مدارات

فاشيو أوكرانيا والايديولوجيا التي يتمسكون بها / رشيد غويلب

أدت الاحتجاجات التي انطلقت قبل عدة أشهر في أوكرانيا الى تغييرات جذرية في توازن القوى بين احزاب الحكومة المنتخبة، والاحزاب المعارضة لها داخل وخارج البرلمان،وتسببت في نشوء ازمة دولية قد تؤدي، الى حرب هي الاولى من نوعها بين البلدان الغربية وروسيا الاتحادية، ورغم عدم تبلور حسم نهائي للصراع على السلطة في أوكرانيا لحد الآن، وكذلك عدم امكانية حصر خطر التداعيات السياسية على مستقبل البلاد من جهة ، وعلى العلاقة بين روسيا الاتحادية ودول اوربا الغربية من جهة أخرى، الا ان الثابت: ان الحياة السياسية في أوكرانيا هي اليوم غير التي كانت عليه قبل انطلاق الاحتجاجات، ولن تعود الى ?هدها السابق.
وكانت احتجاجات المعارضة السياسية، والقوى التي تدعمها ، قد اندلعت - على ما يبدو- ردا على رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش إبرام اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والتي ينظر إليها من قبل العديد من المراقبين السياسيين على كونها خطوة أولية للانضمام الى الاتحاد الأوروبي . وظلت الاحتجاجات حتى النصف الاخير من كانون الثاني الفائت سلمية في معظمها، حتى بدا متظاهرون يحملون الهراوات ومزودون بالخوذ الواقية وقنابل المولوتوف اللجوء الى عنف وحشي و مهاجمة الشرطة ، اقتحام مباني حكومية وضرب كل من يعتقدون انه من مؤيدي الحكومة في شوارع العاصمة ، التي تسببوا في احداث دمار هائل فيها. من هم هؤلاء المتطرفون ، وما الأيديولوجية التي يتشبثون بها؟
يطلق على هذه المجموعة من الحركات السياسية "الكتلة اليمينية"، وهي تتكون من عدد من الاحزاب القومية المتطرفة واليمينية المتطرفة وصولا الى مجاميع فاشية، ويندرج ضمنها حزب "الحرية"، الذي تأسس في عام 1991، ودعت مؤسسات ومنظمات دولية الى حظره باعتباره جزباً نازياً جديداً. وفي عام 2012 احتل زعيمه أوليغ تاغنبوك التسلسل الخامس في قائمة تحوي اخطر عشرة معادين للسامية. ومنذ 2009 يعمل "حزب الحرية" بصفة مراقب في تحالف الحركات القومية الاوروبية التي تضم احزابا فاشية منها حزب "جوبيك" الهنغاري والحزب القومي البريطاني. بالا?افة الى حزب "وطنيو اوكرانيا، والمجلس القومي الاوكراني، وغيرها. ويجمع بين هذه المنظمات العداء الشديد للروس، وللأجانب، وللسامية. وعلاوة على ذلك يجمع هؤلاء على تقديس" منظمة الأوكرانيين القوميين" سيئة الصيت، التي اسسها عميل المانيا النازية ستيبان بانديرا، للعمل ضد الاتحاد السوفيتي، وساهمت في اسوأ الفضائع التي حدثت خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.
وفي الوقت التي كانت ترغب فيه المعارضة باستمرار المفاوضات مع الحكومة، دعا اليمينيون المتطرفون الى العنف في شوارع العاصمة مستخدمين نفس علامات العنف "قمصان هتلر الرمادية"، او رموز "فاشية موسوليني"، ويحاولون تحويل صراع مجاميع المصالح الاقتصادية الى صراع على السلطة من اجل الشعب الأوكراني، الذي يحبونه "كقوميين" كثيرا.
صور الحرائق في كييف، والبلطجية في لفوف ، والفوضى المتزايدة في جميع أنحاء البلاد تظهر بوضوح تماما أنها أنهت المفاوضات كهدف للمتظاهرين في ساحة الاستقلال. واصبح هدفهم اما النصر او الهزيمة. ودعمت الولايات المتحدة كل المعارضة، بغض النظر عن ميولهم السياسية. وفي اوائل كانون الاول الفائت زار ممثلو الادارة الامريكية المحتجين في ساحة الاستقلال، ومنهم السنتور الجمهوري جون ماكين وفيكتوريا نولاند.
