مدارات

الأردوغانية نزعت قفاز الحرير واستبدلته بمخالب قط وغد / حسين كركوش

التظاهرات الاحتجاجية في تركيا، التي لم يتوقع اندلاعها أحد على الإطلاق والتي فاجأت حزب العدالة والتي بدأت في اسطنبول ثم وصلت إلى المدن التركية الكبرى الأخرى، لم تحدث بسبب تردي الظروف المعاشية، أي بسبب الأداء الاقتصادي السيئ لحزب العدالة والتنمية الحاكم، فالاقتصاد التركي سجل خلال السنوات العشر الماضية نموا هو الأعلى في تاريخ تركيا، والبعض يرى أن تركيا حققت معجزة اقتصادية في ظل حكم أردوغان جعلها تحتل المرتبة السابعة عشر كأقوى اقتصاد في العالم
والاحتجاجات لم تندلع بسبب وجود ديكتاتورية عسكرية، فالجميع يعرف أن حزب العدالة الحاكم وصل للسلطة بانتخابات ديمقراطية سليمة، أي بتطبيق (الآلية) الديمقراطية. الاحتجاجات حصلت بسبب عدم احترام (المبادئ) الديمقراطية.
في رده على التظاهرات الاحتجاجية المستمرة في تركيا طلب رئيس الوزراء التركي السيد رجب طيب أردوغان من أنصاره أن (يلقنوا المحتجين درسا أول بالسبل الديمقراطية في صناديق الاقتراع خلال الانتخابات البلدية والرئاسية المقرر إجراؤها في 2014) ثم أعلن أردوغان قائلا: (لن نحاسب أمام مجموعات هامشية بل أمام الأمة "..." الأمة أوصلتنا إلى الحكم وهي وحدها من ستخرجنا منه". وبعد أن اقتحمت الشرطة التركية ساحة "تقسيم" وطردت المحتجين بأمر حكومي، قال أردوغان (لن نبدي تسامحا بعد الآن ... إننا حكومة قوية جدا).
هنا يكمن أس المشكلة وجذرها وهنا يكمن التحدي الأكبر الذي يواجهه أردوغان وحزب العدالة الذي يتزعمه: كيفية فهم الديمقراطية وكيفية النظر إليها ؟ هل تركيا تعيش نظاما ديمقراطيا حقيقيا كما يقول وزير خارجيتها، أم هي ديمقراطية من الدرجة الثانية كما وصفها وزير الخارجية الأميركية ؟ هل أن (الآلية) الديمقراطية، أي الانتخابات النزيهة، كافية لوحدها لبناء نظام ديمقراطي، أم أن النظام الديمقراطي لا يمكن أن يبنى ويتحقق إلا بتطبيق وبأحترام (المبادئ) الديمقراطية؟
(الآلية) هي نصف وجه الديمقراطية وليس الوجه كله، أما النصف الآخر فهو (مبادئ) الديمقراطية. وهناك بون شاسع وهو بون يصبح قبرا للديمقراطية إذا استمر قائما ولم يردم، بين (الآلية) الديمقراطية، من جهة وبين (المبادئ) ألديمقراطية من جهة أخرى.
عندما يقول أردوغان (لن نحاسب أمام مجموعات هامشية بل أمام الأمة) فأنه يدوس على أول مبدأ من مبادئ الديمقراطية: احترام الأكثرية لحق الأقلية في التعبير عن وجهة نظرها. (الأمة) في فلسفة أردوغان هي فقط (الأكثرية) أي الأتراك الذين صوتوا له ولحزبه في الانتخابات، أما الذين لم يصوتوا لصالح حزبه والذين يعارضونه فهم ليسوا سوى (مجموعات هامشية) يرفض رفضا قاطعا أن يقف أمامهم للمحاسبة ويشعر بالعار أن هو فعل ذلك، ويتوعد بعدم التساهل معهم مستقبلا، ويهدد باستخدام أقسى أشكال القوة لقمعهم. كيف ولماذا ؟ لأنه يرأس (حكومة قوية جدا) ! الحكومة، سواء كانت (قوية جدا)، أي بوليسية تستخدم القوة المفرطة والقمع الوحشي بشكل سافر، أو حكومة تدعي اللين وتضطر لوضع قفازات مخملية، أي تستخدم القوة الناعمة كما هو حال الحكومة التركية من الاحتجاجات حتى هذه اللحظة، لا تبني الديمقراطية ولا تعززها. هل يحق، بعد كل هذه المواقف والتصريحات والتهديد باستخدام القوة المفرطة من قبل أردوغان، أن يستاء وزير خارجيته السيد أحمد داوود أوغلو من تصريح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عندما وصف تركيا بأنها (دولة ديمقراطية من الدرجة الثانية) ؟ فالمبدأ الأولي والأساسي من مبادئ الديمقراطية يقول أن من يحصل على نسبة 50،01% يعتبر فائزا لكن ليس من حقه أن يعتبر هذه النسبة هي (الأمة) كلها وما عداها (مجموعات هامشية) يتوجب استخدام القوة لقمع مطالبها، وإذا فعل فأن الحكومة في حال كهذه تكف عن كونها ديمقراطية تمثل الجميع وتصبح حكومة الاوليغارشية. وحقيقة كهذه لا يغيرها كون أن الحكومة قدمت إنجازات اقتصادية وسياسية وعسكرية حتى لو كانت مذهلة واستثنائية، أو كون أن رئيس الحكومة نفسه بطل قومي، فالسلطة السياسية ورئيسها في النظم الديمقراطية هي، بالضرورة (هشة)، أي بالامكان أن تطيح بها نسبة ضئيلة من أصوات المواطنين، أو (جماعات هامشية) على حد تعبير أردوغان. وتاريخ الديمقراطيات في العالم زاخر بتجارب وبأمثلة كثيرة انحنى فيها قادة تاريخيون أمام مطلب نسبة قليلة من المعارضين وانسحبوا من الحكم. ولعل واقعة الجنرال ديغول هي الأكثر شهرة.
