مدارات

مع المسيرة الثورية.. الخطوات الأولى .. في الطريق لمعتقل (ابو غريب)(13) / الفريد سمعان

بعد الانتصار الذي تحقق باسقاط وزارة صالح جبر ومعاهدة بورتسموث التي وقعها مع بريطانيا، والتظاهرات الصاخبة التي اجتاحت بغداد.. الكرخ.. والرصافة واصبح شارع الرشيد منبراً لمطالب الشعب وليس لاسقاط المعاهدة فقط.. ارتفعت الشعارات السياسية، المطالبة بالحرية، وإيجاد حلول للبطالة، ورفع المستوى المعاشي للفرد العراقي.. وتشكيل الاحزاب والمنظمات الديمقراطية التي كانت تعمل خلف الستار، ضمن تنظيمات سرية مثل اتحاد الطلبة، واتحاد الشبيبة، ورابطة المرأة، ونقابات العمال، والكيانات الزراعية السرية التي كانت تعمل بحذر شديد، لأن ?نتقام شيوخ العشائر والقابضين على آلاف الدونمات من الاراضي الزراعية، كان عنيفا وفيه الوان من وسائل الارهاب والظلم وترويع الفلاح الذي يتمرد او يرفض أي طلب للاقطاع البغيض. ولشيخ العشيرة. لاسيما اذا كان لديه امرأة او فتيات جميلات يطمع فيهن الشيخ او احد أولاده او ازلامه من (السراكيل) وقد بلغ التعذيب الذروة باستعمال السياط والضرب والاعتقال او محاولة (دفن) الاشخاص في حفر ويبقى الرأس هو الوحيد الذي لا يطمر وكانت تسمى هذه العملية (بالطامورة) والتهديد الأخير هو الطرد الذي يضع الفلاح على مفترق الطرق ولايدري ماذا يفعل?وكيف يتصرف. وهذا منتهى الاذلال في سجل الانسانية.
في الوقت الذي تم فيه فضح ما كانت تتعرض له الطبقة العاملة التي كان التعامل معها يجري حسب ما يفرضه كبار التجار واصحاب رؤوس الاموال مستغلين عدم وجود قانون يحمي العمال وينظم موقعهم على الخارطة البنيوية للمجتمع في اطار النظام السائد القائم على استغلال الاثرياء للفقراء والكادحين وفرض شروطهم والتحكم بحياتهم ومستقبل اولادهم في الوضع القائم وما يليه من اعوام غادرة.
وكان الاتجاه الذي رسمه حزب الكادحين، الحزب الشيوعي العراقي هو مواصلة النضال والضغط على النظام والقوى الرجعية والاقطاع وكل المؤيدين لهم. لانتزاع اوسع ما بالامكان من المطالب العادلة والافادة من ضعف وهشاشة وتراجع قوى الظلام في مواجهة حملة رايات الكفاح والتحدي وصيانة كرامة الانسان. وتنفيذاً لهذا الاتجاه الثوري عقدت عدة اجتماعات في مختلف مناطق بغداد شاركت في قسم منها وساهمت بالقاء القصائد ومنها قصيدة مطلعها :
يا جيرة الغرب هل وافتك انبانا
هوى طغاة وبات الشعب سلطانا
ومقطع: في جبهة تحمل التوحيد عنوانا
كان ذلك في منطقة الكريمات بالكرخ وكان استقبال الجماهير حماسيا كما دعيت لالقاء قصيدة في مقهى الجزيرة العربية في الكرخ منطقة الارضروملي وكان معي الشاعر الجبوري من الحزب الوطني الديمقراطي وكنت متوجسا منه لشهرته، ومطلع القصيدة:
سلْ الاجداث لو سمعت خطابا
لعــل بريقها الدامي جوابا
وفرحت عندما استقبلها الجمهور بالتصفيق والحماس وهنا نؤكد ان شعار الجبهة كان مرفوعا منذ ذلك الوقت. انطلاقا من الشعار الذي رفعه الرفيق فهد (قوّوا تنظيمكم قووا تنظيم الحركة الوطنية) وكان الغرض الواضح هو زج الجماهير في المعارك النضالية وتحشيد اكبر عدد من المناضلين لمقارعة الظلم والعبودية وسلب حقوق المواطنة.
