مدارات

ذكريات نضالية / جبار حسن محمد – أبو سركوت

في البداية أريد أن أعبر عن عظيم فرحي وسعادتي بحلول الذكرى الثمانين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي، حزب، فهد وحازم وصارم وسلام عادل والحيدري والعبلي ونافع يونس والشيخ علي، والمئات بل الآلاف من المناضلين الذين واكبوا ويواكبون هذا الحزب المجيد، والشهداء الذين قدموا أغلى ما يملكون في الحياة، قدموها في سوح النضال المشرفة من أجل تحقيق حلم وأماني الشعب، في حياة حرة كريمة وفي وطن تسوده العدالة والمساواة الإنسانية.
هذه المناسبة العزيزة والأثيرة على قلوب الشيوعين والمناضلين الثوريين الشرفاء. وتتضاعف هذه الفرحة بالنسبة لي شخصياً، حيث أن مولدي يصادف في نفس سنة تأسيس الحزب، سنة 1934.
وأنا طالب في الصف الأول متوسط في ثانوية أربيل، وجدت نفسي بين طلاب ثوريين من يساريين وقوميين ينشطون وهم في حراك وغليان سياسي، يشاركون في المناسبات والأحداث السياسية المتنوعة، وفي خضم هذا الحراك الشعبي في سنوات 1946- 1949، وجدت نفسي أشارك أقراني الطلبة في المناسبات القومية والأحداث الوطنية، إحتفالات نوروز (العيد الوطني للكرد) وكانت احتفالاتنا تُطوق من قبل الأمن والشرطة. وكانت حكومة العراق من جانب آخر تقصف القرى الكُردية البارزانية وتقتل وتشرد وتهجر النساء والاطفال والشيوخ من قراهم. وقد شاهدت بعيني العوائل ال?هجرة من قراها وقد نقلتهم السيارات وهم في حالة يرثى لها من التعب والجوع الى كراجات أربيل وسط إستياء وإستنكار الناس، وعلى أثرها نظم الشيوعيون والقوميون، تساندهم الجماهير، مظاهرة صاخبة في الشارع الرئيسي في قلب مدينة أربيل، حيث كشفوا للناس مأساة هؤلاء المُهجرين ومدى التعسف والتعامل أللاإنساني للحكومة مع أبناء الشعب الكُردي الذين كانوا يطالبون بالعيش الكريم وتوفير ضروريات الحياة، وضد التعسف والتمييز ضدهم! كما واتذكر جيداً الشيوعي الشجاع الطيب الذكر شيخ محمد محمد، المعروف بـ(شيخه شه ل)، صاحب مكتبة أربيل وهو واقف?على سور درجات القلعة المطل على الشارع العام وهو يفتت بين يديه قطعاً من الخبز الأسود المخلوط بالتراب والزيوان والتبن، وهو يصرخ أمام الجماهير المحتشدة بأعلى صوته "هل هذا طعام يليق بالبشر؟!".
وفي إحدى الإحتفالات بعيد نوروز أتذكر الخطيب المناضل "عاصم الحيدري" شقيق الشهيد جمال الحيدري وصالح ومهيب (أستشهد تحت التعذيب من قبل جلادي 1963)، وممتاز ودكتور جمشيد. واتذكر الشهيد جمال الحيدري في لقاء بدارهم مع إخوانه الصغار، ممتاز وجمشيد، وهو يحثنا قائلاً: "أوصيكم بالمثابرة على الدراسة والتعلم والقراءة ثم القراءة"!
