مدارات

كلمة اهالي النجف .. النجف وسلام عادل.. المدينة والخلود / د . باقر الكرباسي

في البداية...ثمانون عاماً وأنت الأحلى والأجمل
ثمانون عاماً وأنت الأرقى والأكمل
ثمانون.. علمتنا الدرب الصحيح
لنكون فيه من دونهم
الأنزه والأمثل..
لك ألف تحية.. ألاف مثلها
فكلنا ماضون
وأنت فينا أبداً..
لن ترحل... لن ترحل

النجف وسلام عادل المدينة والخلود
النجف الأشرف مدينة ليست كغيرها من المدن، ففي كل ركن من اركانها يعبق شذا العلم والفقة والتاريخ والتراث والشعر والسياسة، وحين تذكر النجف يقترن ذكرها بقائمة لها أول وليس لها آخر، فهي مدينة ولود، فبين عالم وفقية أديب شاعر ومجاهد ثائر اضافوا الى الحياة معادن عديدة، انها مدينة معطاء.... يقول الشيج رضا محمد الشبيبي- الشخصية الوطنية المعروفة- (مازالت النجف من اكبر عواصم العالم وهي اكبرها منذ قرنين، وما انفكت من أول ماخططت مأوى لكثير من الفقهاء والمتصوفين والزهاد، وماعبر عليها عصر خلت من عالم أديب).. وقد اصبحت هذه المدينة بعد تشرفها بمرقد إمام البلاغة والبيان وإمام العدالة الاجتماعية علي بن أبي طالب (ع) محطاً لانظار العالم الاسلامي يهاجر اليها الآلاف ممن يطلبون التفقة والاشتغال العلمي، وتتوجه اليها نفوس الملايين من المسلمين ينظرون اليها بعين ملؤها التعظيم والاجلال... قال الشاعر:
مدينة النجف الأعلى وساكنها
معزز بوقار العلم محترم
ومن قبل ألف ونور العلم يغمرها
وروضة من رياض الفضل تنتظم
هذا علي وقد لاحت لأعينكم
قبابه ذهباً يسمو بها العظم
هذه هي النجف ايها الحضور البهي، طيبة أهلها وضيافتهم المميزة جعلت من يزورها فضلاً عن ذلك يتصفح عبر معالمها سفر حضارة وتراث أصيل، انها غنية بتراثها الثقافي وهي تمثل إنموذجاً للمدن الاسلامية في التعايش السلمي والتسامح الديني والعيش المشترك بين شتى الأديان والطوائف والمذاهب وتأريخها يزخر بأمثلة كثيرة... رعت النجف العلم والعلماء فتألف جو من الابداع تمثل بظهور علماء متميزين ومفكرين أفذاذ وشعراء فحول وساسيين خالدين، كلهم أدوا أدواراً رائعة في خدمة وطنهم أولاً ومدينتهم ثانياً...
وفي عصرنا الحديث اصبحت النجف مركزاً مزدهراً للحوار الفكري ومحجة لطلاب العلم والمعرفة وفيها نبغوا، ففي بداية عشرينيات القرن الماضي بدأت ثورة للمعرفة اي بعد ثورة اكتوبر عام 1917 فدخلت الأفكار الاشتراكية الى الدول العربية ومنها العراق فتناولها العراقيون بشغف وفهموها فهماً صحيحاً، وكانت النجف سباقة بتناول هذه الافكار الجديدة وذلك لامتلاك شبابها وعياً وحساً وطنياً عالياً، فضلاً عن وصول بعض المجلات والكتب العصرية من لبنان وسوريا ومصر مثل: العرفان لأحمد عارف الزين والهلال لجرجي زيدان والعصور الاشتراكية لاسماعيل مظهر وغيرها، كل ذلك كان له أثر كبير في تأليف المنظومة المعرفية للشباب النجفي المتحضر وكسر طواق الجمود عنده، فكانت ومازالت النجف مدينة الحراك الثقافي في صباحاتها وامسياتها، في مثل هذا الجو المفعم بالثقافة والمعرفة والبحث عن الاستقلال من هيمنة الاستعمار الانجليزي آنذاك..
ولد حسين احمد الرضي الموسوي- سلام عادل- الإبن البار لهذه المدينة ونشأ فيها وهو من عائلة محترمة وكان يعتز بسمعتها كثيراً، تتميز هذه العائلة كما تقول السيدة ثمينة ناجي يوسف زوج الشهيد سلام عادل، بشرف كلمتها واذا وعدوا أوفوا واذا قالوا فعلوا، وتتميز العائلة- والحديث للسيدة ثمينة- بطيب المعشر وحسن الضيافة وينعمون بحب الناس لهم وهم محبون للناس أيضاً، كذلك هم مثال للاخلاق يفتحون بيتهم للزائرين ويساعدون من يحتاج اليهم... الشهيد سلام عادل ابن هذه المدينة التي انجبت الجواهري والشرقي والشبيبي ومرتضى فرج الله وموكباً من المبدعين والمفكرين في الأدب والمعرفة، وهذا ليس عجيباً على النجف فمن ازقتها خرج قادة الاحزاب السياسية ومنهم قادة الحزب الشيوعي العراقي فضلاً عن شهيدنا المحتفى به كان محمد موسى التتنجي وحسن عوينة وحسين الشبيبي، وليس غريباً على النجف ايضاً قيادتها لواء التجديد والاصلاح والتنوير فبعض من علمائها حاولوا التجديد والاصلاح من الشيخ النائيني الى الشيخ المجدد محمد رضا المظفر.
هذه هي النجف ايها الحضور البهي، في كل عام وفي يوم الشهيد الشيوعي تعودنا أنا واخوة لي في محلية النجف زيارة السيد حسين احمد الموسوي (ابو وديع) وهو شقيق الشهيد والذي توفي قبل اشهر، كان الرجل على كبر سنه يستقبلنا بحفاوة ويحدثنا عن الشهيد كثيراً وما كان يقوله عندما يزوره في بغداد فيقول: كان اخي الشهيد سلام عادل مهموماً قلقاً على أوضاع وطنه وما يجري عليه من مؤامرات، وكان يقول لي: العراق يسير في دمي علمني الحزب الشيوعي أن احب وطني واضحي من أجله... حياتي كلها للوطن، فكنت اقول له- والحديث للسيد حسن- وصحتك ياأخي يجب أن تنتبه لها، فكان جوابه: العراق اولاً.. العراقيون عندما يعيشون بسعادة فإني استعيد صحتي بكاملها، هكذا كان الشهيد سلام عادل... الوطن والحزب لايفارقان حديثه.. الفقراء، الكادحون، العمال، كل هذه الكلمات كانت حديثه الممتع.... تعلق الشهيد سلام عادل بالشعر وحفظ منه كثيراً وهنا يتبين لنا دلالة المكان في شخصية سلام عادل، أحب الرسم والخط ومارس كذلك الرياضة فكان مجيداً بها، ولكن عمله الحزبي أخذه منها جميعاً..
تعرض الشهيد سلام عادل الى الكثير من الاعتقالات على يد السلطات الملكية آنذاك، وكان ناشطاً في قيادة الاضرابات العمالية في العراق وقائداً لانتفاضة الشعب العراقي على يد اثر العدوان التلاشي على مصر عام 1956.. عندما تقدم سلام عادل من والد ثمينة لخطبتها قال له اني لا املك شيئاً في هذه الحياة سوى بطاقة عضويتي في الحزب الشيوعي، واعدك بأن هذه البطاقة سوف لايصيبها الضرر مهما حدث، فأجابه والدها: هذه افضل المزايا لدي الرجال... وكان صادقاً في الوعد فالضرر لم يصب الفكر الشيوعي ولم تتأثر شيوعيته، بل الضرر اصابه هو لأنه كان يريد الخلاص من الاستعمار والعبودية والاضطهاد والذهاب الى الحرية والاستقلال هو الطريق الامثل والصحيح. الجواهري الكبير قال:

