مدارات

مع المسيرة الثورية …الخطوات الاولى ..معتقل ابو غريب (14) / الفريد سمعان

توقفت السيارة في مكان ما.. بعد مسيرة لم تكن قصيرة حيث تركت الشارع العام. كما جاء في احاديث الشرطة، فالعينان كانتا معصوبتين والظلام دامس، ولا يمكن التأكد من الموقع الذي وصلت اليه السيارة.. وبخشونة مقصودة تم سحبي وقادني احدهم الى مبنى متواضع لم يكن السير فيه سهلا.. وبعد توقف قصير قال احدهم (سيدي جئنا بهم) فقال. احدهم ادخلوهم.. وازالوا العصابة عن عيني فوجدت نفسي امام ضابط برتبة رئيس.. وسأل من هذا؟
- انه الفريد سمعان..
- ها.. هو هذا!!؟
- نعم..
ثم طلب الى احد الجنود واسمه هجول، خذوه الى الزنزانة، وكان الظلام دامسا والبرد شديدا يوم 19/12/1948 دخلنا ممرا ضيقا وبعد مسافة قصيرة فتح باب خشبي وقال هجول بصلافة.. ادخل.. يله.. ودفعني ثم اغلق الباب واوصده وذهب.
وجدت نفسي في ظلمة.. لا اعرف اين انا.. كنت ارتدي بدلة.. ومعطفاً خفيفاً.. اطلقت نظراتي في الظلمة الداكنة.. وقلت لنفسي.. واكاد اشعر بنوع من الزهو.
- ها انت. مناضل.. تعاني من موقف حرج.. كما كنت تقرأ عن الاف المناضلين في شتى بقاع العالم، وعبر معارك الحرية التي خاضها الكادحون ضد الاسياد.. ورجال السلطات الظالمة.. لابناء الشعب في كل العهود والبلدان.. والان ماذا ستفعل؟ لابد من اتخاذ بعض الاجراءات لمواجهة المحنة. ليس لديك سرير ولا غطاء ولا اية وسيلة مألوفة، وبعد انتظار.. لم يدم طويلا.. اصبح نصف المعطف (دوشكاً) والنصف الاخر (لحافا) والحذاء (وسادة).. والظلام سماء بلا نجوم.. وتقرفص الجسد.. لملمت الساقين كليهما.. للحصول على شيء من الدفء الذي لم يعرف كيف يستقر على الجسد المتعب..
اطل الضوء من نافذة لا يزيد عرضها عن قدم واحدة.. مربعة يغطيها سلك خفيف.. مشبك.. باب خشبي.. وجداران من الجانبين لم تتم معالجتهما بالجص او البياض. وجدار اخر يبدو قديما..
بعد ساعة.. فتح الباب ودخل الجندي (هجول)
- اسمع. انت شنو اسمك.. هذا جاي.. ورغيف خبز وهذه تنكة.. بعد ان تفطر ستذهب للمرافق وتعود.. اياك ان تتحدث حتى مع نفسك.. او تخاطب غيرك او ترفع صوتك وهذه عشرة سكائر.. اخذناها من العلبة التي في جيبك مع قشر الشخاطة.. ولا شيء سوى ذلك.
آثرت الصمت.. اغلق الباب وذهب.. بعد تناول الفطور.. وشرب الشاي.. اخذت اتفحص المكان شبرا شبرا.. وارهف السمع.. كانت هنالك حركة وابواب تفتح وتغلق.. وكلمات تنطلق.. بحذر شديد لا تفصح عن شيء ولا تشير الى اية لمحة.
رحلت الشمس وبدأت رحلة الظلام.. ولم يكن امامي سوى الخطوات في زنزانة انفرادية.. لا يزيد طولها عن مترين وعرضها اقل من ذلك..
انقضت الليالي الثلاث.. الاولى من ظلام دامس.. وفي الليلة الرابعة جلبوا لي فانوسا. وكانت مفاجأة.. حملت معها على شيء من الارتياح.. بعدها استدعيت للتحقيق الذي رافقته التهديدات.. بالاعتراف.. وتقديم كل الاسماء والمعلومات عن التنظيم والانتساب الحزبي.. استرجعت ما تعلمته ان لا بد من الصمود والتحدي.. انكرت انني منتسب للحزب.. كما كانت تقول التوجيهات لكي لا يترتب على ذلك المزيد من الضغوط لافشاء الاسرار وكان السؤال.. اذا كنت غير منتم.. لماذا كنت تخرج مع المتظاهرين.. بحماس بالغ.. وهتافات.. تتصاعد مع خطوات المتظاهرين.. و?نزل للشارع قبل غيرك.. رافق ذلك بعض الصفعات.. مع التهديد بضرورة الاعتراف والا فسوف تشاهد الويل والثبور.. رغم اننا نعرف عنك الكثير.. فقد اعترفوا عليك.. فلا تنكر.
وعادوا بي الي المعتقل. وهنا عرفت اننا في وحدة عسكرية في (ابي غريب) وفهمنا فيما بعد باننا معتقلون في (اصطبل) للخيل قسم الى زنزانات صغيرة.. ومع مرور الايام.. وبعد محاولات دحر الصمت الجاثم وبحذر شديد.. عرفت ان جيراني المحامي شريف الشيخ ومن الجانب الاخر.. جمال الحيدري ومعه رفيق صابر.. وبان الزنزانة التي تخصني تطل على الممر الذي يسلكه الجميع عندما يأخذون طريقهم يوميا مرتين الى المرافق الصحية بشكل انفرادي..
وكانت المفاجأة.. المروعة.. الكبيرة.. وهي وجود زنزانة الرفيق فهد مقابل زنزانتي مع انحراف يسير.. وكانت الزنزانة الوحيدة التي يغلق بابها لفترة طويلة ولا تفتح الا لماما..
كان المجمع على شكل حرف T. في الاعلى اربع زنزانات وعلى الممر.. ثلاث زنزانات.. على كل جانب.. كان بجوار الرفيق فهد.. عزيز الحاج.. ثم غضبان السعد.. يقابلها الرفيق الشبيبي ثم جلال عبد الرحمان.. ثم يهوذا صديق، بعدها مرافق صحية.. وباب الخروج.. ومن ثم زنزانتان في احداهما الاخوة الاكراد.. من بينهم عزيز محمد واحمد غفور وكريم محمد.. والاخرى للرفاق الارمن.. منهم آراخاجا دور.. وانترانيك واسطيفان وسواهم..
استقرت الاوضاع واصبح المكان مألوفا.. وتصاعدت الروح المعنوية.. وبدأت المطالبات الفردية.. لتحسين الطعام.. وكان شاياً وقطعة جبن وخبز صباحا وفي الظهيرة خبزاً مع مرق فاصوليا.. باذنجان والعشاء تمراً وخبزاً.. واستطعنا ان نتحدث مع بعضنا خلال الجدران.. وبحذر شديد كنت (اتسامر) مع جمال الحيدري.. نتحدث عن الادب الروسي والاوضاع العامة.. والتوقعات، ويبلغني بالمعلومات التي تصل اليه، كما كنت اتصل بشريف الشيخ.. الذي كان يلتزم الصمت في معظم الاحيان ويتجنب الحوار المتواصل . ولا انسى ان المعتقل زودنا بالبطانيات لكل معتقل بطان?تان لم يكن للنظافة علاقة بهما.. وقد ادى هذا الجفاء والحرمان والمعاملة الجافة لنتائج سنعالجها في وقت آخر.