مدارات

أيها المشعون.. لماذا تستعجلون الرحيل؟ / علي أبو عراق

كأنها مواسم الرحيل ..هاهو غريد شط العرب وكناري الجنوب الملحن المبدع طارق الشبلي الذي مطرت الحانه وموسيقاه عبر نصف قرن على طول وعرض مدينته البصرة ووطنه العراق وحزبه الشيوعي العراقي يستعجل الرحيل هو الاخر ليلحق بايقونة الاغنية العراقية الصادقة المقاومة وفنان الشعب فؤاد سالم هي مواسم الرحيل اذا ومتواليات الفقد الاليم التي سرقت من قلوبنا ما تبقى من الفرح الشحيح والبسمة المتوارية ....اسعفنا ايها الصبر الجميل ...ولا تضيع مسالكنا ايها الامل ...من فقدناهم هم بضعة من روح الشعب الحية وعتبات لا تنطفئ من ذاكرة ووجدان الوطن. فبعد ان رحل عراب الشجن العراقي وملك العذوبة وينبوع الجمال والحنان الدافق وصوت العمال والفلاحين وكل العراقيين فؤاد سالم لم يمهلنا القدر طويلا ليفجعنا بالملحن الكبير والمؤلف الموسيقي الموهوب طارق الشبلي الذي احتل مساحة واسعة من وجدان وعواطف العراقيين عموما والشيوعيين على وجه خاص، فبعد صراع طويل مع المرض توفي فجر الاثنين الماضي ، في المستشفى التعليمي بالبصرة مخلفا عواصف من الاسى والحزن في قلوب محبيه واصدقائه، وذلك دون اي اهتمام من الجهات الحكومية او الرسمية على الرغم من عطائه الثر والكبير والمنوع الذي امتد لاكثر من نصف قرن
إذ ولد الراحل الكبير في البصرة نهاية الاربعينات من القرن الماضي وتعلم الموسيقى بجهد فردي ودون اي تحصيل اكاديمي لكنه على الرغم من ذلك كان في طليعة رعيل السبعينات من الموسيقين بل كان متفردا في عطائه ومنجزه الابداعي الذي طبع بسمات مختلفة اهمها التجدد واستلهام روح الجنوب والديناميكية في طرح الحانه التي كانت بمثابة قفزات في تاريخ الاغنية العراقية على الرغم من ان الكثير من نقاد الموسيقى لم يلتفتوا لهذا.
فبعد أن بدأ الراحل عازفا في فرقة الموانئ في الستينات من القرن الماضي ومكث فيها زمنا انطلق منها الى عدة فرق موسيقية في البصرة وبغداد وسجل اول الحانه في الاذاعة العراقية نهاية الستينات واستمر بعدها في اوج عطائه لا يتوقف طموحه عند حد ولا يقف عند عتبة من عتباته في التجديد بل كان يقز قفزات ابداعية مهمة شكلت انماطا موسيقية جديدة حلق في سمواتها العديد من المطربين والمطربات فمن اغنية الصفصاف لسعدون جابر التي كانت ذات نمطية لحنية معينة جديدة كل الجدة، الى اغاني سيتا هاكوبيان التي اسست لاسلوب موسيقي لم تتعرف عليه اللحنية العراقية سابقا بل لم يزل الكثير من المطربين والملحنين الشباب يقتفون اثرها ، حجز بعدها مكانا مرموقا في اغاني الثمانينات وكان له طابعه وسماته الخاصة التي تقترب من كونها ملامح مدرسة وليس مجرد تجديدات لحنية و طروحات موسيقية ، إذ تميزت الحانه في هذه المرحلة بالخروج عن المالوف اللحني من حيث الجدة و السرعة والحرارة والديناميكية والروح الجنوبية المميزة فكانت اغاني محمود انور (لو تحب لو ماتحب...ياريت . يلومون بالمبتلي وغيرها).و التي كانت فتحا موسيقيا جديدا بسرعة ايقاعها وانسيابية موسيقاها تبعتها اغان عديدة ضمن هذا النهج كاغنية عارف محسن (اكول الله على العايل) وغيرها من الاغاني التي كانت ذروتها اغنية ( فر بي) لمحمد الشامي .
ومع اشتغاله على الاغنية العاطفية لحن الشبلي الكثير من الاغاني الوطنية والسياسية والاوبريتات وكان علامة بارزة في اللحنية العراقية ايضا، اذ كنا نترنم في حفلاتنا الخاصة والعامة كشيوعيين عراقيين منذ السبعينات باغانيه التي حفرت عميقا في الذاكرة كاغنية (مكبعة) و(مرني يشمع زفتك) واغان لسلام عادل وغيره من شهداء الحزب. بعد انهيار النظام الدكتاتوري الذي كان الراحل احد ضحاياه، اذ تعرض للاعتقال لاتهامه بالانتماء للحزب الشيوعي وقضى في المعتقل اكثر من ثلاث سنوات، لحن الكثير من الاغاني الوطنية كاغنية(يم محمد ) لفؤاد سالم وعشرات الاغاني التي مجدت وتغنت بنضال الحزب والشعب وشهدائه منها (انت امس انت باجر) واغاني اوبريت المعيبر شنان واغنية (هويناك) ويا بيتي... و(هله بالمات وكفه ) وغيرها، ولعلي ارى ان من اهم منجزات الفنان الراحل الموسيقية هو مزجه بين النغم العراقي الاصيل الذي ينضح بجنوبيته وغناء فيروز الذي سكن قلوب العرب والعراقيين وطراز الموسيقى الغربية ليخرج من كل هذا نمط جديد من الاغاني اقل ما يقال عنه انه حركة تغييرية او ثورة في تأريخ النغم العراقي اذ انطلقت المطربة (سيتا هواكوبيان)، كذلك بعد خروجه من المعتقل في بداية الثمانينيات استطاع بما يمتلك من حس وابداع وايمان بقضايا الوطن والناس ان يحدث ثغرة في هذا الجدار الاسود فتفجرت اغانيه العذبة لتتحدث عن الحب والحياة والشمس والأمل رغم عدم مغادرتها الحزن العراقي المقيم، فكانت اغاني مثل ( لاتلوموني , اه لوتجوني ,وغيرها من الاغاني )
وقد احتفى الحزب بالراحل الكبير في السنة الماضية، في حفل كبير بالبصرة حضره سكرتير الحزب حميد مجيد موسى وعضو المكتب السياسي الرفيق مفيد الجزائري تقديرا لمنجزه الابداعي في مجال الموسيقى والاغنية طوال خمسين عاما.
سيخلف رحيل هذا الموسيقي الموهوب والملحن المبدع فراغا واسعا وستكف عنادل شط العرب عن الغناء طويلا وستمتد وتتمدد مساحات الصمت على جغرافية الوطن المفجوع الى حد لا يمكن تخيله خصوصا وسط هذا الجو المشحون بالتابوات. ربما نحتاج لعقود لانجاب مثل هؤلاء الافذاذ الذين اشعلوا ثرياتهم ومضوا ...نتساءل هل يكفي الامل ويجزي التفاؤل توقيتا للشمس والفرح القادم والموسيقى التي تتغنى بمجد الانسان وحريته وكرامته؟.. كل هذا في حكم التكهنات. لكن الاكيد الثابت انكم ستبقون نجوما نيرة في سمواتنا ...ولن يلفكم الموت والنسيان ابدا.