فالجنرال ديغول باني فرنسا الحديثة وبطلها القومي ومؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة فيها قدم استقالته عام 1969 بعد أن فشل الاستفتاء الذي قدمه بشأن إحداث إصلاحات في نيل الأكثرية بعد أن صوت 52.59 في المائة ضده وصوت 47.59 في المائة معه. وحال إعلان النتيجة لم يصف ديغول نسبة 5 في المائة من الفرنسيين الذين غيروا مجرى الأمور ضده بأنهم (جماعات هامشية) إنما أحترم إرادتهم وقال دون شعور بالعار أو بالهزيمة، جملة واحدة هي: (أعلن توقفي عن ممارسة مهامي رئيسا للجمهورية. يصبح هذا القرار نافذا عند ظهر اليوم 19 نيسان 1969) ثم ترك الحكم نهائيا.
في كل الأنظمة الديمقراطية في العالم تندلع تظاهرات واحتجاجات وإضرابات ضد صعوبات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو خدمية، وغالبا ما تقوم بتلك الاحتجاجات (الأقلية) الانتخابية لكن ما من حاكم واحد في هذه الدول وصف المحتجين بأنهم (جماعات هامشية). أما في تركيا الأردوغانية ظهر (الداء) (الديمقراطي) الذي أشتكت منه الجماهير التركية المنتفضة، لكن (الدواء) الذي قدم للجماهير المحتجة كان دواء آيدولوجيا (أردوغانيا) صنع في مختبر حزب العدالة والتنمية وليس داخل مختبر الديمقراطية. و(الداء) الذي ظهر في تركيا لم يكن مجرد الأختلاف على تغيير معالم حديقة، أو رفض تقييد بيع الخمور. هذه شرارة ليس إلا وهي لم تسبب هذا الحريق التركي الهائل لو لم يوجد ما يكفي من حطب سياسي تراكم على مر السنوات العشر من حكم حزب العدالة. ولكن أردوغان بدلا من إطفاء الحريق السياسي، راح يواجهه بخطاب (أخلاقي) ديماغوغي، عاطفي، تبسيطي، تحريضي وتأليبي.
قال السيد أردوغان تعليقا على القرار الذي اتخذه البرلمان التركي في 24 أيار الماضي بخصوص المتاجرة بالكحول : (لا نريد جيلا يترنح ليلا نهارا تحت تأثير الكحول). هل هذا كلام معقول ومقنع، أم هو خطاب آيدولوجي غــوغــائـي وتبسيــطــي؟ نعم هو خطاب آيدولوجي غوغائي يراد منه التأثير على مشاعر المواطنين الأتراك ودفعهم للانشغال بقضايا تافهة على حساب المشاكل الكبرى. فلو أن الكحول تنتج أجيالا تترنح ليلا نهارا لكانت الدول الغربية الصناعية قد انهارت منذ قرون، ولكانت المجتمعات التي تمنع بيع الكحول قد احتلت المرتبة الأولى في سلم الدول الصناعية المتقدمة. يقينا أن السيد أردوغان كان أول من قرأ النتائج التي نشرها المعهد التركي للإحصاء والقائلة أن 85 في المائة من الأتراك لا يشربون الخمور، وقد تصل هذه النسبة إلى 100 في المائة في القرى والأرياف التركية. السيد أردوغان يعرف، يعرف جيدا، أن مسألة شرب الخمور تحتل المرتبة الأخيرة في سلم الاهتمامات، ليس في تركيا وحدها بل حتى في الدول الغربية، بعد هموم توفير القوت اليومي وتوفير السكن المريح وضمان مستقبل الأجيال القادمة وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية والحصول بأسعار معقولة على ما تقدمه ثورة المعلومات.. الخ. وهناك حكومات غربية، الدول الاسكندينافية مثلا، تفرض ضرائب باهظة على أسعار الكحول كإجراء للحد من استهلاكها. لكن الإجراء الذي أقدم عليه حزب العدالة والتنمية كان قرارا سياسيا الهدف منه فرض تصور آيدولوجي معين على المجتمع التركي كله، ولهذا فأن التأييد، ونظنه التأييد الوحيد، الذي دعم هذا الإجراء جاء من الداعية الإسلامي، الشيخ يوسف القرضاوي الذي أصدر بيانا في 11/6/2013 دعا فيه (إلى الالتفاف حول حكومة أردوغان وعدم الانسياق وراء المؤثرات الخارجية التي تحاك ضد تركيا).
