مدارات

ثمانون عاما من النضال المجيد.. من اجل وطن حر وشعب سعيد !/ د.صالح ياسر

بعد أيام ستحل علينا ذكرى عزيزة على القلوب هي مرور ثمانين عاما على تأسيس الحزب الشيوعي العراقي. فقبل ثمانية عقود بالتمام والكمال، ومع طلوع ربيع 1934، التمع في أفق العراق المستيقظ من سبات القرون أمل واعد بغدٍ أفضل للملايين المحرومة المكبلة، والمتطلعة الى مكان تحت شمس الزمن الجديد، زمن الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية. هكذا ولدت " لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار " التي كثّف اسمها برنامج عمل أجيال من خيرة أبناء وبنات شعبنا، من العرب والكرد ومن مختلف الانتماءات الطبقية والقومية والدينية والمذهبية، الذين انغمروا في إطارها، ثم منذ صيف 1935 تحت راية " الحزب الشيوعي العراقي " في نضال مجيد حافل بالعزم والفداء من اجل استقلال الوطن وحريته، وخير الشعب وسعادته.

ومنذ بداية تأسيسه كشف الفصيل الفتي، الملتهب حُبا للوطن وبسطاء الناس أوراقه على صفحات جريدته الأولى السرية (كفاح الشعب) حيث دعا في عددها الأول الى تصفية القواعد العسكرية الأجنبية وإلغاء معاهدة 1930، والى يوم عمل من ثماني ساعات وتوزيع الأرض على الفلاحين. وسرت في الشارع الوطني والأزقة الفقيرة والمعامل والحقول همهمات رضا واستبشار، ولاح في العيون وميض عزم ووعد، فيما أجفل الحاكمون نفورا وخشية، وانكبوا على سيوفهم يشحذونها. وتحول الأمل منطلقا لعمل واعد منظم لا يكل، مفعم بنكران الذات والتضحية والعطاء الثر، حيث راح يستقطب كل يوم مزيدا من الساخطين على المستعمرين واحتكاراتهم النهّابة ونظامهم الملكي شبه الاقطاعي – شبه الرأسمالي، وتواصل متصاعدا دون انقطاع رغم موجات القمع والعسف والإرهاب.