واذكر ان اسعد الشبيبي القى قصيدة باسقاط الملكية مما دعا نوري السعيد للطلب من والده ان ينقله لخارج العراق وإلا سوف يُعتقل وقام الوالد بذلك. وعلى صعيد آخر كانت دوائر التحقيقات واجهزة مخابرات النظام الملكي تعمل بهدوء بعيدا عن الاستفزاز والتحديات، وكانت تقوم برصد العناصر النشيطة التي كانت تقود التظاهرات وتحرك الشارع وتتصدر الاجتماعات، وتملأ الساحات بهتافاتها ونشاطها.
كانت الواقعة الكبرى حيث استغلت قوى الظلام انطلاق العناصر القيادية والحماس الذي منحها فرصة الانطلاق من مواقعها السرية ونشاطها المكتوم وحذرها الذكي اثناء العمل السري فاستطاعت ان تضع يدها على بعض القادة والعناصر النشيطة فاخذت تعتقلهم، بهدوء، وبدأت التحقيقات الصارمة يرافقها الوان من التعذيب وترويع الاجواء العائلية والتهديد بانتهاك الاعراض واستغلال كل ما يساعدهم على انتزاع الاعترافات والقاء القبض على اكبر عدد من اعضاء الحزب.. وجاءت الكارثة عندما اعترف مالك سيف الذي كان يقود الحزب انذاك، وكان يعرف كافة القادة في?محليات وتنظيمات المدن الكبرى وابرز الاعضاء واكثرهم نشاطا.. واطلاعا، فتم القاء القبض على اكثر من الف عضو؛ رفيق وصديق واعلنت الاحكام العرفية، وفتح معتقلات في احد المواقع العسكرية في ابي غريب احدها كان انفرادياً أي كل شخص في زنزانة، ومعتقل آخر كانت تضم غرفه مجاميع من ابناء المحافظات، لكل غرفة منظمة كما فتح معتقل الوشاش وكان قائما مقابل مطار بغداد، وكان يدعى معسكر الوشاش.
وجاءت بعض التعليمات بالحذر وايجاد اية وسيلة تنقذ الرفاق من الاعتقال، وتنوعت الاساليب. هنالك من غادر الى الريف او الانتقال الى مدينة أخرى مستغلا وجود اقارب او السفر خارج العراق، او اللجوء الى بيت الاصدقاء الموثوق بهم ولديهم الاستعداد لاستقبال مناضل مطارد من قبل الاجهزة البوليسية والتحقيقات الجنائية.
اتصل بي المنظم الذي لم يلق القبض عليه وطلب مني ان اتصرف بهدوء مع تجميد الاجتماعات وسوف يوافيني بالاخبار بين آونة وأخرى. وطلب مني الحذر والتصرف بشكل هادئ وعقلاني وترقب الساعات القادمة بحكمة وذكاء.
في احدى الليالي 19/12/1948 أي قبل ستة ايام من حلول عيد الميلاد، طرق باب الدار في منتصف الليل وخرج والدي، فطلبوا منه احضاري لان هناك أمر القاء قبض، ولما استفسر والدي عن الموضوع قالوا له: سوف يتأخر بضع ساعات ويعود الى الدار بعد اخذ بعض الاستفسارات والاجابة عليها.
ناداني والدي بعد ان استيقظت والدتي الحنون والدموع تغمر وجهها وتنهمر من عينيها، وهي توصي الشرطة بأن يعتنوا بي، واعادتي للدار باسرع ما يمكن، وكانت الاجابة؛ نعم سوف نؤدي واجبنا، كما ينبغي.
وبعد قضاء ساعتين في دائرة التحقيقات الجنائية ولم اكن وحدي حيث وجدت امامي رفاقا آخرين لم أكن أعرفهم ولكني كنت أراهم اثناء التظاهرات، ولم نجد فرصة للتحدث مع بعضنا حيث كنا مطوقين بعيون حاقدة، وأخرى تحمل بين طياتها بعض الأسى والترقب، وتحركت السيارات في ساعات الليل الأخيرة.. وكنت في احداها في المقعد الخلفي، وبجانبي اثنان من البوليس السري بعد ان وضعوا القيد في يدي، ولم اكن اعرف الى اين يذهبون بي!