تصوروا أن الشيخ القرضاوي ورئيس وزراء تركيا يتحدثان عن التدخل الأجنبي ويشجبانه !!
الشيخ القرضاوي يتناسى كيف أنه سافر من قطر إلى مصر وقت اشتداد التظاهرات الجماهيرية ضد مبارك ورابط في ساحة التحرير وأنزل أنصاره بالقوة أحد قادة الاحتجاجات من المنصة ومنعوه من إكمال خطابه، ونسي خطبه التحريضية للمشاركة في القتال الدائر في سوريا. أما أردوغان (الساحر) الذي شرع حدود بلده لدخول المجموعات الإرهابية إلى سوريا والذي لم يكف من إعطاء الدروس والمواعظ لساسة العراق فقد بدأ يتحدث عن التدخل الأجنبي في شؤون بلاده بعد أن أنقلب السحر عليه.
هكذا، ومثلما يحدث في جميع دول الشرق، يلجأ أردوغان إلى كبش فداء (أجنبي) أو شماعة أجنبية يعلق عليها المشاكل الداخلية. في تركيا توجد مشاكل داخلية كبرى منها: التوزيع غير العادل للثروة بين سكان المدن والأرياف، استخدام القمع العسكري لحل القضية الكردية، ازدراء الطائفة العلوية، التدخل غير المبرر في الشأن السوري وفي الشأن العراقي، التناقض في خطاب حكومة حزب العدالة المؤيد للفلسطينيين من جهة والحرص على تحسن العلاقات التركية الإسرائيلية من جهة أخرى، الحديث المستمر عن حرية القرار التركي وبقاء تركيا عضوا في حلف الناتو، إطراء وتبجيل العلمانية الأتاتوركية (خطاب أردوغان في 14/9/2011 في القاهرة الذي أزعج جماعة الأخوان هناك) والتنكر لها عمليا وعلى أرض الواقع، الاستمرار في رفض ما وقع للأرمن في تركيا من ويلات واعتبار الحديث عن هذا الموضوع خطا أحمرا.
هذه المعضلات السياسية الكبرى وغيرها التي لا ترد على لسان أردوغان ويستعيض عنها بالتركيز على قضايا ثانوية، بالإمكان تلخيصها بسؤال واحد هو: كيف يريد حزب العدالة والتنمية أن يبني دولة تركية حديثة ؟
في خطابه في القاهرة في 14/9/2011 قال أردوغان: (الآن في هذه الفترة في مصر وما بعدها أنا مؤمن بأن المصريين سيقيمون موضوع الديمقراطية بشكل جيد وسوف يرون أن الدول العلمانية لا تعني "اللادينية" وإنما تعني أحترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه "..." إن العلمانية لا تعني أن يكون الأشخاص علمانيين فأنا مثلا لست علمانيا لكنني رئيس وزراء دولة علمانية).
أردوغان أراد أن يقول خلال خطابه ذاك أن حزب العدالة والتنمية يريد بناء دولة أنموذجية علمانية ديمقراطية حديثة وبمواصفات ديمقراطية حديثة، أي دولة تختلف عن الخلافة الإسلامية التي عرفها تاريخ الإسلام. ومهمة بناء الدولة الديمقراطية الحديثة من قبل قوة سياسية إسلامية، هي حزب العدالة والتنمية، تصبح أكثر تعقيدا إذا اتفقنا على ان الدولة الحديثة لا تبنى إلا بمواصفاتها الحديثة: آلية ديمقراطية ومبادئ ديمقراطية بما في ذلك انتخابات ديمقراطية شفافة، حكم تداولي، احترام الأكثرية لحق الأقلية، مساواة المواطنين بغض النظر عن كل ما يفرقهم، ضمان حقوق الإنسان،ضمان حقوق المرأة، الحريات العامة والخاصة، ترسيخ دولة المواطنة والقانون والمؤسسات.
مهمة كبرى كهذه لا يمكن إنجازها عندما يصر اردوغان على ان يضع نفسه وحزب العدالة الذي ينتمي إليه فوق المحاسبة وفوق مؤسسات المجتمع وفوق الأقلية المعارضة.
قال اردوغان (الذين لا يحترمون الحزب الحاكم في الأمة يدفعون الثمن). والشعب التركي رد على أردوغان وسيرد مرات ومرات وسيهدده أيضا وسيقول: الذي لا يحترم مطالب الأقلية الأنتخابية سيدفع بالتأكيد ثمنا باهظا. وسيستخدم كلمات أردوغان نفسها الذي خاطب بها المحتجين: (حافظنا على صبرنا حتى الآن لكن صبرنا بدأ ينفد) والكلام وحده عن الديمقراطية لا يكفي أن لم يقترن بأفعال وبمؤسسات وباحترام للمبادئ الديمقراطية.