هكذا اذن في 31 اذار 1934، دون ان نغفل ما سبق هذا التاريخ من نضالات متعددة الصعد، بدأ الرواد الأوائل ملحمتهم الثورية الكبرى يوم كانت الطبقة العاملة في العراق وليدة، تتلمس طريقها للتو إلى الحياة. كوكبة مقدامة من الشيوعيين بدأت مسيرة النضال والبلاد تئن تحت سياط الإقطاع وحراب بريطانيا الاستعمارية وقواعدها وجيوشها ومعاهداتها الجائرة والنظام الملكي والإقطاع، وناهبي ثروات شعبنا نفطاً وقمحاً. في ظل تلك الظروف انبثق الحزب الشيوعي العراقي كحركة سياسية من صميم حركة شعبنا الوطنية وحركة طبقته العاملة الفتية وكادحيه وليس كما يدعي البعض انه " منتوج خارجي"، يتبنى الفكر الاشتراكي العلمي ويسترشد بالماركسية وبمنهجها المادي والجدلي والتاريخي.
هكذا إذن، من المنشور المحرض، إلى الكلمة الداعية، إلى التنظيم الصلب والشعارات الصائبة، نما الحزب وكبر فكبر به الوطن، وكبرت به الطبقة العاملة وحلفاؤها من الفلاحين وجماهير الكادحين وشغيلة اليد والفكر عموما. ومنذ ذلك الحين راح الشيوعيون العراقيون، رفيقات و رفاقا، يوسعون تحركهم وسط الجماهير متصدرين كفاحها السياسي والاجتماعي ومبلورين لها الشعارات الملموسة والتكتيكات الملموسة طبقا للظروف الملموسة. ومنذ ذلك الحين أيضا ومآثر شعبنا لا تُذكر إلا ويذكر معها الحزب الشيوعي العراقي ونضاله المتفاني والمتواصل دون كلل. وفي مرحلة النضال تلك، ربط الحزب بإبداع بين النضالات الطبقية، نضال العمال ضد أرباب الأعمال والشركات الاستعمارية، وكفاح الفلاحين ضد الإقطاع، بالنضال في سبيل التحرر الوطني ومن اجل الديمقراطية. هكذا بدأت الثمار بالنضج منذ الأربعينات، مروراً بالخمسينات من القرن العشرين. وخلال هذه الفترة توالت المعارك التي كان للشيوعيين العراقيين دور ريادي فيها: وثبة كانون المجيدة في 1948، انتفاضة تشرين 1952، وانتفاضة الحي عام 1956، اضرابات عمال النفط في كاورباغي وحديثة، واضرابات عمال السجائر والموانئ والسكك، وانتفاضات آل زيرج ودزه ئي، وعشرات غيرها من المعارك الطبقية والوطنية المجيدة والنزالات المشهودة التي مهدت لانتصار ثورة 14 تموز 1958.
وبمواجهة هذه النشاطات وضع النظام الملكي، وسادته وحماته في الخارج، قطع رأس الحزب الشيوعي العراقي على جدول الأعمال. ويوم واجه قادة الحزب الأماجد، فهد وحازم وصارم، بصمود المشانق في قلب بغداد عام 1949، حلت بالحزب فجيعة كبرى سرعان ما تحولت بعد عشر سنوات الى فعل ثوري. فقد كانت الجماهير على موعد مع ساعة الصفر في فجر 14 تموز 1958، حيث اندلعت الثورة التي لعب الحزب دوراً بارزاً ومشهوداً في الإعداد لها والمساهمة فيها والدفاع عنها.
غير أن العديد من القوى المحلية والخارجية التي أرعبها هذا الحدث الثوري الكبير، اقامت حلفاً غير مقدس لقطع الطريق على تطوير الثورة، ومن بين العوامل التي ساعدت في ذلك الخلافات التي اندلعت بين القوى السياسية وعدم ترتيب بعضها للتناقضات بشكل صحيح هذا اضافة الى النزعات الدكتاتورية لبعض قادة الثورة وعدم رهانهم على الجماهير الشعبية مما ادى الى انتكاسة الثورة وتتويج ذلك بثورة الردة في الثامن من شباط 1963. وهكذا جاء انقلاب شباط 1963 الأسود يدعو إلى ذبح الشيوعيين ببيان رسمي مشؤوم يحمل الرقم 13، فاستبيحت الدماء في أقبية التعذيب. ان انقلاب