مدارات

في المسيرة الثورية الخطوة الاولى .. ليلة الرعب والتحدي (16) / الفريد سمعان

بعد الاضراب عن الطعام الذي دام ثلاثة عشر يوما في بداية عام 1949 وتلبية بعض المطالب المشروعة، وكانت تعتبر انتصارا على جريمة الخونة الذين كشفوا اوراق الحزب السرية وفرطوا بنضال الرفاق البواسل. وخانوا كل القيم النبيلة التي تعلموها على يد القادة الافذاذ، بعد كل هذا.. تشكلت المحاكم العرفية.. وعلى رأس القضاة العسكريين النعساني (سيىء الصيت) بدأت المحاكمات. وفي 13 شباط 1949 كان هنالك ضجيج استثنائي. حركة غير اعتيادية في الممرات واستعدادات مسلحة.. ثم ساد الهدوء، وبعد التساؤلات وصلت الانباء. لقد اقتيد الرفاق فهد وحازم وصارم الى المحكمة.. وبدأت قواطع الطابوق بين الزنزانات تتبادل الاحاديث.. والحوارات الهادئة التي لم تخل من الخوف والترقب.. وتوقع انباء سيئة، فقد كان للرفاق الاماجد منزلة خاصة في قلوب المناضلين، وكانت اكاليل المهابة والاحترام والاعتزاز بالبناء الشامخ.. بالقلعة الثورية.. بالامجاد التي سطرتها يد التاريخ بحروف من الحرمان.. والفكر الناضج والنضالات الثورية والتحديات الصارمة والصبر المعجزة.. والدروس التي اصبحت قواعد وتقاليد وحكما وانجازات هزت عروش الطغمة الحاكمة.. وكشفت عنها القناع.. وفرضت عليها الانتظار.. انتظار يوم الحساب.. واطلقت الصرخات الكادحة.. بنبرات جائعة لانها تمتلك الجرأة والشجاعة وهي تحمل رايات التضحية والفداء.
مضت الساعات بطيئة.. والهواجس تصب ذعرها على القلوب.. والافكار ترتعش.. وتترقب وعادت قافلة الضجيج.. جنود يتحركون بكثافة متوترين، واوامر (الرئيس حمدون) آمر المعتقل تطلق التوجيهات. تعال انت.. عريف حسين.. قم بتلبية طلبات (فهد) وكن يقظا.. حذار.. ان تتساهل ولكن بهدوء..
بدأت المطارق.. تدق مسامير ضخمة في الارض الكونكريتية.. مع كثافة في الحراسة.. حيث امتلأت الممرات بالجنود، ونصبت رشاشة على النافذة الضعيقة المطلة على الممر الذي ترقد الزنزانات الانفرادية على جانبيه.. اصوات سلاسل تملأ الممر.. لماذا..!؟ لمن..!؟ لم نكن نعرف بالضبط، ولكن الاستنتاج الصائب. الذي ينسجم مع المنطق وطبيعة الاحداث هو الفاجعة وارتفاع مستوى الحذر.. والخوف مما قد يحصل.. سيما وان قيادة الحزب الجديدة.. كانت قد اطلقت التحذيرات بأن الوضع سيتحول الى ضد ما كان يتوقعه الحكام الطغاة لان الحزب لن يرتضي جريمة ترتكب بحق قادة الحزب.. وهذه الاخبار كانت تصل باقتضاب بين آونة واخرى وكانت البيانات التي يصدرها الحزب تحمل صرخات المناضلين واصرارهم على منع وقوع الكارثة وتنفيذ النوايا السيئة بتصفية الحزب والتخلص من نفوذه الذي تصاعدت نبراته في احداث وثبة كانون المجيدة.. وكانت شعارات الحزب هي الاقوى.. والاكثر تعبيرا عن ما تحمله القلوب المعذبة.. والرغبات المتعطشة.. للحرية.. وتقليص نفوذ الطبقة المرفهة والسياسيين المخضرمين.. لا سيما وان شعارات الحزب استطاعت ان تفرض نفوذها على الشارع وتستقطب قادة الاحزاب البرجوازية والمواقع الاجتماعية.. وبعض الفصائل العشائرية في اطار الحركة الفلاحية التي استطاعت ان ترفد القاعدة العمالية بقوى جديدة.. تلتقي معها في الاهداف العامة.. كما كان للطلبة نفوذ كبير.. نتيجة نضالهم والتضحيات التي قدموها في التظاهرات التي قادوها.. واستطاعوا ان يستقطبوا الاجواء العامة والعوائل التي كانت تتباهى وتفتخر بما يصنعه الابناء.. والبنات، وهي ظاهرة اتسع نطاقها واصبحت مساهمة فتيات الجامعة والامهات معلما بارزا.. اكد تضامن النساء.. واهمية مواقفهن في مؤازرة الابناء الطلبة.. فلذات الاكباد. لقد غابت الشمس.. واسترخت على مضجع الغروب، كثرت اضواء الفوانيس.. حالة من القلق والترقب والهواجس وأصبحت ضربات عاتية بدأت اهداب الليل تطل يرافقها الضجيج من جديد.. اذناي تلتقطان ما يدور بين ادارة المعتقل.. والرفيق فهد..