وعلى الرغم من وضوح الطابع الحقيقي، في الأسابيع الأخيرة، لمتطرفي المعارضة، لكن العنف الفاشي لم يثر امتعاض الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الغربية. وبدلا من ذلك جرت لقاءات بين ممثلي الدول الغربية، وشخصيات من اليمين الأوكراني المتطرف، ووصف هؤلاء بـ "غير الخطرين". وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها وافقوا على استمرار وانتشار العنف، لأنهم ارادوا الوصول، وباسرع ما يمكن، الى هدفهم الحقيقي المتمثل في تغيير النظام. ومن المفيد التذكير الى التحالف الذي تشكل منذ بدء الاحتجاجات في أوكرانيا في عام 2013،من حزب "الحرية" و حزب "الضربة" بزعامة الملاكم المحترف السابق فيتالي كليتشكو وحزب "الوطن " بزعامة رئيسة الوزراء السابقة جوليا تيموشينكو لاسقاط حكومة الرئيس الأوكراني المقال فيكتور يانوكوفيتش، قد تلقى دعما فوريا من اليمين في الولايات المتحدة الامريكية عبرت عنه زيارة السيناتور الجمهوري جون ماكين للمحتجين في ساحة الاستقلال في العاصمة الأوكرانية كييف.
وفي محاولة منهم لاخراج أوكرانيا من دائرة النفوذ الروسي، لم تتحالف الولايات المتحدة، الاتحاد الاوروبي، والناتو مع الفاشيين في اوكرانيا للمرة الاولى . ففي أمريكا اللاتينية، سمحت الولايات المتحدة لفرق الموت الفاشية، لعدة عقود، قتل وخطف الملايين من الناس. ولزعزعة الاستقرار في الاتحاد السوفيتي، قامت الولايات المتحدة بتشكيل مجاميع المجاهدين الاشد تعصبا في أفغانستان وتزويدها بالمال والسلاح، والتي تحولت لاحقا الى منظمة القاعدة الارهابية. وفي ليبا وسوريا يجري دعم المجاميع الإرهابية من حلفاء الولايات المتحدة وموافقتها. وقد شخص المراقبون المخضرمون منذ زمن طويل نمطاً مقلقاً ثابتاً: فاذا كان الامر يتعلق بتحقيق مكاسب جيوسياسية، فان الولايات المتحدة الأمريكية تعود الى عملها المشترك مع اليمين المتطرف والجماعات الفاشية.
ان الوضع في أوكرانيا مقلق للغاية بسبب الاضطراب السياسي في البلاد، التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي السابق قبل اقل من 25 عاما ، والتي يمكن ان تؤدي الى تمزيقها. ويمثل صعود النازية في اوكرانيا مصدراً آخر للقلق، لانه يدفع بمجاميع مماثلة في بلدان اخرى الى السلطة.

الفاشية تهدد بلداناً أوربية أخرى

لا يجوز النظر الى صعود اليمين المتطرف في أوكرانيا بشكل منعزل، بل هو جزء من اتجاه لوحظ أيضا في بلدان أوروبية أخرى وفي العالم يهدد أسس الديمقراطية، وينذر باخطار جسيمة.
ان سياسة التقشف القاسية التي فرضت على اليونان من قبل اللجنة الثلاثية (صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية) شلت الاقتصاد وتسبب بالكساد، الذي وصل في اليونان الى حالة أسوأ تقريبا، مما كان عليه الكساد العظيم بالنسبة للولايات المتحدة. و كان هذا الواقع السبب الرئيسي وراء احتلال حزب "الفجر الذهبي" الفاشي المرتبة الثالثة في البرلمان اليوناني.