شباط المشؤوم حدد مسارا جديدا للصراع اتخذ طابعا دمويا وقيامات وحروب داخلية وخارجية لا تنتهي. بيد أن "مهندسي" الانقلاب لم يتمكنوا من تحقيق أحلامهم، فقد تولى الحزب قيادة المقاومة الجماهيرية الواسعة للانقلاب الفاشي. ورغم استشهاد الرفيق سلام عادل، سكرتير الحزب، والعديد من أعضاء اللجنة المركزية ومكتبها السياسي، والمئات من كوادره وأعضائه، واعتقال عشرات الآلاف من أعضاء الحزب ومؤازريه، ومن الوطنيين والديمقراطيين، تمكن الحزب، رغم الجراح، من مواصلة النضال ليقف مرة أخرى في الخط الأمامي من المعارك الوطنية والقومية والطبقية. وفي عام 1978 جرب الدكتاتوريون الجدد، الذين عادوا إلى السلطة بانقلاب قصر في 17 تموز 1968، أن يعيدوا سيناريو الماضي الأسود ولكن بحذاقة ومكر هذه المرة. غير أن أساليبهم لم تستطع أن ترغم الجماهير على الخنوع والاستسلام. لقد تناسى هؤلاء عِبر التاريخ ودروسه الثرية، فرغم شراسة الإرهاب ووحشية القتل ودهاء التضليل وشراء الذمم، لم تتحقق أحلامهم المريضة بتصفية الحزب الشيوعي العراقي. ماذا كانت النتيجة؟ رغم قساوة الظروف، ووسط برك الدم، نبتت زهرة حمراء، ومن الزهرة نمت بندقية ثائرة. فخاض انصار حزبنا الكفاح المسلح في ربى جبال كردستان، الى جانب اخوانهم البيشمركه من القوى الاخرى. و بنى الحزب ركائز جديدة في مختلف مدن العراق، وفي غضون سنوات قلائل تحول إلى قوة فاعلة تلعب دوراً بارزاً في الحركة الوطنية والديمقراطية، حتى غدا قطباً للمعارضة المناهضة للدكتاتورية. وفي 4/9/2003 رحل النظام الدكتاتوري إلى مزبلة التاريخ، والقي القبض على رأسه في جحر مظلم. انها نهاية "تليق" بطاغية ودكتاتور جلبت سياساته الرعناء لبلادنا وشعبنا الحروب والدمار والحصار والاحتلال البغيض والخراب. أما حزبنا الشيوعي العراقي فبقي، رغم عمق الجراح، مرفوع الهامة في سوح النضال، نخلة باسقة تمتد جذورها في أعماق ارض العراق التي رواها آلاف الشهداء على طريق التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لقد انعكست جديّة نضال الشيوعيين العراقيين في سبيل الاستقلال والحرية في إدراكهم المبكر أهمية تلاحم القوى المناهضة للاستعمار والحاكمين من أتباعه. فكانوا أول من رفع شعار " الجبهة الوطنية"، وتقدموا المشاركين في مختلف التحالفات الوطنية والديمقراطية التي قامت في البلاد. ومن جانب آخر اتخذوا موقفا مبدئيا من القضايا القومية، لا سيما حقوق الشعب الكردي، الذي أكدوا حقه في تقرير المصير، ودعموا نضاله المشروع، وصاغوا له الشعارات التي تبنتها، فيما بعد، القوى القومية الكردية ذاتها، وكذلك من حركة التحرر الوطني في البلدان العربية، وموقفه من القضية الفلسطينية والتضامن العربي عموما. وغمر حضور الحزب كل ميدان في حياة المجتمع، وألهب سعي الجماهير للخلاص من السيطرة الأجنبية ومن التخلف والاستغلال، ومن تسلط الدكتاتوريين وتجار السياسة. وامتد نشاطه الى كل زاوية في البلاد، في المدن والأرياف، والى مختلف طبقات الشعب الكادحة وفئاته: عمالا وفلاحين، كسبة ومثقفين، طلبة ونساء وشبابا. وتجاوز نشاط الحزب السياسي حدود العراق، وتجلى، مرموقا، في الساحتين العربية والعالمية، مناصرا الشعوب وحركاتها الوطنية التحررية والتقدمية، ومناهضا الامبريالية والحرب والعدوان والاحتلال.