سلاماً: وفي يقظتي والمنام
وفي كل ساع وفي كل عام
تهاد طيوف الهداة الضخام
تطايح هاماً على اثر هام
سلاماً: وفي كل مااستعيد،
من الذكريات وماأستفيد
من العبر الموحيات الدوامي..
أحس دبيباً لها في عظامي
وقال:
سلاماً: وما أنا راع ذماما،
اذا لم أسلم عليكم لماما
سلاماً: ضريح يشيع السلاما
يعانق فيه جمال سلاما
سلاماً: أحبه شعب نيامى،
الى يوم يؤذن شعب قياما

كان من ابرز المهام التي تولاها الشهيد سلام عادل بعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 هي توطيد وصيانة الثورة من التآمر الاستعماري المباشر وكان الحزب الشيوعي مهيأ لمثل تلك التطورات اذ أن منظماته القيادية كانت على علم باحتمال قيام الحدث الكبير، وكان من ابرز المهام التي اراد الحزب الشيوعي النضال من أجلها تتعلق بالخروج من حلف بغداد واطلاق الحريات الديمقراطية لجماهير الشعب وقيام حكومة تنتهج سياسة وطنية عربية مستقلة تدعم نضال الشعب العربي.
في تقرير لأحد ملفات الشرطة السرية.. تاريخه ك 2/ 1958 فيه عن سلام عادل: (انه رجل انيس الى اقصى الحدود آسر، مقنع بشكل غير عادي، عالي المعرفة بشؤون الحزب، ليبرالي في انفاقه، ميال الى المغامرة)... وقال عنه محمد حديد- الشخصية السياسة المعروفة-: (رجل شديد الهدوء والدمائة، لم يكن من السهل الوصول اليه، وكان يبقى في الخلف ولا يظهر علناً الا بشكل نادر)... هذه هي النجف.. وهذا ابنها البار حسين احمد الرضي الموسوي.. الشهيد سلام عادل... كانت حياته ملحمة جسد من خلالها مسيرة بطولية كنا ومازلنا نتغنى بها، بل ونحتفى بها..
عاش خالداً ومات خالداً فكان الوطن تاريخاً... والتاريخ وطناً..