مدارات

اليسار بين اليوم والغد / د . إبراهيم إسماعيل

بمناسبة حلول العيد الثمانين لميلاد الحزب، لا بد لي أن أنحني إجلالاً لكل من رفع راية الشيوعية في العراق، إبتداءً بالرواد الخالدين وحتى آخر صبية وفتى التحقا بالحزب وأن أقول للجميع: سلمت أياديكم، وعيدكم مبارك. اليسار فعل بشري وتاريخي يستدعيه التباين في توزيع الثروة والسلطة، ولهذا فقد ولد مع قيام التقسيم الطبقي للمجتمع وسيستمر حتى إنتهاء هذا التقسيم. ويتمتع اليسار بتعاريف عديدة، تاريخية وطبقية، الا إن أكثر ما ينسجم وجوهره، حسب زعمي، ذلك الذي يقول بأن اليسار طريقة للتفكير والعمل تهدف لتحقيق التحرر والعدالة عبر تغيير جذري للواقع القائم.
وقد مر اليسار بمراحل متعددة، ففي العصر الحديث بدأ بالتطور حين شعرت جماهير الثورة الفرنسية، بأنها عجزت عن تحقيق هدفها الثالث والمتمثل بالمساواة، هذا الشعور الذي إنبثقت معه الحركة الإشتراكية الفرنسية. وحين تجاوز التطور هذه الحركة، ولد يسار جديد منحه كارل ماركس نظرية تنهل من منجزات العلم الحديث وتستند لتحليل آليات التطور الرأسمالي من جهة ولقراءة المستقبل في ضوء التجربة التاريخية من جهة مكملة. ثم تجاوز التطور قدرة الأممية التي بناها ماركس على تحقيق العدالة، فولد يسار جديد على يد لينين ورفاقه، وتحققت أول دولة ظافرة للكادحين، حققت منجزات هائلة على مختلف الاصعدة. لكن التطور تجاوز مرة أخرى هذا اليسار لأسباب عديدة، لعل من أبرزها إنحيازه الى فكرة تحقيق العدالة وإهماله المريع لتحقيق الحرية وللعلاقات الطبقية في الإنتاج وللخصوصيات الثقافية. وتصاعدت صيحات اليمين الجذلة، مبّشرة بأن إنهيار هذا اليسار هو نهاية التاريخ، زاعمة أن النظام الرأسمالي قادر على حل تناقضاته بنفسه، وإن قيم المنافسة قد إنتصرت على قيم التضامن. لكن الفرحة لم تدم طويلاً، فهذا الإنهيار لم يغير من جوهر الأمر شيئاً، وبدا جلياً أن لا مستقبل للبشر بدون اليسار، حيث بقي تحقيق الحرية والعدالة مطلباً أساسياً للناس، وحيث مازال تنظيم العلاقة بينهما بشكل ما، معضلة تتطلب الحل، في الوقت الذي لازال فيه المجتمع الرأسمالي غارقاً في تناقضاته، عاجزاً عن إقناع أحد بمعنى الحرية حين يفتقد الناس للظروف الاجتماعية التي تسمح لهم بممارستها!