ومنذ بداية تأسيسه، توجه الحزب الشيوعي العراقي، الى العمال وكان دوره الكفاحي في انتفاضاتهم ضد جور السلطات الرجعية عميلة الاستعمار معروفا لأبناء شعبنا منذ منتصف الثلاثينات من القرن العشرين. هكذا كان الحزب وسط معمان النضال الطبقي، يشارك العمال كفاحهم ويربط بينهم وبين كفاح شعبنا الوطني والديمقراطي العام. ولاحقا توالت نضالات العمال ومعاركهم الوطنية والطبقية وتنامى دور الحزب، الذي كان يقود وينظم في مختلف أنحاء البلاد، من كردستان الى البصرة، انتفاضات العمال، وينظم صنوفهم ويحرضهم ويزجهم في ساحات الكفاح. وكان لسنوات النضال المديدة ثمارها، فخلال أشهر بعد انتصار ثورة 14 تموز 1958 انضم مئات الآلاف من العمال الى الحركة العمالية الديمقراطية واتحادها ونقاباته التي تأسست آنذاك.

ومنذ لحظة تأسيسه ايضا طاف الحزب أرض النخيل، وحقول الذرة والحنطة، والأهوار، وخاض مناضلوه نضالاتهم في القرى المنعزلة التي تتطلع الى الفجر، حيث استوطنتها الأمراض، وفتك فيها شيوخ الإقطاع، وسماسرة المدن، القرى التي لم يصلها سوى رصاص الشرطة، وحملات الحكومات التأديبية. هناك في اعماق الريف العميقة حمل الحزب راياته وطاف في قلوب الفلاحين الفقراء، فعلمهم أبجدية القراءة والنضال، ليقرءوا اضطهادهم العلني بنشرات سريّة تارة وعلنية تارة أخرى، بحسب طبيعة السُلط المتعاقبة والظروف الملموسة، وقادهم وسط رياح الظلام وظلم الاقطاع، وهم يحملون مشاعل الحزب وكلماته، ويناضلون من اجل فجرهم، الذي هو فجر إخوانهم العمال وكل البسطاء والكادحين والفقراء، و المثقفين الثوريين والجنود والضباط الوطنيين والديمقراطيين، على امتداد العراق من زاخو حتى البصرة، ومن الرمادي حتى خانقين.

هكذا توجه الحزب الشيوعي العراقي، الى الفلاحين وكان دوره الكفاحي في انتفاضاتهم ضد جور الإقطاع والسلطات الرجعية معروفا لأبناء وبنات شعبنا منذ. ففي انتفاضة الفلاحين في سوق الشيوخ في بداية الثلاثينات من القرن العشرين كان حزب الشيوعيين العراقيين هناك، يشارك الفلاحين كفاحهم ويربط بينه وبين كفاح شعبنا الوطني والديمقراطي العام. فمن أولى البيانات التي أصدرها الحزب كان بياناً موجها للفلاحين وهم يقاومون ببسالة الرجعية والإقطاع. ولاحقا توالت نضالات الفلاحين وتنامي دور الحزب، الذي كان يقود وينظم في أرجاء الريف العراقي، انتفاضات الفلاحين في العمارة، والناصرية، والبصرة، والفرات، وده زئي، وكل مناطق كردستان، كما قاد الانتفاضة الفلاحية في الفرات عشية ثورة 14 تموز 1958 والإعداد لها. وكان لسنوات الكفاح العديدة ثمارها، فخلال أشهر بعد انتصار ثورة 14 تموز انضم (300) ألف فلاح الى اتحاد الجمعيات الفلاحية التي تأسست.

كما انه وطيلة تاريخه النضالي المديد سعى الحزب الشيوعي العراقي الى بلورة مشروع التغيير ونشر قيم التنوير والحداثة والاستقلال الوطني والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية ونشر الفكر التقدمي وتطوير الثقافة الوطنية والديمقراطية. وكان لشريحة المثقفين فيه الدور البارز في بلورة مشروع التغيير وتنمية قيم التنوير والحداثة والفكر العلمي التي طرحها وروج لها الحزب. فقد لعب الحزب ومثقفوه ادوارا مهمة في خلق التراكم المعرفي وخاضوا، على الجبهة الثقافية، معارك الحفاظ على ذاكرة جمعية متقدة في مواجهة إشكاليات الوعي الجمعي ومحاولات تزيفه من قبل السلط الدكتاتورية المتعاقبة، التي سعت لتشويه وظيفة الإبداع، ساعية لتحويلها الى وظيفة لإنتاج وإعادة إنتاج الاستبداد، وتحويل المعرفة إلى أداة لتبرير الأيديولوجيا القائمة على وحدانية المرجعية حيث تم حبس عملية المعرفة التي يحتاجها المجتمع في أقمطة لا يجوز التمدد خارجها!. ولولا الجذور العميقة للثقافة الوطنية - الديمقراطية العراقية لما استطاعت هذه أن تقاوم تلك الموجات من الاستبداد والعنف والتدمير المنظم. ولم يكن الحزب الشيوعي العراقي بعيدا عن تغذية روح المقاومة هذه وإبقاء جذوتها متقدة عبر عقود ثمان بحيث اصبح الحاضنة الفاعلة في معركة التنوير والحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.

