مدارات

مع المسيرة الثورية – الخطوات الاولى ...في الطريق الى نقرة السلمان (18)/ الفريد سمعان

كانت ملابس السجناء ذات قماش خشن اشبه ما يكون بقماش الاكياس التي تعبأ فيها المواد الغذائية.. كالرز.. والحنطة.. والمواد اليابسة كالفاصوليا.. وقد تحولت في معظم الاحيان الى حقائب.. للافادة منها والحفاظ على الملابس وادوات الحلاقة.. والسكائر.. لا سيما وان حقائب الامس لم تكن متوفرة كما هي اليوم.. بالوانها وفصالها.. وجلودها كما كانت تستخدم ايضاً كثياب للعمل اثناء خفارات المطبخ او غسل الصحون وسواها من الاعمال التي كان يقوم يوم بها السجناء وحسب تنسيب التنظيم.. وقد رشحت كعامل في المطبخ وغسل الصحون والقدور الكبيرة.. وكانت مهمة عسيرة لاني لم اكن قد مارستها قبلاً ولكن النهوض بالواجب يظل هدفاً نبيلاً لخدمة الرفاق.
ضمن برامج السجن التي تبدأ بالرياضة الصباحية ثم الانطلاق الى الاعمال المختلفة بعد الفطور.. وحضور المحاضرات التثقيفية لاسيما الاقتصاد السياسي.. اضافة للصنوف الاخرى المفتوحة لتعليم الاميين.. واتقان اللغة الانكليزية. وكانت هناك مكتبة تضم مجموعة جيدة من الكتب الادبية والسياسية كان يشرف عليها الشاعر عبدالحسين عبدالجليل طالب دار المعلمين الريفية في بعقوبة. لقد اعفي من العمل الرفيق غضبان احتراماً لموقعه ورتبته العسكرية ومنزلته.. وقد اقتضى اعادة تنظيم المراكز بعد نقل مجموعة من الرفاق القادة.. سالم عبيد النعمان وابو العيس وعزيز الحاج.. الى نقرة السلمان.
كان الرفيق يوسف حنا يلقي المحاضرات عن الاقتصاد السياسي وكنا أسوة بسوانا نحضر هذه الدروس.. وكان غضبان يناقش المحاضر احياناً ويحاول توضيح بعض النقاط التي يتم عرضها بشكل لا ينسجم مع مضمونها لاسيما وان مفاهيم الاقتصاد السياسي دقيقة.. وتتضمن قوانين اقتصادية ليس من السهل استيعابها الا اذا كان هناك خلفية اقتصادية لاسيما قوانين (فائض القيمة) وعلاقة ذلك باستغلال الرأسمالي للكادحين.. والعمال ومدى علاقة ذلك بتحديد السعر والاجور وسواها. كان المحاضر يشعر بالحرج من هذه المداخلات. مما اثار الظنون.. يضاف لها لقائي مع غضبان واسعد التلميذ في الكلية العسكرية.. وقد شعر التنظيم بالارتياب من هذه العلاقة. عبر اتصال بعض الرفاق من اهالي البصرة الذين يعتبرونني واحداً منهم نظراً للسنوات التي عشتها هنالك وكان من بينهم سلطان الملا علي وعبدالوهاب الطاهر وآخرون.
ولم تكن الايام تمضي بشكل هادئ لان الخطة الرسمية المتبعة والمرسومة من قبل دوائر التحقيقات هو عرقلة شؤون السجناء واستفزازهم وخلق المتاعب لهم وعدم تسهيل امورهم ووضع العصي في العجلة.. اضافة الى سرقة ما تيسر للادارة من حصة السجناء الغذائية. كما هي العادة في كافة مراكز الشرطة والسجون ودون استثناء.. وكنا نقابل ذلك بالانشاد (هبوا يا رفاق.. حرروا العراق) ولاشعار المدينة بالاعتداء الذي نتعرض له من قبل ادارة السجن، التي كانت تقوم (بالتحقيق) في اليوم التالي مع السجناء تمهيداً لتقديمهم للمحاكم واعتبار قراءة النشيد تحريضاً يستلزم الحكم على (الجناة) قراء النشيد.
بدأت الامور ترتدي ثياب المشاكسة والريبة نتيجة ايضاحات غضبان السعد في المحاضرات.. وثارت الشكوك.. ووصلت الى درجة لم يستطع التنظيم السكوت عنها.. وتصورو أن هنالك محاولة لبناء تنظيم (داخل التنظيم) «انشقاق» لاسيما وان الحكم علينا صدر باعتبارنا مؤسسي تنظيم (الحقيقة) وكان اتهاماً باطلاً وساذجاً.