ان هذا الحزب الفاشي المحكوم باديولوجية الحقد والكراهية ضد الاجانب والسامية، والمعادي لحقوق النساء، تعتبره حتى الحكومة اليونانية اليمينية خطراً جدياً على تماسك المجتمع. وعلى اثر قيام انصار هذا الحزب بسلسلة من الاعتداءات على قوى اليسار،بما في ذلك قيام احد الفاشيين بقتل مغني راب مشهور ومعروف بمعاداته للفاشية، سمحت الحكومة اليونانية باعتقال قيادة الحزب وتقديمهم للقضاء، ولم تعرف نتيجة المحاكمات لحد الآن. وتكمن خطورة هذا الحزب الفاشي العلني في ان تحريضه ضد اوربا وسياسة التقشف تلقى قبولا في اليونان الممزق اقتصا?يا. وكما فعلت الحركات الفاشية في القرن العشرين يحول حزب "الفجر الذهبي" الغضب الشعبي ضد المهاجرين المسلمين والأفارقة، ويجعلهم كبش فداء، يحمله مسؤولية الكثير من المشاكل في البلاد. وفي الظروف الاقتصادية الصعبة يصبح اذكاء المخاوف غير العقلانية وسيلة محببة لتحويل الانتباه عن حلول المشاكل الحقيقية. لقد تم اعتقال قيادة حزب "الفجر الذهبي"، ولكن نوابه ما زالوا يمارسون دورهم في البرلمان، ويسمح لاعضائه بالترشيح للمناصب العامة مثل منصب عمدة العاصمة اثينا. وعلى الرغم من فوزهم بهذا المنصب غير وارد، ولكن تحقيقهم في ?ستطلاعات الراي نتائج انتخابية افضل، سيزيد من صعوبة الحد من نشاطهم في اليونان.
واذا كانت هذه الظاهرة محصورة في اليونان وأوكرانيا، فلا يمكن الحديث عن اتجاه يهدد كامل القارة الأوروبية، ولكن الملاحظ مع الأسف صعود أحزاب المماثلة في جميع انحاء اوربا، حتى لو كان بعضها لا تتصرف بشكل علني كأحزاب فاشية. ففي اسبانيا مرر حزب الشعب اليميني قوانين تحد من حرية التظاهر والتعبير عن الراي، بعد أن نفذ تباعا إجراءات التقشف القاسية.
وفي فرنسا حملت "الجبهة القومية" بزعامة ماري ليبون المسلمين والأفارقة مسؤولية المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها فرنسا، وحصلت في الجولة الاولى لانتخابات الرئاسة الاخيرة على 20 في المائة من الأصوات. وفي هولندا احتل "حزب الحرية" المعادي للاجانب المرتبة الثالثة في البرلمان. وفي البلدان الاسكندنافية توجد احزاب قومية كانت في الاصل ليست ذات اهمية، تلعب اليوم في الانتخابات دورا متزايداً. ان هذه المؤشرات تثير المخاوف .
وتجدر الاشارة الى ان الولايات المتحدة الامريكية تتعاون خارج اوربا، بهذا الشكل او ذاك مع مجاميع فاشية. وفي هذا السياق قامت الولايات المتحدة بدعم الانقلابات التي نظمها اليمين ضد حكومات رؤساء الجمهورية المنتخبين في باراغوي والهندوراس، وقد حاولت واشنطن وتحاول دوما قمع قوى اليسار في امريكا اللاتينية. وينبغي ان نتذكر ان الحركة الاحتجاجية في روسيا الاتحادية هيمن عليها القوميون بزعامة البكسي نيفلني، وباعتبارهم "روس اوربيين"، وعلى اساس نظرية التفوق العرقي ادانوا المسلمين والمهاجرين الاخرين القادمين من جمهوريات الا?حاد السوفيتي السابق. ان هذه الامثلة وغيرها تبين جانبا قبيحا جدا في السياسة الخارجية الامريكية، التي ما تزال تحاول توظيف المشاكل الاقتصادية والاضطرابات السياسية لتوسيع مجالات هيمنتها.
وفي اوكرانيا نقلت "الكتلة اليمينية الصراع من طاولة المفاوضات الى الشارع، وهناك مازالت محاولة تحقيق حلم "ستيبان بانديرا": أوكرانيا خالية من الروس، واليهود، والآخرين "غير المرغوب فيهم". وتشكل "الكتلة اليمينية" التي تضم قوى ومجاميع فاشية، والمدعومة من الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الأوربيين، خطراً اكبر على الديمقراطية ، من الرئيس المقال وحكومته الموالية لروسيا. واذا لم تعترف اوربا والولايات المتحدة الامريكية بخطر الفاشية الذي يلوح بالافق، فيمكن ان يفوت الاوان مرة اخرى.