وبالمقابل فان الحزب ومنذ بداية تأسيسه ايضا، وفي إطار مهمته التنويرية، توجه الى مختلف مكونات المجتمع ومن ضمنها المرأة ودعمه لمحاولاتها الدائمة لتغير أوضاعها وإحقاق حقوقها في الحرية والعدالة والمساواة، وتحريرها من هيمنة التقاليد البالية، معتبرا ان قضية المرأة هي قضية مجتمعية بامتياز. ومنذ بدايات التأسيس، ورغم كل الصعوبات، كان حزب الشيوعيين العراقيين وسط معمعان النضال الطبقي والاجتماعي، يشارك النساء العراقيات كفاحهن ويربط بينه وبين كفاح شعبنا الوطني والديمقراطي العام. فعلى سبيل المثال لا الحصر شمل النضال من اجل الاستقلال والتصدي لمعاهدة 1935 الاستعمارية مشاركة واسعة للمرأة العراقية. وفي النصف الثاني من الأربعينات شاركت المرأة بشكل فعال في المعارك الوطنية وقضايا السجناء السياسيين، كما كانت مساهمتها في وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث بارزة ونشطة.

ولاحقا توالت نضالات النساء ومعاركهن الديمقراطية والوطنية والطبقية، وتنامي دورهن وتنظيم نشاطهن الذي أدى الى تشكيل منظمة (رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية) وبشكل سري في 10/3/1952 والتي جمعت في صفوفها النساء على اختلاف اتجاهاتهن السياسية وطبقاتهن الاجتماعية والقومية والعقائدية. كما شاركت المرأة العراقية بنشاط فعال اثر قيام ثورة 14 تموز 1958 وساهمت في الدفاع عنها وعن مكتسباتها.

وبعد انقلاب شباط الأسود عام 1963 تعرضت الشيوعيات وكذلك الناشطات في الحركة النسائية الديمقراطية الى الملاحقة، وجرى اعتقال الكثير منهن ومن كوادر هذه الحركة اللواتي تعرضن الى التعذيب الوحشي والسجن والتهميش والإقصاء، واستمر هذا الأمر خلال الفترات اللاحقة ووجد ذروته خلال فترة الحكم الدكتاتوري.

وما انفكت الأوضاع الأمنية السيئة في عموم العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري، خاصة أعمال التخريب والتفجيرات والقتل الجماعي، تحصد يومياً أرواح الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال، فيتزايد عدد الأمهات الثكلى والأرامل، وعدد الأطفال اليتامى. هذا إضافة الى ما تتعرض له النساء العراقيات في مختلف المدن العراقية من قتل وتضييق على الحريات وإجبار النساء على أنواع محددة من الملبس والممارسة الحياتية.

*****
هكذا اذن لم يكن الطريق من اجل "وطن حر وشعب سعيد" سهلا قطعا.. بل كان صعبا ومحفوفا بمخاطر شتى وتحديات هائلة.. وهذا هو طريق الجديد الناهض المتحدي للواقع والساعي لتغييره.

إن الملاحظات السابقة تتيح القول انه لم تكن للشيوعيين العراقيين، يوما طموحات مغايرة لطموحات الكادحين وعامة الشعب. لذلك ارتبطت مصائرهم على امتداد ثمانية عقود بمصائر الكادحين تقدما ونكوصا، انتصارا وانكسارا. وكان قادة الحزب وفي مقدمتهم مؤسس الحزب وبانية الرفيق (فهد) ورفاقه ورفيقاته، كل حين، في المقدمة بين شهداء المعارك المتوجة بالنصر، كما في الطليعة بين ضحايا الانكسارات وطغيان النظم القمعية والدكتاتورية من مختلف الالوان. رغم كل الصعوبات والأخطار والمحن بقيَّ الحزب مفعما بالعزم على مواصلة الشوط حتى يتحقق الأمل الذي أشاعه نشوءه في ربيع 1934 في " وطن حر وشعب سعيد ".

