مدارات

من الهيمنة الاقتصادية الى الهيمنة السياسية .. "البرجوازية الجديدة" تحث الخطى! / د.صالح ياسر

ثمة ظاهرة جديدة ملفتة للنظر، ربما لم تظهر بقوة في الانتخابات السابقة بل كانت البدايات حينذاك "جنينية"، ونقصد بهذا نشاط البرجوازية الطفيلية التي تريد الاستفادة القصوى من ثمار "الانفتاح" اقتصاديا وتعزز مواقعها، وان ينعكس ذلك بمواقع لها في السلطة السياسية، من أجل تامين مصالحها على صعيد السلطة والبناء الفوقي عموما. وأثناء التحضيرات للانتخابات البرلمانية القادمة (نيسان 2014) وفي ظل الاستقطاب الطائفي المتفاقم ظهر مليارديرات يسعون اما لتشكيل قوائم كبيرة او تمويلها وتوظيف ذلك لتحقيق هيمنة على المستوى السياسي ايضا. وهم لا يترددون عن اعتماد اية وسيلة للوصول الى غاياتهم. ولا ينبغي نسيان الدعم الخارجي، الذي يحصل عليه هؤلاء لتحقيق اهدافهم فلم يعد هذا الدعم عيبا او مثلبة عند البعض.
تستدعي هذه القضية بعض الملاحظات الضرورية لتبيان الصراع المحموم الذي يخوضه هؤلاء لتحويل هيمنتهم الاقتصادية المتنامية الى هيمنة سياسية عبر وسائل مختلفة وفي مقدمتها المشاركة النشيطة في الانتخابات البرلمانية لعام 2014 وإحراز "نصر" في هذه الانتخابات يتجلى بعدد المقاعد وتوظيف ذلك لضمان "شرعية" اضافية على نشاطات هؤلاء ولثرواتهم وجذورها الملتبسة. وهكذا وباسم "الديمقراطية" تتم عملية "تبييض" الاموال بحيث يتم التمويه على "ابائها الشرعيين"!!.
نظريا، يمكن القول ان عملية الصراع والتناقضات الحاصلة في البنية الطبقية لا تجري فقط بين الطبقة المهيمنة (او الفئة المهيمنة او الائتلاف الطبقي المهيمن) وبين الطبقة (او الطبقات) النقيض، بل يمكن ان ينشأ الصراع وتحتدم التناقضات بين فئات الطبقة المسيطرة حول كيفية توزيع فائض القيمة (بأشكاله المختلفة: الربح، الريع، الفائدة.. الخ) بين عدة شرائح من الطبقة المالكة لوسائل الانتاج. ولكن حركة التوزيع ونسبته والتي تتبعها حركة التراكم تؤدي الى تحقيق تفاوتات داخل الطبقة المالكة لوسائل الانتاج والمستحوذة على الفائض المذكور. ومن اجل الحصول على اقصى حجم من فائض القيمة تسعى كل من هذه الفئات لاستخدام سلطة الدولة، بمستوياتها المختلفة، لصالحها. ومن الضروري الاشارة الى ان جميع فئات الطبقة المسيطرة تعقد " اتفاق سادة جنتلمان " من اجل ان تقوم سلطة الدولة بـ " صيانة " سيطرة الطبقة السائدة وتعزيز هيمنة الفئة المسيطرة.
وإذا ما بحثنا في مسار الاستقطابات الطبقية الاجتماعية الملموسة في بلادنا فانه يمكن القول ان حصيلة السنوات العشر الأخيرة بينت تفاقم التفاوتات الاجتماعية وتعمق الفرز الطبقي والاجتماعي اضافة الى تفاقم مستويات الفقر والتهميش. وتعود اسباب ذلك الى العلاقات الاجتماعية وفي مقدمتها علاقات الملكية وبنية السلطة التي افرزت هذه الاوضاع وفي مقدمتها الفقر والتهميش الاجتماعي الواسع و تحويل الثروة من الفقراء الى حيتان السلطة وحاشيتها وتمركزها ما عزز مواقع شرائح محددة. فما جرى ويجري من استقطاب ليس قدرا محتوما بل هو نتاج بنية السلطة ومنظومة علاقات الانتاج السائدة وهيكل الملكية، وأيضا بنية الاقتصاد العراقي وطبيعته الريعية والأحادية الجانب.