اليسار بعد الإنهيار

غير إن اليسار لم يعد موحداً في أغلبه، كما كان قبل إنهيار اليسار اللينيني، بل صارت هناك تنويعات مختلفة له. فهناك ما يمكن تسميته باليسار الميكانيكي الذي تلكأ أداؤه الجماهيري كثيراً حين أضاع البوصلة، فلجأ الى إدخال تحسينات تجميلية على بعض جوانب عمله مع الإبقاء على ذات الآليات. وهناك اليسار الخائب الذي يعاني من عقدة الهزيمة، والذي إنكفأ للصفوف الخلفية وفقد ثقته بنظريته، ناسياً إنه قد ساهم مساهمة رئيسية في ما حققته المجتمعات من تحديث اجتماعي، وإنه لا يتحمل وزر أخطاء الرفاق "الكبار" وإن نظريته لما تزل الأداة الأساسية للتحليل الاجتماعي حتى بالنسبة لأعدائها. وهناك أيضاً يسار أعلن تخليه عن الماركسية، لأنها أكبر من امكانياته المحدودة في بلاد "لا تتوفر فيها علاقات رأسمالية متطورة"! ورغم ما حققه هذا اليسار من بعض التقدم الآني، لكنه عاد ليتراجع حيث لم تعد مقولاته الجديدة تثير الدهشة. أما التنويع الآخر لليسار فهو الذي ينزه النص من أي خطأ ويعلل إنهيار التجربة السوفيتية بإرتكاب أخطاء تطبيقية ويأمل أن يؤدي تطبيب الماضي الى نهوضه وتبوئه لمكانه الطبيعي. ويشير واقع الحال الى أن هذا اليسار متلكئ هو الآخر، عاجز عن تفسير أسباب إنحسار نفوذه بالذات رغم إنه لم يمارس الأخطاء التطبيقية التي يفترضها سببا وحيداً لما حدث.
وبين كل هذه التنويعات، يبرز اليسار الجاد، والتي تتمثل ماركسيته في إيمانه بحركة الفكر وبضرورة تغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية ورفض أية إعادة لإنتاجها. لكنه لا يجد غضاضة في القطيعة مع ماركس، باحثاً في إمكانية الإرتباط الإيجابي بين الفردي والجماعي، وفي دور العلم في التقسيم الفكري للعمل وعلاقاته بالأشكال الإجتماعية المسيطرة، وفي شكل الدولة ودورها في مراحل الإنتقال للمجتمع اللاطبقي، وفي الدور الذي يمكن أن تلعبه الخصائص الثقافية والقيم الروحية. هذا اليسار المشاكس، الذي برز بقوة في أمريكا اللاتينية وأوربا، لا يرى النهوض نتيجة لمعالجة الخلل في العلاقة بين النص والممارسة بل وأيضاً في كيفية الإتكاء على ماركسية جديدة، تقيم حواراً نقدياً مع ماركس ومع كل من أضاف اليه، وتسعى الى الإنفتاح على الثقافات والمساهمات النقدية المختلفة والى مراعاة وقائع ومستجدات القرن الحادي والعشرين.

اليسار في العراق

تشكل ولادة الحزب الشيوعي العراقي، نقطة إنطلاق هذا اليسار، تلك الولادة التي أملاها تلاقح التأثيرات الفكرية الأممية مع المطامح الوطنية لشعب متنوع القوميات والأديان والطوائف في دولة حديثة التكوين، فجاء الحزب ملبياً حقيقياً لتلك الطموحات في برامجه وفي تركيبه التنظيمي ومساره الكفاحي، مشّكلاً بحق أحد الأعمدة الأساسية للهوية الوطنية الجامعة، إن لم نقل أهمها على الإطلاق. وقد شهد تاريخ العراق المعاصر، أروع ملحمة في التضحية وفي النضال العنيد والإيثار، سطرها الشيوعيون العراقيون على مدى 80 عاماً مضت. ويسجل لهذا الحزب ايضاً قدرته على مواجهة الزلزال الذي حدث بإنهيار اليسار اللينيني، الذي كان جزءً فاعلاً منه، وتجاوزه للردات الإهتزازية التي ضربت الحزب، وخروجه منها موحداً وفاعلاً وذا صلة معقولة بالجماهير الشعبية. ويكمن سر ذلك في التجديد الذي تبناه المؤتمر الخامس للحزب والذي مثل تغييراً جذرياً في رؤيته الفكرية وبنيته التنظيمية، أتاح له التفاعل مع المشكلات الحقيقية التي تواجه الدولة العراقية وتشكيلتها الاجتماعية. فكما رفض المؤتمر تبرير انهيار اليسار اللينيني بالعامل الخارجي فقط، رفض الطروحات الجزعة والمتخاذلة التي اتسقت مع رايات الليبرالية السياسية والاقتصادية، وسعى الى اعتماد الماركسية في دراسة الواقع الاجتماعي وتغييره وتحويله على أساس إدراك متميز لطبيعة المجتمع العراقي. كما تخلى الحزب عن إحتكار قيادة المرحلة الانتقالية وتبنى التبادل السلمي للسلطة وتحقيق الإشتراكية عبر صيرورة تاريخية، مستبدلاً أساليب العنف الثوري بهدف الوصول إلى السلطة بالنضال لتحقيق الوحدة الجدلية بين الديمقراطية والعدالة الإجتماعية.

