؤلاء الرفاق يعيشون في الحد الادنى من المصاريف المكرسة للغذاء والسكن وبعض الضروريات وفي أضيق نطاق وكانت مخصصات هؤلاء الرفاق لاتكاد تسد الرمق.. وهنالك من كان يتعرض لفقر الدم ونقص المناعة ومواجهة متطلبات الجسم الغذائية ولن اذهب بعيداً عندما اقول ان هنالك رفاقاً شباباً ماتوا (من الجوع) وكانوا يتحركون من الفجر الى حلول المساء وربما في الليل لتأدية الواجبات المناطة بهم في ظروف غذائية وصحية سيئة.. وهذا ما كانت تسمح به الامكانيات المتوفرة.وكانت تقابل بالصبر والاعتزاز واستقبال المتاعب بصدور نضالية رحبة. ولع? من الأمثلة البارزة المشهود لها بتاريخ نضالي حافل هو القاء القبض على زكية خليفة وشقيقها كاظم خليفة مع احد الرفاق في البيت الذي كانت فيه مطبعة الحزب (الرونيو) وكانت زكية الفتاة ترتدي الملابس الشعبية وتحمل (الزنبيل) وتوصل البيانات والنشرات.. إلى الأماكن المطلوبة.. وهي نموذج ليس الا، فقد قام بهذا الدور العشرات من الرفيقات الباسلات مثل سعاد خيري، وأم موسى، وكان قسم منهن نصيرات حملن البندقية كمقاتلات. اخذ الرفيق (المختفي) يبلغني بالعمل الذي سوف نؤديه وهو قيادة تظاهرة في الكاظمية. في اليوم الفلاني وإعطاني التعلي?ات في أطار معين.. لان قيادة الكاظمية هي التي سوف تتحمل العبء الاكبر وسوف نتلقى تعليمات أخرى أثناء اللقاء في أحدى ساحات الكاظمية اثناء التجمع.
قصدنا الكاظمية في اليوم المحدد.. كانت هنالك حركة غير طبيعية.. شباب يرتدون ثياباً ملونة وبمجاميع صغيرة.. وهنالك ما يدل على جهلها بالمنطقة كما كان هنالك آخرون ينظرون (بريبة) وهذا ما عرفناه فيما بعد.. كنا نتصورهم (معنا) وتبين فيما بعد أنهم (ضدنا) يتربصون بنا الدوائر.. وينتظرون تحركنا وهذا ما جرى فعلاً حيث بدأت الشعارات ترفع والنداءات تتصاعد.. والهتافات تدعو للمشاركة.. في تظاهرة ضد الاستعمار والرجعية.. وما كادت الخطى تتجمع حتى انهالت مئات قطع الحجارة على المتظاهرين من الذين كانوا ينتشرون على الارصفة والمحلات?ثم ظهرت (الشرطة) وهراواتها وصرخاتها.. لقد تفرقت التظاهرة بعد مقاومة مرتبكة وانتشر القادمون في شتى الانحاء، في البساتين والازقة.. بعض الأبواب فتحت ومنحت الحماية للبعض من المتظاهرين وآخرين ومعظمهم لا يعرفون دروب المنطقة تفرقوا هنا.. وهناك.. كان معي اخي عدنان.. واثنان من منطقة السنك يوئيل وصبحي الذي اصبح نجاراً.. وكنت ارتدي بدلة انيقة... دخلت أحد البساتين.. والتقيت عدداً من المشاركين.. وطلبت منهم الا يتحدثوا وأن يتركوا الحديث لي.. وفجأة ظهرت مجموعة من الاشخاص يرتدون (الدشاديش) ومعهم (أفندي) ورفعوا هراواتهم فص?خت بهم.. من أنتم وماذا تريدون؟ ان من يمد يده علينا سوف ينال العقاب اللازم.. نحن اصدقاء في زيارة الكاظمية.. فقال (الافندي) سيروا معنا الى مركز الشرطة وهنالك نتفاهم. وسرنا معهم ولم نتعرض للأذى.. وظهر ان (الافندي) كان من الشرطة السرية وفي المركز كان هنالك (مفوض) معصوب الرأس ويبدو ان (حجارتنا) اصابته حيث قاومنا ولم نستسلم لحجاراتهم ولكن امكانياتهم كانت اكبر كما أنهم كانوا مستعدين مسبقاً للمواجهة والاعتداء ولم ينتبه تنظيم الكاظمية لذلك فوقعنا في هذا الشرك.. مع صرخات. إنهم يهود.. يهود اقتلوهم.
في مركز الشرطة صرخ بي المفوض:
- ما اسمك؟ وفجأة، تنبهت للصرخات بشكل عقلاني (فريد سلمان) خشية أن يحسبني من اليهود اذا ذكرت اسمي الغريب.. وضربني ولم يصبني اول مرة لا سيما ان صرخت بوجهه.. (لا تضرب) . ثم أعاد ضربي بقدمه وتخلصت من الضربة برشاقة الرياضي.. ووجدت أمامي اكثر من مئة شاب على وجوه قسم منهم دماء.. وجروح.. يستندون الى حائط أخذونا بعد ذلك الى مركز شرطة السراي في الرصافة.. وتطايرت الأخبار وجاءت بعض العوائل، واذكر أن أحد المفوضين (ألح) علي بالمضايقات فقام بتفتيشي أكثر من مرة لاني طالب حقوق وفي المرة الأخيرة قلت له: (لم يبق غير الحذاء ?ل تريد أن أنزعلك ياه) وهي اشارة مهينة معروفة، كانت هذه المرة الاولى التي توقفت فيها واطلق سراحي بكفالة بعد اسبوعين.. كما ان الرفيق الذي اعطاني التعليمات هو الرفيق (عبد السلام الناصري) من الكوادر العمالية من البصرة. ولا ادري حتى الان لماذا تقرر ان تقام هذه التظاهرة في الكاظمية.. ولم نكن نناقش تعليمات الحزب.. لحبنا واحترامنا لقراراته وقيادته.. الا في اطار المركزية الديمقراطية التي تعلمناها من خلال التربية الثورية التي زرعها الحزب في قلوبنا. حدث هذا في أواخر عام 1948.