ولن أنسى الوجوه الطيبة والنشطة لأولئك المناضلين الذين كانوا يجتمعون أحياناً في مكتبة أربيل لصاحبها الشيوعي شيخ محمد، ومنهم الرفيق عزيز محمد وجوهر حسين الملا وأخوه رقيب حسين الملا وعلي فتاح وأنور حمد أمين دزه لي وغيرهم، وقد غابت ملامحهم عني ولا أتذكرها، وهم يتبادلون الاخبار والاحداث السياسية، التي لم أكن أدرك ماذا تعني. كان الشيخ محمديجلس أمام المنضدة في مقدمة المكتبة ذات المساحة الضيقة، ويذهب بجريدة الأساس منحدراً نحو الشارع المؤدي إلى المتصرفية صارخاً بصوت عال "جريدة الأساس .. جريدة الكادحين"، يوزعها على ?لمشتركين ويبيع منها. ولقد كلفت بمهمة، بعد أن نلت شرف العضوية في حزب التحرر الوطني وانضمت الى حلقة تثقيفية بكراس مستلزمات كفاحنا الوطني، مع المرحوم عمر خزندار وقمنا بجمع تواقيع عمال بناء السكك الحديدية في أربيل، المضربين ضد الشركة الإنكليزية وممثلها مستر كويل الذي كان يظلمهم ويستغلهم في العمل، على عرائض لتقديمها للمسؤولين وسرنا مع المضربين في مظاهرة إلى أمام المتصرفية. ولا تفوتني ذكرى مقهى حسن رضا الواقع تحت الطريق الصاعد إلى قلعة أربيل، حيث كان مكان تجمع المهتمين بالسياسة وهواتها من مختلف الأطياف ومتابعة ت?وراتها. وهناك تعرفت على المناضلين الخالدين (عادل سليم، وأسعد خضر- أبو نجاح) وهم يتابعون الأخبار السياسية وتطورات محاكمات وإعادة محاكمات القادة الشهداء/ فهد وحازم وصارم/ وإستبدادها من المؤبد إلى الإعدام، والتي تم تنفيذها في 14-15/ شباط 1949. في وسط كل هذه الاحداث والتحركات الجماهيرية في المناسبات المختلفة، وجدت نفسي أشارك فيها بإندفاع وحماس، رغم صغر سني وانا بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة سنة من عمري ..!
في العشرين من كانون الثاني 1949، علمت من رفاقي الطلبة إنه ستنظم مظاهرة جماهيرية في صباح يوم الجمعة 21/1/1949 في وسط المدينة. فتسللت بعد الفطور دون علم أهلي وأنا متسلح بقطعة خشبية خفيفة بطول ثلاثة أرباع المتر تقريباً لمواجهة الشرطة، المتسلحة بالدونكيات)، إذا هاجمونا. وحضرت مع رفاقي الطلبة وجماهير من مختلف المهن من كسبة وعمال ومثقفين وطلبة، وكان التجمع في الشارع العام، وننطلق من هناك بإتجاه المتصرفية، وعند إكتمال التجمع بدأت الهتافات تنطلق مطالبة بسقوط حكومة نوري السعيد، وكنت واقفاً في الصف الأمامي، وقبل أن ?تحرك المظاهرة ظهرت قوة كبيرة من الشرطة يتقدمها مديرهم ، في مواجهة المتظاهرين وهم مدججون بالدونكيات، فطلب مدير الشرطة، جميل، التفرقة وإنهاء المظاهرات، وبعد الإصرار على التظاهر والهتافات، وعدم التجاوب مع طلب مدير الشرطة، أمر شرطته بالهجوم على المتظاهرين، ونحن بدورنا هاجمنا الشرطة بما لدينا من وسائل مقاومة من عصي وبوكس حديد، وحمل يعضنا الرماد لذره في عيون الشرطة، وأثناء تبادل الضربات بين الطرفين ، شعرت وأنا اتبادل الضرب معهم بالقطع الخشبية الخفيفة وهم ينهالون علينا بالدونكيات ، شعرت بضربة قوية على مؤخرة رأسي ?على إثرها فقدت الوعي وسقطت على أسفلت الشارع، ولم أستفق إلا وأنا بين يدي شرطيين يمسكان بياقتي وينهضانني من الأرض والدماء تسيل من مؤخرة رأسي وقاداني مشياً على الاقدام وأمام أنظار الناس المتجمعين على طرفي الشارع، إلى مركز الشرطة. وهناك رأيت أناساً عديدين في التوقيف، أتذكر إثنين مصابين منهم (حسين علي غالب، ورشاد علي). وبعد فترة أخذوني مع رشاد إلى المستوصف القريب لمداواة جروحنا، وكنت فخوراً بنفسي والناس ينظر إلينا، لم أحاول الهرب من الشرطي الوحيد الذي رافقنا، وكأنني في نزهة، ولم تطل أيامنا في توقيف أربيل، فسفرو?