فعلى خلفية تعاظم الريوع النفطية تنامت سمات الطابع الريعي والخدماتي والتوزيعي للاقتصاد العراقي التي وظّفتها " النخبة السياسية " في توسيع شبكة "الزبائنية" الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية، وتطوير آليات الاستيعاب والسيطرة. وقد استفادت بعض الطبقات والشرائح الاجتماعية، بدرجات متفاوتة، من هذه الطبيعة المزدوجة للاقتصاد العراقي. كما نمت في إطار ذلك فئة بيروقراطية متموضعة في الشرائح البيروقراطية الحكومية والسياسية والعسكرية والأمنية العليا التي تنحدر في الأساس من الفئات الوسطى والفقيرة. إن نقطة تكوين هذه الفئة حدثت جراء "حيازتها" لجهاز الدولة، أي انها "تملك" الدولة من خلال" حيازتها" أجهزتها. وقد آلت إلى هذه الفئة، بفعل عملية نهب المال العام الشديدة، حصة كبيرة من ثمار " النمو الاقتصادي المرتفع جداً " الناجم بالأساس عن تعاظم الريوع النفطية. ويعني ذلك أن هذه الفئة امتلكت مصدراً اقتصادياً جديداً و"خاصاً" لقوتها يعزّز قدرتها على تطوير الشبكات "الزبائنية مع شرائح عديدة صاعدة بسرعة صاروخية.
وبالمقابل، تنامى دور البورجوازية الطفيلية التي باتت تضم شرائح متنوعة من "رجال الأعمال الجدد " الذين عمل بعضهم مقاولين ثانويين عند القطاع الحكومي وقبلها مع (مؤسسات اعمار العراق) التي انشأها الاحتلال، أو في مجال الوساطة في عقود التجارة الخارجية التي كانت "العمولة" تشكل نسبةً كبيرةً من قيمتها الإجمالية، او القيام بتوظيفات اموال خارج البلاد. وخلال هذه الفترة نشأ التحالف " غير المرئي" بين " النخبة " البيروقراطية وبين الفئة الطفيلية في إطار ديناميات العلاقة الزبائنية بينهما، سعيا لتعزيز هيمنة هذه الشرائح.
تمت عملية إعادة تعريف أدوار اللاعبين الاجتماعيين- الاقتصاديين- السياسيين بنتيجة تطبيق وصفات صندوق النقد الدولي وتدشين المرحلة الانتقالية من خلال " التحرير الاقتصادي" والترويج لاقتصاد السوق دون قيد او شرط، سعيا وراء ولادة نظام جديد، يشكّل "رجال الأعمال الجدد" قاطرته، وتشكل منظومته في اطار احتواء القطاعات الشعبية، وإدماجها في ديناميات المشاركة السياسية والمجتمعية، وأدوات ضبطه السياسي والاجتماعي. وبالمقابل فقد وصل برنامج " التحرير الاقتصادي " إلى مفرق طرق مفضيا الى ازمة بنيوية عميقة بإنتاجه لشروطها.