في احدى ليالي أيار 1949 تم استدعاؤنا فرداً فرداً، غضبان السعد واسعد طالب الكلية العسكرية وتم تبليغنا (بالطرد) من التنظيم لقيامنا بتشكيل مجموعة مناهضة للحزب.. حملنا امتعتنا وانتقلنا الى الجهة الثانية.. رحب بنا اعضاء الاحزاب الاخرى وحصلنا على مساحة محدودة وكنا اربعة.. تم الانتقال ليلاً واثناء قيامي بترتيب المكان شعرت (بلدغة) في ابهام قدمي الايمن وعندما رفعت البطانية وجدته عقرباً اصفر اللون.. قتلته.. وربطت الابهام وجرحت ابهامي بالموس لاخراج الدم الملوث (بالسم) وكان شديد التأثير ولم تغمض عيني من شدة الوجع والآلام طيلة الليل وقد انتهى الامر في اليوم الثاني. بعد بضعة ايام توقفت امام باب السجن بضع باصات خشبية الهيكل وطلب منا الاستعداد للسفر الى بغداد بدون فراش، ولم نعرف في بداية الامر لماذا؟ وعلمنا فيما بعد اننا سنحاكم لقراءة النشيد. وصلنا الى (ابو غريب) ليلاً.. نفس المعتقل وكان في اصطبل آخر مقسم الى زنزانات ارضيتها طينية والحشرات تلعب بحرية على ارضيتها والظلمة قاتمة والطعام خبز وتمر. وفي اليوم الثاني اخذنا الى المجلس العرفي العسكري وتم الحكم على الذين اعترفوا بالقراءة بسنة او ستة اشهر حسب موقف الرفيق. وكانت التوصيات بعدم الاعتراف بقراءة النشيد من قبل الرفاق الذين يتوقعون اطلاق سراحهم لقضائهم مدة السجن. ولم يبق لهم سوى اسابيع.. وكنت ممن اعترفوا بقراءة النشيد وحكم عليّ بستة اشهر جديدة. وعندما عادوا بنا الى مركز شرطة باب الشيخ وكان المبنى في منطقة (المربعة) قرب سينما الزوراء المغلقة حالياً والتي اصبحت سوقاً تحكمه القذارة. كنا نقرأ النشيد ونحن نذرع شوارع بغداد لكي نلفت نظر الجماهير التي كانت تنظر الينا بتعاطف ملحوظ من قبل البعض ودون مبالاة من قبل البعض الآخر. وعندما وصلنا المركز وجدنا الشرطة تحمل العصي ورفضنا النزول فاستعملوا معنا اخماص البنادق. بعد بضعة اسابيع ابلغتنا الادارة بالتهيؤ للنقل وحزم حاجاتنا.. وكانت القائمة تضم معظم الرفاق الذين كما كانوا يعتقدون، بانهم نشطاء ويؤثرون على الآخرين، وكان ذلك عبر التقارير التي كان يرفعها جواسيس الادارة والنشاطات العلنية التي تقام.. وبعض المقربين من قيادة التنظيم
وفي الصباح تحركت بنا السيارات مقيدين.. ترافقنا سيارات الشرطة الذين توزعوا على المقاعد القريبة من الابواب حاملين بنادقهم.. وعلى وجوههم ملامح قاسية يرافقها الخوف مما قد يجري اذا حاولنا الهرب اثناء رحلتنا.
كنت الوحيد من المتهمين بالانشقاق وكان هنالك شيء من الرهبة والخوف من الاسترسال في الاحاديث معي وغالباً ما كنا نقرا النشيد ونحن نمر في شوارع المدن والاقضية والقرى. وكنت اكثرهم حماساً في ترديد المقاطع الثورية، رداً على المقاطعة والبرود الذي عوملت به من قبل الرفاق. كما كنت اجادل الشرطة بقوة عندما تحدث مشكلة او مواجهة لا ثبت لرفاقي اني ما زلت ذلك الرفيق الذي استقبلوه بالاحضان والاعتزاز قبل بضعة شهور. وكان واضحاً من قبل البعض لا سيما الذين توطدت علاقتي بهم اثناء وجودي في التنظيم بان اتهامي بالانشقاق لم يكن صحيحاً.
تجاوزت السيارات مزارع النخيل على طريق الحلة ثم الديوانية وكانت هنالك بعض التوقفات تحت المراقبة الشديدة والحذر من لجوئنا للقيام باي عمل استفزازي او محاولة للهروب، وعرفنا جيداً اننا نتجه الى السماوة ومن ثم الى نقرة السلمان، حيث سبقنا الى هناك مجموعة من القادة. وكان سبقني رفيقي غضبان السعد مع آخرين.