مدارات

مع المسيرة الثورية.. الخطوات الاولى .. نقرة السلمان.. لأول مرة (19) / ألفريد سمعان

ما زلنا في عام 1949، كانت القافلة قافلة المناضلين الأشداء. على مشارف مدينة السماوة. المحطة التي ينتقل منها كل من يتجه الى نقرة السلمان. توقفت السيارات للاستراحة استعدادا للمسيرة الحافلة بالمخاطر رغم معرفة شرطة البادية بأسرارها. لكن الطريق لم يكن مبلطا وقد ضاعت عشرات السيارات فيه. وحدثت أمور غريبة ومرعبة مع جنوح السائقين عن المسار الصحيح. تزودنا ببعض الطعام مع اوعية المياه. وانطلقت السيارات بعد بضعة عشرات الكيلومترات واذا بقرية بائسة، يكاد عدد الكلاب فيها يفوق عدد السكان، وكان هنالك بئر، يتزود منه الشرطة والسكان بالماء، ولعدم التفريط بما لدينا، عمدنا للاستفادة من ماء البئر، وعندما شربناه وجدناه مرا بملوحة قاسية. ظلت السيارات تشق طريقها والسائق يتبع آثار العابرين السابقين على هذه الدروب المتشابكة، وبعد اكثر من ساعة ونصف، صادفنا منحدر اخترقته العجلات لمسافة تزيد عن عشرين كيلومترا. ثم عادت للخروج منه لتلوح مبان محدودة واطئة الارتفاعات، الا مبنى واحداً يضم اكثر من بناية عالية، وعندما سألنا الشرطة قالوا وعلى وجوههم بعض الارتياح (ها هي نقرة السلام) بعدها توقف الرتل، واصطف عدد من رجال الشرطة امام باب متوسطة الارتفاع، مخططة بانابيب حديدية، وكان في مقدمة (المستقبلين) الاعداد والاصدقاء.. رجل طويل القامة بملابس عسكرية، يحمل في يده عصا، نظامية يحدق بقسوة ويتطاير الشرر من عينيه والوقاحة في تحريك العصا شمالا وجنوبا، ارتفاعا وانخفاضا، يكاد يلوح بها ليشعرنا بسطوته، وعظم نفوذه، ليخلق في اوصالنا مظاهر الخوف والفزع.. ويبدو أنه متعود على مثل هذا المظهر الشرير والمواقف التمثيلية الصارمة.
تركنا السيارات واستقرت أقدامنا على الارض، أحاط بنا الحراس من كل الجوانب، انزلنا حاجياتنا، وبدأت المناداة على الاسماء ومن ثم اجتياز بوابة، ومساحة مكشوفة ثم باب آخر.. يؤدي الى ساحة السجن، التي امتلأت بالرفاق الذين سبقونا، وقسم منهم اتجهوا قبل اشهر الى هذا المعتقل الصحراوي الرهيب.
تصاعدت تحيات اللقاء والعناق، وتطايرت من الشفاه القبلات، وبعد ان دخلنا بدون خسائر او اعتداءات اتكأنا على الجدار، مع حاجياتنا، وألقى احد الرفاق خطبة قصيرة حيا فيها نضالنا، واشاد بما قدمه الرفاق خلال المسيرة الثورية من اجل مستقبل افضل، ووطن ينعم أهله بالخير والسعادة والمحبة في ظل تقدم حضاري وتحقيق الامال العريضة التي تزخر بها الافكار وتنتعش بها القلوب.
بعد ذلك طلب من الجميع التوجه الى احدى القاعات، وحمل الجميع حاجياتهم.. وحقائبهم، وكنت قد تهيأت لنقل ما احمله، وهنا قصدني احد الرفاق وقال (الامر لا يشملك) وفوجئت، اخذني الذهول، كيف (يختزلني) الرفاق بهذه الطريقة المؤذية القاسية، احتقن دماغي بالافكار الجامحة وغطت وجهي حمرة قاسية، ايمكن ان يتم التعامل معي بهذه الطريقة!؟
بقيت واقفا في مكاني لا اعرف ال اين اتجه.. وكان بعض السجناء قد راقبوا الموقف، ولكن لم يتقدم أحد للنجدة حتى من غير الملتزمين بالتنظيم من الاحزاب الاخرى وبضمنهم اعضاء البارتي الديمقراطي وكان ابرزهم عوني يوسف، وكذلك عاصم الحيدري شقيق جمال الحيدري، وبعد فترة قصيرة ولكنها كانت طويلة جاءني أحد الرفاق ودعاني لمرافقته ففعلت، وجدتني ارتقي سلما يؤدي الى الطابق الاول وقابلت الرفيق سالم عبيد النعمان الذي كان المسؤول الاول عن التنظيم، وكان معه ابو العيس، وعزيز الحاج، والقى عليّ (محاضرة) قصيرة عن ضرورة استيعاب حركة الطبقة العاملة وادراك اهميتها في الصراع مع اعدائها وانها ليست حركة طلابية يتاح فيها التفكير بشكل متهافت، بلا روابط.. وهنا لم اكتم (خبثي) فقلت له ان الرفيق فهد يقول ان الطلبة هم الوردة التي تحملها الطبقة العاملة على صدورها، فابتسم، وقال التحق برفاقك.
تبدل الحال، واستقرت المشاعر الملتهبة وخفت صوت الظنون، لاسيما ان قصدني عدد كبير من الرفاق يعانقونني ويلقون التحيات من الطلبة والعمال ووجوه اخرى كنت اراها في التظاهرات والاجتماعات التي القيت فيها بعض القصائد بدفع من التنظيم والقياديين واخذت مكاني المقرر.
كان سجن السلمان القديم يتكون من بنايتين يفصل بينهما فضاء يزيد عن ستين مترا وعرض ثلاثين. وفي المنتصف (مخزن) كان الشرطة يتخذونه مخزنا للاسلحة والعتاد. كان كل مبنى يتكون من طابق أرضي، وأول، والدخول يكون من الاعلى من الطابق الاول بسلم خشبي وكان الباب الحديدي بارتفاع ثمانين سنتمترا واكثر قليلا، وبعرض تمرير انسان مترهل. وهنالك سلم حديدي داخلي يربط الطابق الاول بالطابق الارضي وكان هنالك خزان للمياه ويبدو ان هذه الاحتياطات اتخذت لعدم السماح بالتسلل او اقتحام الطابق الارضي من قبل القبائل السعودية التي كانت تشن هجمات على نقرة السلمان، التي شيدت بمعرفة الجنرال الانكليزي المدعو (ابو حنيك)، وكان هنالك مطبخ ومخزن للمواد الغذائية وكان أبرز الطباخين طالب الحقوق هنري مرمرجي.. كما كان هنالك بئر يسد حاجة السجناء لكي لا تتاح لهم فرصة مغادرة الاسوار بدعوى نقل المياه التي قد تصل بالسيارات.
كانت هنالك رياضة صباحية، ثم الفطور، والانتقال الى مختلف الصفوف بالعربية وكان الاستاذ حميد حمدي الذي اصبح محاميا ناجحا وقصة اخيه معروفة (عزيز) الذي حمل فراشه من بغداد الى ابي غريب مشيا على الاقدام، وكانت هنالك صفوف لتعليم الاميين، والمحاسبة، ومن الالعاب الشطرنج، وتقوية عضلات السيقان بالسير الحثيث وكان معنا معلم الرسم والنشيد سلام عادل.