وتشير الحصيلة الملموسة حاليا لتراكمات آثار الازمة البنيوية بعلائمها الكثيرة وما رافقها من سياسات، إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الثروة والدخل قد بدأ بالتبلور ولا يحتاج الامر الى كبير عناء للتدليل عليه. وقد نجم عن ذلك، بالتبعية، تباينات شديدة في مستوى معيشة الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة طبقا للتغير الذي حدث في مداخيلها وأثّر على مواقعها الاقتصادية. فهذه السياسات أثّرت سلبا على دخول ومستوى معيشة الطبقات الكادحة والفئات الوسطي، في حين أدت في المقابل- إلى تحسن واضح في دخول بعض الشرائح والفئات. فبحسب آخر مسح متاح لدخل الاسرة في العراق، وهو يعود الى عام 2007، يظهر ان الخمس الأغنى (اي 20بالمئة من الأسر يحصل على 43% من مجموع الدخل على مستوى البلاد (وهو في عام 2014 اكثر من ذلك بكثير)، بينما يحصل 20 بالمئة الأفقر على 7 بالمئة تفاوتات شديدة فيها بين المحافظات، وبين الريف والمدينة.
وعلى اساس الملاحظات اعلاه استنتج التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني التاسع للحزب الشيوعي العراقي (ايار 2012) ان مجتمعنا يشهد حالة من الحراك في بنيته وتركيبته الطبقية ووزن وثقل مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية.. حيث يتعزز دور الكومبرودار التجاري والفئات الطفيلية والبيروقراطية على حساب الكادحين وذوي الدخل المحدود. وتشير الحصيلة الملموسة لتراكمات آثار هذه السياسات إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الدخل يجري الآن لصالح رأس المال وضد صالح العمل في محوره الرئيسي وهو ما يعبر عن الشكل الرئيسي للتناقض الأساسي المحرك لهذه المرحلة.
ثمة امثلة عديدة على هذه التباينات ولكن لنأخذ مثلا واحدا. فلو قارنا ارقام الموازنات العامة السنوية سنلاحظ بأن الفقراء يتحملون العبء الاكبر في الإيرادات العامة، فالأرقام الواردة في موازنة 2012 على سبيل المثال تشير الى ان حصة الضرائب المفروضة على الفقراء وذوي الدخل المحدود تعادل اضعاف تلك المفروضة على الاغنياء !
كما تبلغ حصة الفقراء في اجمالي مصروفات موازنة 2012 ما يعادل حوالي 42 بالمئة في حين تبلغ حصة الاغنياء 58 بالمئة .
الفقراء يستفيدون من المصروفات العامة بدرجة اقل من الأغنياء، في حين ان حالة الاغنياء تبدو معكوسة تماما، حيث يستفيد هؤلاء من المصروفات العامة بدرجة اكبر من الفقراء وذوي الدخل المحدود، مقابل تحملهم عبئا اقل من المصروفات العامة. ويعني هذا كله ان الموازنات لا تحقق العدالة بين السكان، بل العكس تماما انها تعمق التفاوتات الطبقية والتهميش الاجتماعي والاستقطاب.
ولم يكن عمق تأثير هذه السياسات أفقيا فحسب، أي على مختلف الطبقات الاجتماعية فقط، وإنما امتد للتأثير عليها بشكل عمودي، أي داخل فئات الطبقة الواحدة. فهناك، داخل الطبقة الواحدة، فئات معينة تضررت ضرراً كبيرا من تلك السياسات، في حين استفادت شرائح محددة، داخل نفس الطبقة.
ومع ذلك يمكن الاشارة الى ان المسوحات الإحصائية الاقتصادية والاجتماعية التي أجريت خلال السنوات الاخيرة من طرف عدة مؤسسات من بينها وزارة التخطيط العراقية كشفت أن حوالي ربع السكان يعيشون تحت خط الفقر ورميهم في بيئةٍ محفوفةٍ بالمخاطر الشديدة، ومفعمة بالحرمان والقلق والاضطراب النفسي والسلوكي والثقافي والاجتماعي. وتشير نتائج الدراسة التي اجراها البنك الدولي بالاشتراك مع وزارة التخطيط العراقية، والتي نشرت في 25/1/2009، ان 44 بالمئة من سكان العراق يقل دخلهم عن 85 دولار، وهذا لا يتجاوز ثلث المعدل الشهري البالغ 255 دولار. هذا وكانت بعثة الأمم المتحدة في العراق "يونامي"، قد اعلنت في شباط 2014 أن ستة ملايين عراقي من أصل 33 مليوناً لازالوا يعيشون تحت خط الفقر في بلد تتجاوز موازنته المالية السنوية 100 مليار دولار.