وأخيرا لن يكون للاحتفاء بالذكرى الثمانين مغزاه العميق وطعمه الخاص بدون ان نتوقف هنا و نحني هاماتنا اجلالا أمام اولئك الذين عبدوا لنا الطريق بدمائهم وعطاءهم اللامحدود فالجود بالنفس اقصى غاية الجود، انهم شهداءنا الابرار من نساء ورجال الحزب .. وهم بيارقنا الباسقة دوما في كل معركة وفي كل ساحة نضال.

ففي العيد اليوبيلي الثمانين نحمل مشاعل الشهداء، نسير على دروبهم المضيئة ونتذكر كل أولئك الذين وهبوا حياتهم دفاعا عن الحزب ومبادئه السامية. لقد أراد أعداء حزبنا أن يجتثّوا نبتة عصيّة ليس من عادتها التنكر للتربة العزيزة، ولكن هؤلاء اندحروا، فبقي الحزب نخلة باسقة في سماء وطننا.

هكذا اذن تخفقُ الرايةُ.. وتحت ظلالِها الحمراء، يتوهج اسم مؤسس الحزب الرفيق (فهد) الذي أرَّخ باستشهاده زمنا بطوليا يليق بكل مناضل نذر نفسه للوطن والحزب والطبقة واجتراح المأثرة. يتواصل قرع الأجراس للأبطال..إن الموكبَ يتواصل.. وفي الذاكرة يعيد التاريخ توهجه ولنقرأ الأسماء ولنحدق في دم العناوين: حازم، صارم، سلام عادل، جمال الحيدري، جورج تلّو، محمد حسين أبو العيس، محمد الجلبي، حسن عوينة، طالب عبد الجبار، صبيخ سباهي، حمزة سلمان، عبد الرحيم شريف، محمد صالح العبلي، عبد الجبار وهبي، كامل قزانجي وتوفيق منير.

مسيرةٌ حافلةٌ في الفداءِ والتضحية، طويلةٌ بطول العراق وعرضه، تشهد عليها محطات النضال المعمدة بالدماء الزكية لبطلاتنا وأبطالنا. لنحدق في الملامح.. ونتفرس في الوجوه المضيئة، وننطق بالأسماء.. لنقرأ قائمةً أخرى بأسماء أولئك الذين استشهدوا في السجون، من بين ذلك في مجزرتي سجن بغداد وسجن الكوت وانتفاضة الحي الباسلة: دنحا يلدة ، نعمان محمد صالح الاعظمي، هادي عبد الرضا، موسى سليمان، احمد سليمان، احمد حسون، صبيح مير، وحيد منصور، احمد علوان، عبد النبي حمزة، رؤوف صادق الدجيلي، مهدي الشيخ حسين الساعدي، المربي يحيى قاف، الشيخ عبد الواحد وياسين سلّو وعلي الشيخ حمود وعطا مهدي الدباس.

وللموصل الحدباء في ساحاتها تساقط شهداؤها، الذين أخذتهم أعواد المشانق ومنصات الرمي بالرصاص وضحايا الاغتيالات، من بينهم: وعد الله النجار، ساطع إسماعيل، محمود إبراهيم وعبد الله الشاوي ومئات الواهبين.
ولنقرأ الملحمة الشيوعية من جديد. ففي احد فصولها كركوك مدينة الشعلة الأبدية حيث نُفِذَ حكم الإعدام بعشرات من الورود الشيوعية الفواحة من بينِهم: الشيخ معروف البرزنجي، عبد الجبار بيروزخان، مجيد حسين، فالح الجياري، عبد الله توفيق القرداغي، فتاح محمود، سالار توفيق، علي البرزنجي.