- ماذا تريد من الطعام.. اية اكلة خاصة!؟
- لا اريد شيئا خاصا.. لتكن الامور اعتيادية
- هل تريد ان تقابل احدا.. فاجاب
- نعم.. قريبتي السيدة امينة.
- اين تسكن؟
- في منطقة صبابيغ الآل
ثم جاؤوا باحد رجال الدين (قس) ودار حوار.. قال القس:
- تعلم انك يجب ان تعترف بخطاياك ليغفر لك الرب حسب التقاليد المسيحية.
فاجاب الرفيق فهد:
- ليست لدي خطايا.. لم اعتد على احد.. لم اتجاوز على حق وهاأنذا اعطي حياتي فداء للقضية الانسانية التي اؤمن بها ولمصلحة الشعب العراقي والكادحين في كل ارجاء العالم.
- ولكن لا بد ان تعترف تنفيذا للتعليمات الدينية..
اجاب الرفيق فهد:
- أرجو ان تتركني في الساعات الاخيرة الباقية من حياتي. وعلى اثر ذلك انسحب (القس) ولم يجدوا السيدة امينة وربما لم يقصدوها لذلك جاؤوا بالرفيق داود، شقيق الرفيق فهد، وكان معتقلا في القاعة الاخرى التي كانت تضم الرفاق حسب مدنهم.. الناصرية.. الحلة.. العمارة.. لقد كانت الشجون تفرش سحابة على الكلمات تلونها الدموع.. دموع داود.. مما اضطر الرفيق فهد إلى ان يدعوه للتماسك والصبر ومواجهة الحدث الخطير بشجاعة واضاف:
- انني مؤمن بان الحكم جائر بكل تفاصيله، وان حكم الاعدام لن يوقف المسيرة الثورية لشعبنا الذي سينتصر.. ولن يتخاذل او يتراجع، وان المستقبل للكادحين.
بعد بضع ساعات وعبر ضجيج وحراسة مشددة اقتيد الرفيق فهد مثقلا بالاغلال والقيود بحيث لم يكن يستطيع ان ينقل خطاه بسهولة، وارتفع صوته الهادر قويا: (وداعا يا رفاق وداعا) كررها مرتين.. ثم اخذوا الرفيق الشبيبي الذي ودع الرفاق (في امان الله يا رفاق.. في امان الله)
خيمت عباءة الصمت على المعتقل.. وكانت اللوعات تتكثف في صدور المناضلين.
في اليوم الثاني اقتادوا الرفيق زكي بسيم- الذي كان يسير بخطى ثابتة.. وبكل هدوء.. ارتفع صوته.. رابط الجأش اودعكم يا رفاقي الموقوفين وانا في طريقي الى المشنقة، واخذوا بعده يهوذا صديق..
كانت المواجع تطل من عيون الجنود.. كانت سحابات حزن واسى حتى من عيون حارسنا نائب العريف (هجول) الذي قلت فيه:
أتجهل ام انت لا تجهل
بان احط الورى هجول
وان الذي عذب الكادحين
سيحصد اعناقهم منجل
جاءت الاخبار.. وهي تشيد بصرخة الرفيق فهد وهو يضع قدمه على عتبة سلم المشنقة (اشنقوا فالشيوعية اقوى من الموت واعلى من المشانق) كما هتف الرفيق الشبيبي باسم الحزب والشعب وردد الرفيق صارم بيتا شعريا
وان الذي يسعى لتحرير امة
يهون عليه الموت والسوط والسجن
لقد رحل القادة الابطال. وتركوا تراثا تاريخيا عظيما واعلنوا دروسا لكل المناضلين.. واكدوا على ان مسيرة الثورة لن تتوقف ما دام هنالك من يرفع رايات النضال ويؤمن بعدالة قضية الكادحين. ضد الظلم والاستغلال.
كلمة اخيرة.. لقد جاءت ولادة آخر ابنائي (وهج) يوم 13/2/1971.. اليست مفارقة ام هو تأكيد للايمان بقضية الشغيلة والمستقبل؟