وما يثير الانتباه ايضا هو التفاوت الملحوظ في مستويات الفقر بين المدينة والريف. حيث تشير المعطيات الإحصائية الى أن مستويات الفقر في الريف مرتفعة جدا لدرجة أن نسبة الحرمان هناك بلغت 65 بالمئة أي أنها تعادل حوالي ثلاثة أمثال النسبة في المناطق الحضرية.
نحن، إذن، أمام خريطة جديدة من علاقات القوى الطبقية والاجتماعية، تشكلت تحت تاثيرات الريوع النفطية وما تركته من تفاعلات، على الاقتصاد والطبقات الاجتماعية بعد 2003 بحيث عززت مواقع بعضها اقتصاديا وبقوة وتواجه التناقضات والتوترات الناجمة عن ذلك بوسائل عدة.
فكما معروف فان النظام في العادة لا يقيم سيطرته على العنف فقط ولكن أيضاً على توزيع العطايا والمنافع لفئة (او مجموعة فئات) تصبح هي قاعدته الاجتماعية. فمثلا يلاحظ خلال فترة النظام السابق كيف لعبت الريوع النفطية هذا الدور وكيف تقلصت قاعدة النظام الاجتماعية بعد الحصار الاقتصادي وبالتالي تقلص الريوع المذكورة، ونفس الامر يجري خلال الفترة التي تلت 2003. فعند تعاظم الموارد المتأتية من الربوع النفطية أساسا، يربح النظام قواعد يضمن ولاءها بالمال.
وبالمقابل فان الفئات الاجتماعية التي تشكل قاعدة النظام تتألف عادة من " جماعات وطوائف وأفراد "، وهي تتصارع مع بعضها البعض، وفي صراعها يستخدم البعض علاقاته بالنظام من أجل الحصول على موارد أو للحصول على امتيازات لا يحصل عليها منافسوه. الكل تقريباً يحاول ممارسة ذلك، البعض ينجح تماماً والبعض ينجح أقل، والبعض الأخر يفشل فينزوي في ركن بعيد. بعبارة أخرى، هناك كثير من "رجال الأعمال " الجدد متورطون مع السلطة، حتى ولو كانوا يقضون الليل والنهار في الدعاء عليهم !.
كل هذا يجري في ظل تفكك الدولة التي بدأ يتقاسمها " ممثلو " الهويات الفرعية، وما يمور به المجتمع من حراك، وما يتركه من استحقاقات وتحديات وآثار.

لابد من انتزاع مقاعد في البرلمان وان طال الانتظار!!

ثمة ملاحظة هنا لا بد من ابرازها هنا ونقصد بذلك التسييس المتعاظم لقطاعات من " البرجوازية الجديدة "، وتحتاج هذه الملاحظة الى دراسات عيانية وملموسة للبرهنة عليها. ولكن يمكن ملاحظة هذه الاتجاهات بالعين المجردة ايضا. فنظرة سريعة على الاحزاب الحاكمة والبرلمان تبين انهما اصبحا الساحة الأساسية لنشاط " الرأسماليين الجدد " السياسي. ويبدو أن " رجال الأعمال الجدد " هم احدى الفئات التي تشهد معدلا مرتفعا للتسييس في المجتمع العراقي الآن. ففي الوقت الذي تستمر بعض الفئات الاجتماعية في الانسحاب من السياسة، يلاحظ في ذات الوقت كيف ينشط " الرأسماليون الجدد " في الالتحاق بالأحزاب المتنفذة، وان بمستويات متفاوتة ترتبط بموقع الحزب المعني بصناعة القرار (بعدا او اقترابا)، والاستحواذ على مناصب فيها، هذا بالإضافة بالطبع إلى خوض معارك شرسة من أجل انتزاع مقاعد في البرلمان. وعملية التسييس هذه لا تقتصر فقط على زيادة أعداد " رجال الأعمال " في مجلس النواب، ولكن على احتلالهم ولأول مرة مناصب هامة فيه.