تتوهجُ الذكرى مجددا.. تواصل قافلة اخرى مسيرتها مكللة بالغار.. تمر في شوارعنا ومعها تاريخاً حافلاً ونضالاً مجيداً: شاكر محمود، ستار خضير، كاظم الجاسم، فاضل عباس المهداوي، وصفي طاهر، ماجد محمد أمين، سعيد متروك، نافع يونس، محمد الخضري، عبد الخالق البياتي، خزعل السعدي، محمد الدجيلي، جواد عطية، فكرت جاويد، عواد الصفار، الياس حنا كوهاري، صبيح سباهي، متي الشيخ، عدنان البراك، صاحب المرزة، فاضل الصفار، حميد الدجيلي، عبد الأحد المالح، بشار رشيد، سهيل شرهان، وليد الخالدي، أبو كريّم، خضر كاكيل، أم سرباز، عميدة، أنسام، موناليزا، منعم ثاني، أبو آيار، وشهداء عموم معارك الحركة الأنصارية المجيدة وما أكثرهم، وشهداء النظام الدكتاتوري الإبطال وما أكثرهم وشهداء السنوات الأخيرة من ضحايا حروب الطوائف والميليشيات وجرائم القاعدة وفلول البعث، وفي مقدمهم القائد الانصاري وعضو المكتب السياسي لحزبنا الرفيق وضاح عبد الامير (سعدون) وكامل شياع وهادي صالح (أبو فرات) وفاضل الصراف وأبو ثابت والعشرات من الرفيقات والرفاق الخالدين في ذاكرة شعبنا وحزبنا دوما.

تقرع الأجراس للأبطال، ويتمجد التاريخ وعند مثل هذه الحدود، يكبر الشهيد الشيوعي، ليغدو شهيد وطن، وابن شعب بأسره. لنفسح الطريق للأبطال والبطلات وهم يصعدون الى انشوطة المجد.. إن القوافل تتواصل.. وتسحب وراءها تاريخا ناصعا.. مزكى بالدم.. والمحبة. فلقد أزهر الدم.. وعلى شجرة النضال العظيمة أعطى وما زال يعطي ثماره.. ان القوافل ما انقطعت ابدا.. وان التاريخ وان طال الزمن، سيمجد ذات يوم كل هذه الالوف المؤلفة من الشهداء فلن تذهب دمائهم هدرا.

تسيرُ المواكب، تسحب ورائَها الزغاريد، وقرع الطبول، وآخر الكلمات التي أوصى بها الشهداء لرفاق ورفيقات النضال: إن للعراق شهداؤه، وضريبة النضال المقدسة..من كردستان إلى الفاو.. من خانقين حتى الانبار..أبطال تلتف أيديهم وقلوبهم على طريق الشعب ومن اجل أهدافه النبيلة في الكرامة والخبز والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.

لتكن اليوبيلية الثمانينية مناسبة لوقفة إجلالٍ وإكبارٍ لتلك الدماء الكريمة التي أضاءت لنا الدرب، ومحطة لتكريس مبدأ المعرفة والاختيار الصائب والموقف الأصح. ولا نستثني أحدا ممن سلكوا دروب الكفاح والاستشهاد فلا مواقع متباينة للأبطال والشهداء... للشهداء قاماتٌ متساوية..إن القامات واحدة.. والنبرات واحدة.. والرايات واحدة، والدماء بلون واحد.. بهم وهم يمرون بيننا، على هاماتِهم، ما تزال وستبقى الى الابد أكاليل البطولة والفخر والتضحية.. وفي شفاههِم لم ينقطع النشيد... وعلى أصابعِهم دم زهور معتقة. نباهي بهم الامم وندري أن مواسمَنا تكتملُ بأسمائهم، ومن جدارة هذا الذي قدموه تشتد طاقة النموذج، وتصبح قابلة للتبني. إن الدماء التي أرخصوها هي خلاصة المحبة، والوعي، والإرادة الصادقة، والشجاعة وروح الاقتحام.. إنهم حافز في ضمائرِ رفيقاتِهم ورفاقهم ممن يواصلون المسيرة اليوم، رغم كل الصعاب، على خطاهم كما كانوا بالأمس حين يشتد الليل نراهم نجوم للأفق الرحب. إنهم اليوم، كما كانوا دوما، علامات خضر على الطريق المجيدة المفضية إلى " وطن حر وشعب سعيد ". بهم يشمخ الحزب... وبمن ظلّوا خلّصاً على المبادئ العظيمة تتواصل المسيرة من اجل إنهاء تركة الاحتلال وآثار الدكتاتورية، ومن اجل بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد يتسع للجميع من دون اقصاء او تهميش او تمييز على الدين او الطائفة او المذهب او القومية او الموقع الاقتصادي.. الخ.