صعوبات ومعوقات

غير إن الفترة المنصرمة من حياة الحزب واليسار العراقي تشير الى وجود صعوبات جمة، تؤثر على نشاط الحزب، جماهيرياً وإنتخابياً، وتكمن هذه الصعاب في المتغيرات الدراماتيكية التي تشهدها التشكيلة الاجتماعية العراقية وفي هيمنة الطائفية السياسية وفي التلكؤ في معالجة العوامل الداخلية.
إن السبب الموضوعي الأول لتلكؤ عمل اليسار العراقي، في زعمي، إنما يكمن في تمزق وتشتت الكتلة الشعبية التي تمثل قاعدته الاجتماعية وتعرضها لتبدلات جوهرية عميقة. فقد أدى تراكم الثروة نتيجة الأنشطة الريعية غير الأنتاجية (1)، والفساد المالي والمال السياسي الوافد من الخارج كرشاوى وخاوات الى تفاوت طبقي كبير، والى تكريس هيمنة شرائح جديدة من البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية على السلطة والثروة، وتداخل انشطتها التجارية والعقارية، مع عمليات نهب الدولة، مشكلة خطراً كبيراً على مستقبل البلاد، جراء إرتباطها بالاقتصاد الرأسمالي العالمي وإفتقارها لأي دور في عملية التراكم الرأسمالي، ولضعف إنتمائها الوطني، وهو ما إضطرها للبحث عن أسانيد أخرى لتبرير وجودها مجتمعياً. فيما تعاني البرجوازية الوطنية من تدهور متواصل (2)، وتتحول أقسام منها للنشاط الطفيلي. أما النمو الواعد للطبقة الوسطى بعد سقوط الدكتاتورية وإنهاء الحصار، فقد شابه التشويه بإعتماده على التوظيف في الحكومة (3)، الأمر الذي حال دون أن تتطور هذه الطبقة كقوة فاعلة مستقلة، مثبطاً دورها التنويري، كحامل اجتماعي للتحول الديمقراطي، ومخرباً قطاعات واسعة منها عبر دفعها نحو القيم العشائرية أو تبني قيم مشوهة عن المجتمع المدني. وإتسعت ظاهرة البطالة في صفوف العمال (4)، فتردى وضعهم المعاشي ودورهم الكفاحي وتحول الألاف منهم للبحث عن مصادر بديلة للعيش في شتى المشاريع الهامشية، وافقدهم الثقة بالنفس وبالنشاط السياسي، وولد لديهم رعباً من المعارضة خشية أن تؤدي لفقدان العمل وللتحول الى صفوف المهمشين. كما يتنامى بإستمرار جيش العاطلين في الريف أو المهاجرين منه الى المدينة موسعاً من حجم الشرائح المهمشة فيها، والتي راحت تزداد بسرعة خطيرة لتضم ملايين الشباب المنحدرين من كل الطبقات، أولئك الذين لا تعليم لهم ولا حرفة، ولا سكن، ولا عمل ولا أية تأمينات، شباب بشخصيات قلقة وناقمة وعنيفة، تحتقر القانون وتخشى الجديد وتؤمن بالقوة وبالأساطير وبسلوك القطيع الذي يمنحها بعضاً من الأستقرار النفسي. وتتسع هذه الشريحة كل يوم نتيجة الإستقطاب الطبقي والتكاثر غير المنظم وخراب الطبقات الأخرى، فيما تصبح عمالة الأطفال، المنتشرة في البلاد، رافداً مهماً لها.
وتشكل الطائفية السياسية السبب الموضوعي الثاني لتلكؤ عمل اليسار لأنها تعيق كثيرا العمل التغييري المرتجى منه وتقسم قاعدته الاجتماعية، التي غالباً ما تتمزق وهي تتبع برجوازية طائفتها. وإذا كان معروفاً تلازم الطائفية السياسية مع السيطرة الطبقية للبرجوازية، فإن ما تعكسه تجربة العراق من علاقة وثيقة بينها وبين البرجوازية الطفيلية تتطلب دراسة معمقة، حيث يبدو ان الاستقطاب الطائفي يبقى السند الفكري الوحيد لهذه الشريحة بعد إفتضاح أسانيدها الأخرى كالسند القوماني.