ربما يطرح هنا سؤال قوامه: ما الجديد في إقبال " رجال الأعمال " على الاحزاب الحاكمة؟ ألم تكن تلك الاحزاب الحاكمة دائماً مفتوحة أمامهم؟ ألم يكن الحزب الحاكم دائماً هو الجسر الذي يعبر عليه رجل الأعمال إلى " جنة " العلاقات الحميمة بالسلطة، وبالتالي تحقيق هدفه " الاسمى ": تعظيم الربح؟
الجديد في الموضوع هو أن بعض "رجال الأعمال الجدد " لا يدخلون الاحزاب المتنفذة اليوم من أجل تحقيق مصالح شخصية فحسب فقد تجاوزوا ذلك، بل إنهم - وهذا هو الاهم - يريدون التأثير على السياسات العامة باعتبارهم "شريحة " موحدة الاهداف والمصائر بغرض تكييفها لمقتضيات نمو رأسمالية من طراز خاص، راسمالية ريعية وطفيلية وفاسدة ونهابة في ان. فالرأسمالية العائدة اليوم بعد سنوات جدب الحصار وممارسات وسياسات النظام المقبور وجدت في انتظارها دولة شديدة التضخم، تسيطر على جانب هام من الاقتصاد نتيجة استحواذها على الريوع النفطية المتعاظمة، لم تفلح كل الشعارات الليبرالية في إخفائه. وهي دولة لا يتأتى لكثير من " رجال الأعمال " النمو والازدهار إلا بالتجارة والعمل معها رغم ان بعضهم تعود سب السلطة الحاكمة في النهار وعقد صفقات مع ممثليها في ظلام الليل!.
ان النزعة السياسية المتنامية لـ "الرأسمالية الجديدة " يتم حالياً احتواؤها في مشروع " رسملة " الدولة والمجتمع بشكل تدريجي وبما لا يتعارض مع المصالح الكبرى للبيروقراطية العليا، وهو المشروع "الإصلاحي". هذا المشروع يتضمن تسوية بين البيروقراطية العليا والطفيلية على اقتسام النفوذ والثروة.

أفندية وباشوات.. ولكن من طراز خاص !!

وبالمقابل كلما مالت هذه الرأسمالية للتسييس، كلما تطلب منها ذلك الدفع نحو إدماج قطاعات من " الطبقة الوسطى " الحديثة في المجال السياسي. وكما يقول المصريون " عندما يدخل الباشوات إلى السياسة يحتاجون إلى أفندية معهم ". ويبدو انه بدون أفندية في السياسة لن يكون هناك أية باشوات علما ان "أفنديتنا" و "باشواتنا" هم من "طراز خاص"!!.
إن التبدل في الخارطة الطبقية، نتيجة جملة عوامل لا يتسع المجال هنا للخوض في تفاصيلها، قد ساهم في تعديل ميزان القوى داخل فئات البرجوازية لصالح الجناح الطفيلي البيروقراطي والكومبرادوري، في حالات أخرى، وإعادة رسملة الطبقات القديمة.
وإضافة لذلك من المفيد الإشارة الى أن مأزق التنمية وما شهده من إخفاقات في هذا المجال لا يعزى فقط الى العوامل الخارجية، على خطورتها وآثارها السلبية الكبيرة، بل يتبع كذلك من مواطن خلل داخلية وقصور كبير في بلورة الاستراتيجيات التنموية المطلوبة انطلاقا من الحاجات الفعلية للتطور ومراحله الملموسة والآليات المؤسسية الضرورية لتنفيذ الاستراتيجيات تلك. ويمكن الإشارة هنا الى القضايا التالية:
- تفشي ظاهرة الهدر المالي والاقتصادي واتخاذه أشكالا وصورا كثيرة منها المبالغة في الإنفاق على مشاريع وفعاليات غير مجدية اقتصاديا.