واليوم، ونحن على أعتاب العيد الثمانين لميلاد حزبنا، نستذكر ونتدبر ونتعلم ونحتاط .. ولم يعد في الوقت متسع لاجترار المسلمات واليقين الجامد وصنمية الفكرة المطلقة. إننا نواجه مهمات جديدة يفرضها عالم جديد، واصطفاف جديد، من اجل مستقبل جديد. نحن اذن بحاجة إلى إعمال العقل الجماعي، لندرس تاريخنا، بانتصاراته واخفاقاته ايضا، بعين ثاقبة وذهن متفتح يسمح بالنظر إلى تاريخ الحزب كعملية متناقضة، مستمرة ومتواصلة، بماضيها وحاضرها ومستقبلها كذلك، فالثوريون الحقيقيون هم أولئك الذين يتعلمون من إخفاقاتهم وصعوباتهم مثلما يستفيدون من نجاحاتهم للتقدم إلى الأمام. فالمهم إذن ليس هجاء التاريخ وتجاربه قدر تلخيص الدروس الثرية بشكل صحيح، وتوظيفها بما يتيح لنا أن نفهم، على نحو أعمق وأدق، تعقيدات الماضي على حقيقتها من دون تبرير أية اخطاء وقعت، وصعوبات الواقع الراهن واشتراطات الظرف الملموس من دون أن نستسلم لهما، إذ بقدر ما يكون الشيوعي ابناً باراً للواقع من دون الاستسلام لاشتراطاته فانه يكون جديراً بتغييره.
هكذا اذن وعلى طريق النضال المخضب بالدماء والحناء يواصل الحزب اليوم، رغم كل الصعوبات والمخاطر، سعيه الدائب من دون كلل، سوية مع القوى الوطنية والديمقراطية وكل الحريصين على بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية تقوم على فكرة المواطنة بعيدا عن نظام المحاصصات الطائفية –الاثنية.
تحتاج البلاد اليوم، إذن، الى بديل آخر عابر للطوائف وخنادقها المتقابلة والذي هو المشروع الوطني الديمقراطي، الذي سيخلق الشروط لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية على اساس المواطنة والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية. ونتطلع الى ان تكون الانتخابات البرلمانية القادمة التي ستقام في 30/4/2014 محطة على طريق تغيير توازن القوى السائد اليوم، وان تتمكن القوى المدنية - الديمقراطية المؤتلفة في اطار تحالف مدني واسع (التحالف المدني الديمقراطي) والذي يشكل (التيار الديمقراطي) نواته الصلبة وقطب رحاه، من تحقيق نتائج طيبة تساهم، على المدى البعيد، في تفكيك نظام المحاصصات الطائفية - الاثنية، وتوفير شروط ومستلزمات اقامة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية.

ستبقى لحظة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في عام 1934 نقطة وضاءة في تاريخ العراق المعاصر ومعلما متميزا على طريق نضال شعبنا من أجل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والاشتراكية.

المجد كل المجد لشهداء وشهيدات حزبنا......... لكل شهداء الحركة الوطنية والديمقراطية واليسارية.... شهداء الشعب والوطن..!

المجد كل المجد للذكرى الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي.. وكل عام وراياته تخفق في سماء بلادنا مؤكدة على تواصل المسيرة التي اطلق الرواد الاوائل ملحمتها الاولى في 31 اذار 1934 ومذكِرة بشهدائنا وشهيداتنا ممن جادوا بأنفسهم فأضاءوا الدرب لمن واصلوا بعدهم المسيرة المعطاءة دون كلل، وللآتين ممن سيصبحون شيوعيين بعد حين، غير هيابين بالمخاطر والصعوبات، يجمعهم ويوحدهم شعار نبيل منذ لحظة التاسيس هو: "وطن حر وشعب سعيد" !.