ورغم النجاحات التي حققتها عملية التجديد في الحزب الشيوعي العراقي، فإن لضعف بعض جوانب العامل الذاتي دوراً في تلكؤ عمل الحزب، الأمر الذي يستدعي، وعلى ضوء الخبرة النضالية ودروس الماضي المشرق، التصدي لمهام عاجلة. فعلى الصعيد التنظيمي، لابد من تحسين المستوى الفكري والسياسي المتدني للأعضاء، ووضع آليات تنظيمية جديدة تعالج ضعف جهاديتهم دون أن تمس دمقرطة الحياة الداخلية، وتفكيك مشكلة الجمع غير المبرر بين التجديد والمحافظة، ومعالجة تركة الماضي الثقيلة في رفض وتحريم كل ما يأتي من خارج الماركسية من نقود وأفكار تجديدية.
أما على الصعيد الفكري فينبغي أن يكون للحزب تعليل فكري للمتغيرات في البلاد، وأن يعيد النظر في الكثير من مفردات خطابه ويكشف عن أسباب التخلي عن بعضها أو التمسك بالبعض الاخر، ويحدد قاعدته الاجتماعية، المتمثلة اليوم بالكتلة الشعبية المتضررة من النظام القائم، وياخذ بنظر الإعتبار حقوق أطراف هذه الكتلة ويحل التناقضات الثانوية التي قد تحدث بين مصالحها المختلفة. ويلعب العمل في صفوف المهمشين دوراً متميزاً، فالنضال ضد ما يعانوه من بطالة سيوفر لهم فرصاً للخلاص من الشعور بالدونية وقدرة أفضل على وعي حقيقة الصراع. ولهذا يجب أن تتمتع برامج اليسار الخاصة بهؤلاء على لغة متميزة، تركز على واقعهم المأساوي، وتعدهم بالملموس والمباشر وتشعرهم بأن اليسار أقوى وأقدر على حل مشاكلهم. وبسبب قدراتهم التنويرية التي تتسق مع حاجة اليسار لتحديث المجتمع، يلعب المثقفون والمبدعون دوراً مهما في كفاح اليسار، ولهذا لا بد أن تتمتع برامج الحزب الموجهة اليهم بجاذبية تتناسب وحاجتهم للحرية ولإطلاق قدراتهم الأبداعية، وفضح الاوهام التي يشيعها اليمين عن عبثية السياسة. وأخيراً ينبغي التخطيط لمواجهة أقتصاد السوق المتوحشة عبر النضال لربطها بالضمانات الاجتماعية وتأمين حقوق قوى التشكيلة الوطنية من قوة العمل ورأس المال.
وعلى صعيد التحالفات، لابد من معالجة حاسمة للفشل المتكرر في الجمع بين عقلانية سياسية يفرضها توازن القوى وبين سياسة ثورية تغييرية ترفض هيمنة هذه الطبقة وتكشف جذريا عن فسادها ولا شرعيتها في تمثيل الناس. ويبقى التناقض الاساسي هو بين المشروع الوطني وبين مشروع الرأسمال المعولم، الذي وجد له قاعدة اجتماعية في البلاد تسعى عبر تبني اقتصاد السوق المتوحشة الى تمزيق الدولة وتهميش البرجوازية الوطنية وتقليص أو شبه إلغاءٍ للدور الخدمي والإنتاجي للدولة وسن قوانين استثمار بشعة في استغلالها، وتفتيت الوعي الطبقي عبر الاستقطاب الطائفي.
وأخيراً، ورغم كل هذه الصعاب، تتعزز في العيد، الثقة بالمستقبل المشرق لليسار ودوره في المجتمع، لا كحلم وردي، بل كحقيقة موضوعية، يفرضها واقع الصراع والأحلام الأزلية للناس بالحرية والعدالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1. من الأمثلة على ذلك. تمثل الزراعة والصناعة، أكبر مجالي تراكم في الإقتصاد 6.7 من المئة من واردات الدولة. يزداد النشاط الخدمي بنسبة 60 من المئة. يزداد دور البرجوازية العقارية بزيادة رخص البناء في القطاع الخاص بـ 13 من المئة مقابل إنخفاضه في القطاع العام بنسبة 65من المئة.
2. يقوم القطاع الخاص بتوظيف 85 من المئة من الأيدي العاملة، لكنه ينتج 15من المئة من الناتج المحلي ولا تتعدى حصته في تكوين رأس المال الثابت 4.5 من المئة فقط.
يبلغ عدد الموظفين 3.5 مليون.3
4. تصل البطالة بين الشباب الى 57 من المئة وبين النساء الى 33 من المئة، وقد تدهورت إجور العمال بنسبة 8 من المئة. (حسب أرقام وزارة التخطيط لعام 2012)