- تعاظم العسكرة وتجلى ذلك في الاندفاع المحموم على شراء السلاح والمعدات العسكرية (التسلح) فضلا عن انتشار الفساد بجميع أنواعه من رشاوى وسرقات وعمولات ومضاربات.
- زيادة حدة التفاوت الاجتماعي بين الطبقات، وسيادة شرائح مختلفة من الطفيلية والكومبرادورية.
خلاصة القول أن المجال الرئيسي لنشاط " الرأسمالية الطفيلية " يكمن في مجاول التداول وليس في مجال الانتاج وخلق القيم. إن الأنشطة والدخول الطفيلية لا ترتبط بالعملية الانتاجية، وإنما ترتبط بعمليات الوساطة والتوزيع والتداول. ويعني ذلك أن الارباح التي تجنيها " البرجوازية الطفيلية " ناتجة عن نشاط لا يضيف شيئاً الى الانتاج.
يتخذ رأس المال العامل في المجالات التي تنشط فيها البرجوازية الطفيلية سمات محددة ويقوم على استغلال النفوذ والفساد، واستخدام قوى " غير اقتصادية " في التعامل وتحقيق الدخول والأرباح الطائلة، ويهيمن عليه طابع المضاربة الواسعة. ويلاحظ أن هناك درجة عالية من السيولة في حركة رأس المال التجاري والمضارباتي، إذ ينتقل أصحاب رؤوس الاموال الطفيلية من نشاط الى اخر بسرعة شديدة سعيا وراء أعلى ربح ممكن وأعلى معدل سرعة لدورة رأس المال. وثمة ظاهرة متميزة يجب ابرازها وهي " السيولة البالغة " التي تنتقل بها بعض العناصر من مراتب " البروليتاريا الرثة " الى مراتب الطفيلية الجديدة. ويلاحظ كذلك أن الدخول والثروات الطفيلية لا تتولد عادة من خلال الاساليب " المألوفة "، بل هي تقوم على عمليات للنهب الذي تمارسه عناصر ومجموعات منظمة هي أشبه ما تكون بعناصر المافيا التقليدية.
و يمكن الاستنتاج بأن "الشرائح" الرأسمالية الطفيلية بإمكانها أن تكون حلقة وصل بين أقسام هامة من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الانتاجية وانتشار الفساد الاقتصادي والإداري والسياسي الواسع.
وللتدليل على ذلك يمكن الاشارة الى ان شركات اجنبية للمضاربة بالأموال عبر الانترنت بدأت بالظهور في السوق العراقية. هذه الشركات تعد المتعاملين معها بالربح في وقت وجهد قليلين من خلال تعاملات مالية تتم عبر الشبكة العنكبوتية دون الحاجة الى رؤوس اموال كبيرة او الذهاب الى مكان عمل محدد.
طبعا لاتملك هذه الشركات مقرات او بنايات بل تملك موقعا الكترونيا ويتم التعامل معها من خلال وسطاء محليين، اذ يبدأ التعامل بإيداع مبالغ اولية لاتقل عن الـ 2000 دولار امريكي في الحساب المصرفي للشركة ومن ثم الدخول الى سوق المضاربات الالكترونية، من دون ضمانات او تسجيل حكومي. علما ان هذه الشركات لاتمتلك الغطاء القانوني كما انها غير مضمونةٍ لاقترانها بعمليات مقامرة واحتيال، اضافة الى ان قيامها باستغلال رؤوس الاموال لتحقيق ارباح سريعة دون استثمار حقيقي يؤثر سلبا على تعاملات السوق المالية والاستثمارات عموما.
