مدارات

في المسيرة الثورية الخطوات الاولى ... معتقل (ابو غريب) والاضراب عن الطعام (15) / الفريد سمعان

لم يكن المعتقل الذي انتهت رحلتنا اليه عام 1948 هو الوحيد، فقد علمنا بان هنالك معتقلاً اخر، لم يكن انفراديا. بل يضم رفاق كل مدينة كبيرة. حيث استقر مناضلوا الحلة في غرفة خاصة والبصرة كذلك- والناصرية.. وربما كان احتجازنا في زنزانات انفراديا منطلقا من قوتنا من (الخطيرين) لا سيما وان على رأس القائمة.. رفاقنا الابطال فهد وحازم وصارم اضافة الى الباقة المهمة. مثل الرفاق نافع سعيد المحامي وشريف الشيخ صاحب جريدة الاساس مع الرفيق زكي خيري وجمال الحيدري وعبد الرحيم شريف.. وكامل قزانجي وجلال عبد الرحمن والرئيس الركن غضبان السعد وعزيز الحاج وكنت اصغر من فيهم.. ولم يكن موقعي الحزبي بمستواهم ولكن لا ادري لماذا.. ربما (للمحبة) الزائدة من قبل رجال التحقيقات الجنائية..!؟
لقد كانت الصدمة عنيفة.. حيث تبعثرت الكوادر الحزبية ما بين معتقل.. او هارب.. او لاجئ الى العشائر . كانت التجربة الحزبية والضربات المتوالية التي تعرض لها الحزب طيلة حياته النضالية هو الابتعاد عن اماكن رجال التحقيقات. وحماية النفس بشتى الوسائل المتاحة وتجنب السقوط في جب التحقيقات لا لحماية النفس وحسب بل لاعادة تضميد الجراح.. ولملمة العناصر التي ما زالت خارج القبضات البوليسية واعادة التنظيم.. واتخاذ الاجراءات الضرورية للصمود والتصدي.. والتحدي ايضا. ابطالا كان الرفاق الذين لم يستسلموا للضربة الماحقة واستطاعوا ان يحموا انفسهم اولا.. والبحث عن الرفاق واعادتهم للتنظيم في تلك الظروف الصعبة.. والمتابعات المجنونة من قبل رجال الشرطة.. وكافة الاجهزة رغم التضحيات.. فقد اضطر الموظفون والعمال الى ترك اعمالهم.. وبالتالي الحرمان من الراتب ووضع العائلة في موقف اقتصادي حرج.. حتى النساء.. كن بطلات، لقد تحملن الفواجع والمصائب ولم يترنحن ولم يتنازلن عن كرامة ازواجهن. لقد شاركن في حماية الرجال وتطوعن للتعويض عن بعض الخسائر.. وكان للاقارب دور مهم في حماية الرفاق وعوائلهم، انها المعاناة الصعبة والمواقف البطولية النبيلة لكل من ساهم في حماية الكوادر الحزبية.. سواء اكانت في ممارسة نضالية ام تحمل مسؤولية ابعاد عيون البوليس عن الرفاق ام معاونة العوائل التي فقدت الايادي التي كانت تعمل وتوفر اللقمة للاسر والعوائل وما يترتب على ذلك من مسؤوليات اجتماعية.. في مجتمع يعج باصحاب الذمم الخاسئة والمواقف القذرة.. لا سيما المعادين عقائديا. وكان عدد كبير منهم يتباهى بالضربات التي توجهها قوى الامن للشيوعيين.. واصدقائهم.
بعد الصدمة جاءت الاخبار (المخنوقة) ولكنها تحمل البشارة.. الحزب ينظم تظاهرة تتحدى وتهدد وتجتذب مشاعر الجماهير وتضامنها مع قوى النضال الشاق العسير الذي خاضه الشيوعيون خلال سنوات الكفاح المريرة.
بدأ المعتقلون بعد ان استقرت امورهم على ذلك الوضع السيىء يشعرون بالمسؤولية.. لان موقفهم الصلب سيجد له اصداء لدى القيادات الجديدة اضافة لاشعار العدو.. بأن وجود الرفاق في الزنزانات وتحت سياط التعذيب والتحقيقات الصارمة لن يقضي على صمودهم ومقاومتهم. وانهم رغم القيود. يظلون شجعانا.. ومناضلين لن يتخلوا عن اهدافهم.. لا سيما وان الموقف كان عسيرا حيث جيء بالرفاق فهد وصارم وحازم لاعادة محاكمتهم وهذا لم يكن ضمن النوايا الطيبة.. بل كانت هنالك (طبخة) استعمارية.. لتشديد العقوبة من جديد.. ويا لها من فاجعة.. متوقعة كنا نعيشها مذعورين.. يغمرنا الحزن وتهيمن على مشاعرنا المخاوف مما يبيته الاستعمار وعملاؤه.. الكبار.. والاجهزة القمعية بشتى صنوفها واساليبها المستوردة من بلد (العم سام) ها نحن نبتدئ.. انتشر الخبر الذي اذهل الجلادين وعلى رأسهم المشرفون على المعتقل.. فقد اعلن المعتقلون الاضراب عن الطعام.. وكانت المطالب تحسين الوضع الغذائي.. واسلوب الاعتقال وتوفير اوضاع تدعو الى تأكيد الاحترام والرعاية.. والتعرض لنور الشمس.. ومواجهة الاهل.. والمحامين.. وو..
وكانت الطامة الكبرى التي روعت واذهلت السلطة ان الاضراب شمل المعتقلين في ابي غريب. في القاعتين، الزنزانات.. والمواقف الجماعية.. اضافة الى المعتقلين من معسكر الوشاش الذي يبعد اكثر من اربعين كيلومترا عن ابي غريب رغم عدم وجود اية مواجهات مع العوائل او لقاءات.. ولكن الامر لم يكن غريبا على الشيوعيين الذين كانوا (يكسبون) بعض عناصر الشرطة والجيش رغم الظروف الصعبة.. في كل الظروف العسيرة.. ومع اول وجبة.. صباحية رفض المعتقلون بأباء تلك الوجبة.. مع اعلان اضرابهم عن الطعام.. وظل رجال المعتقل حائرين.. كيف تم ذلك!؟
وتوالت الايام ورغم الجهود التي بذلتها قوى الشرطة والعساكر.. والاغراءات.. والتهديدات ظل الرفاق متماسكين.. صامدين ثلاثة عشر يوما حيث وعد واعلن رئيس المعتقل واسمه (حمدون) من اهالي الموصل وكان احد ضباط الحرس الملكي بتلبية المطالب. وفي اليوم الثاني جلبوا (الحصران) لتغطية الارض الرطبة.. وتقرر اخراج المعتقلين فرادى لمدة عشر دقائق للاستمتاع بالشمس ومغادرة الزنزانة، كما بدأت اجراءات اعادة التحقيق. وتحسين الطعام.
لقد كان الاضراب.. حملة تذكارية لنضال الشيوعيين. حتى في اكثر الظروف حراجة وقوة، انها درس لا ينسى.
جاءت بعدها الفاجعة الكبرى التي سترد على الحلقة - 16-