ا إلى بغداد واودعونا مركز للموقوفين أظنه كان معسكر الرشيد. لقد كانت توجيهات قيادة الحزب هو القيام بالمظاهرات في عدة مدن عراقية في يوم وساعة واحدة كما علمت لاحقاً ومن وثائق الحزب علمت، أيضاً، ان الضربات التي وجهت إلى قيادة الحزب جاءت بعد إعترافات الخائن مالك سيف في التحقيقات الجنائية. وعندما قدمونا إلى المحكمة العسكرية أمام المجرم العقيد النعساني، التي لم تراع أعمار الموقوفين دون الثامنة عشرة، ومن مختلف المدن العراقية. وقد صفونا ثلاثة أو أربعة صفوف أمام المنصة. وبعد إتمام الإجراءات الروتينية ومرافعة الادعاء?العام (لم أفهم منها شيئاً)، جرى النطق بالحكم علينا هكذا: الصف الأول بسنتين سجن وكنت أحدهم، والصف الثاني سنة واحدة، والصف الثالث ثلاث سنوات، ولا أتذكر المفرج عنهم أو عددهم، وكنت لا أفهم هذه الإجراءات وملابساتها ولا واقع الأحكام تلك وانا أنظر إلى هذه المسرحية الغريبة أمامي وكأنني في عرض مسرحي..! وكنت على يقين مع الرفاق الآخرين ان مأساتنا ما هي إلا بضعة أيام وسيخرجنا الشعب من السجون والمعتقلات عبر تظاهراته العارمة بإسقاط السلطة العميلة للإستعمار. نقلنا إلى السجن المركزي وحشرنا في منطقة الفرن التي كانت مكتظة ب?لسجناء العاديين وفي كل يوم كانت تاتي وجبات جديدة من المحكوم عليهم ويرحلون وجبات منها إلى سجون أخرى. واستقرت بي الامور في القسم العلوي من الفرن مع د. معروف خزندار، والفنان آزاد شوقي من السليمانية، وحمه بكر المغني، وعمر حياو، وسليم الجلبي، وحسين أحمد الرضي (سلام عادل)، لم أعرفهما إلا حين نودي عليهما ضمن وجبات النقل وهما غارقان في الجدال والنقاش، وكذلك موسى جعفر، وشاب من النجف باسم مجتبى، والعنيزي من البصرة، وفي القسم السفلي كان آراخاجادور، ود. محمد عبد اللطيف، الاستاذ الجامعي، كنا ثلاثة على قصعة شوربة لوبيا? كذلك آرتين الساعاتي الذي فتح صفاً لتعليم الفرنسية، والشاب عبد الحسين من بعقوبة الذي شكل فرقة نشيد لإنشاد (السجن ليس لنا نحن الأباة .. السجن للمجرمين الطغاة، ولكننا سنصمد سنصمد وأن لنا مستقبلاً سيخلدُ .. لنا الغدُ لنا الغدُ نحن الاباة كما قام المحامي يعقوب شاؤول، وهو يهودي من الحزب الوطني الديمقراطي، وجيء بوجبة من طلاب الكلية العسكرية لا أتذكر عددهم، ولكن كان من بينهم الرفيق عبد الوهاب طاهر، الذي اصبح لاحقاً عضو اللجنة المركزية للحزب، وهو من البصرة. وبعد فترة نقلت جماعة أربيل إلى محجر سجن كركوك وكنا حوالي?عشرة سجناء منهم: إسماعيل رسول الذي أصبح في السبعينات محافظاً لأربيل، محمود كاني آغا، جمال من ديبكه، خليل عزيز- خياط، سمكو- خياط، بابكه حنه أخو أبو حكمت، نافع خوشناو، توما شابا، رشاد علي من كويسنجق وهو طالب في دار المعلمين الإبتدائية.
أنني فخور جداً حيث واكبت خلال مسيرتي الحزبية التي امتدت (64) عاماً وحسب إمكانياتي وطاقاتي المتواضعة مع هذا الحزب المناضل المضحي من اجل حرية وكرامة وسعادة الشعب العراقي بجميع قومياته واطيافه وإعلاء شأن الوطن.
كل المجد والعز للشهداء الذين ضحوا بدمائهم وأصبحوا مشاعل ينيرون الدرب لرفاقهم من بعدهم لتكملة المسيرة من أجل التحرر من العبودية والظلم والدكتاتورية. أن هدير الثوار التواقين للحرية والديمقراطية والعدالة الإنسانية متواصل وهو لم ولن يتوقف رغم كل المصاعب والعراقيل لتحقيق الوطن الحر والشعب السعيد.
وختاماً وفي هذه الذكرى العطرة أُوجه أجل وأسمى آيات الوفاء والتحيات لشهداء حزبنا الشيوعي، وجميع شهداء حركة التحرر الوطني في كردستان والعراق والعالم.

ستوكهولم 2014