ومن جهة أخرى يتعين التأكيد على أن الطفيلية ليست ظاهرة قاصرة على القطاع الخاص أو النشاط الخاص، بل إنها تمتد الى القطاع الحكومي، ويعني ذلك أن الطفيلية مرتبطة بالشرائح المختلفة للبرجوازية. كما يمكن الحديث عن نمو " الطفيلية " من خلال القطاع العسكري، وخاصة في بلد كالعراق يتمتع بموارد اقتصادية كبيرة وتجنح القوى المسيطرة فيه نحو بناء قدرات عسكرية " غير عادية ". فمثلا تضاعف النفقات المتعلقة بالأمن في العراق خلال ست سنوات فقط (2006-2011) وبلغ مجموعها 64.14 مليار دولار وما يرتبط بذلك من صفقات اسلحة بعضها يزكم الانوف.
وبالمقابل يلاحظ ان البرجوازية الطفيلية بحكم طبيعتها تبدد الفائض الاقتصادي في صرف واستهلاك بذخي أو تهربه للخارج. فتبعا للجنة النزاهة النيابية فان حجم الأموال العراقية التي تم تهريبها خارج البلاد منذ عام 2003 قد بلغت 130 مليار دولار، وتم ذلك عن طريق تجار مدعومين من قبل جهات سياسية عراقية. وكثير من هذه الأموال هربت عن طريق (صندوق إعمار العراق) الذي بدأ عمله عام 2003 ولغاية 2008. وكشفت اللجنة عن ملاحقة 120 مسؤولا حكوميا، بينهم وزراء ومدراء عامون، على صلة بملفات الفساد المالي والأموال المهربة.
ومن جهة اخرى تقرّ أوساط سياسيّة واقتصاديّة عراقيّة بوجود عمليات واسعة النطاق لغسيل الأموال في العراق، لكن ضعف الأداء الرقابي وتشابك المصالح السياسيّة، التي عادة ما تحمي "الحيتان الكبار" من الفاسدين، يحولان دون الكشف عنها. فبعض التقديرات تشير الى ان حجم الأموال التي تطالها عمليات الغسيل بما يعادل "20% من قيمة الميزانيّة الاستثماريّة" للعراق. فمثلا تبلغ موازنة العراق العامة للعام 2013 أكثر من 115 مليار دولار أمريكي، من بينها نحو 46 ملياراً كنفقات استثماريّة، ويعني ذلك ان غسيل الأموال يشمل حوالي 10 مليارات دولار سنوياً.
خلال الفترة التي تلت 9/4/2003 حققت البرجوازية الطفيلية ارباحا سريعة وهائلة عن طريق الفساد ونهب اصول قطاع الدولة والتداول السريع لرأس المال. ومن المؤكد أن هناك اقساماً منها انتقلت او ستنتقل الى ممارسة انشطة انتاجية. ومخاطر ذلك هي انه لن يكون عندها هناك فرق جوهري بين النشاط الرأسمالي الطفيلي والنشاط الرأسمالي الإنتاجي، باعتبارهما من مكونات الرأسمالية بطبعتها العراقية الجديدة! ومن المهم ونحن نتابع هذه الفئة أن نتناولها ايضا في تطورها التاريخي باعتبارها احد روافد "الرأسمالية" التي نشأت وتطورت خلال فترة النظام الدكتاتوري وتعاظم دورها على وجه الخصوص خلال سنوات الحصار حيث ادت العقوبات الدولية الى منع تصدير النفط الخام وبالتالي تقلص الى حد كبير تدفق الريوع النفطية وبالتالي تقلص دور البيروقراطية المدنية والعسكرية وتعاظم دور البرجوازية الطفيلية التي انتعشت على وقع اتفاق "النفط مقابل الغذاء" ونهب اصول القطاع الحكومي عن طريق "الخصخصة" التي اجراها النظام الدكتاتوري المقبور بدءاً من اواسط الثمانينات من القرن الماضي. وبعد 2003 تنامى دور هذه الفئة التي باتت تضم شرائح "رجال الأعمال الجدد " وخلال هذه الفترة نشأ التحالف " غير المرئي" بين " النخبة " البيروقراطية وبين الفئة الطفيلية في إطار ديناميات العلاقة الزبائنية بينهما.