مدارات

في الذكرى الثمانين : إليكِ .. فقد حان الوقت الآن ../ جاسم عاصي

كتبت في كل عام عن ذكرى تأسيس الحزب بما يناسب تجربتي وما أعرفه، لكني لم أكتب عنك.. أيتها الأم الفاضلة المحتشدة بالألم. صحيح أني كنت بعيداً عنك في حياتي، غير أني كنت متأثراً بمجريات حياتك المكللة بالصبر والشجاعة والتضحية. عرفتك أول السباقين لإنجاز مهامك. ولا تبالين بما يلحق بك من أذى. يوم كنت أراك تواظبين على حضور اجتماعات وندوات منظمة رابطة النساء العراقيات، مندفعاً إلى النشاط في حقلي كطالب. كنت تسأليني وتراقبين نشأتي السياسية، ولم تعترضي على اطروحاتي ولهفتي في القراءة، بل شجعت كل خلية في جسدي برضاك غير المعلن. قدتني مع أخي الأكبر ونحن في زيارة إلى خالي المحجوز في القلعة الحجرية في جلولاء، كان عصراً هو الزمن، قررت فيه الاطلاع على معالم المدينة، ثم الذهاب بالقرب من سجن الثكنة.

كانت ارض الشوارع ترتفع، وتهبط ملتوية، وتلك شيمة البيئة الجبلية. صعدت بنا، وصعدت، ولهثنا جرّاء السير حتى شارفنا حدبة الشارع، وإذا بنا نرى واد أسفل مكان تطلعانا إلى بناية ضخمة ذات أبراج، أشّرتِ إليها قائلة: إنها الثكنة الحجرية وداخلها يسكن خالكم مع صحبه من البصرة، والسجناء الكثر معهم. كان عصراً فيه غرابة لنا، بما يحتويه من صور لم نألفها. بدأ العصر يزحف بضيائه نحو الغامض من الأمكنة، فتسلل إلينا نشيد عذب رددته حناجر السجناء، راح يتلوى صداه في الوادي، ويصلنا بنغمات. سألناك عنه، وأتذكر أنك قلت: إنه النشيد الأممي.
ولم أعرف وقتها ماذا يعني ذلك. لكني تذكرته وأنا أؤلف نصاً على شكل أوبريت غنائي دأب على تلحينه الراحل (حميد نذير) وكانت نهايته كلمات تساير إيقاع النشيد الأممي، لقد استرجعت ذلك الإيقاع دون قصد، فراحت الكلمات تنثال وفق ذلك اللحن. وحين عدت بنا إلى الفندق اشتريت لنا من الفواكه التي تنتجها بساتين المدينة. واستكملت تماماً رؤاي في اليوم الثاني حيث تمت زيارة السجن وسط إجراءات كثيرة. كانت باحته واسعة وقواويشه واسعة. بقينا حتى انتهاء فترة الظهر. وقبل المغادرة، أخذنا خالي في جولة ليعرّفنا على أقسام الثكنة. وأتذكر أنه قال: هنا ينام كامل قزانجي، واحد من مناضلي هذا الشعب. وفي هذا القاووش يوجد المطرب يوسف عمر، جيء به إثر مشادّة مع بعض رجال السياسة آنذاك.
ألم تكن تلك تجربة تدخل حيّز حياتي وأنت من نفذ تفاصيلها؟ كنت بفطرتك وقوة شخصيتك تضعينا في الموقع الذي يدرُ منفعة تُضاف إلى حياتي. وما زلت أتذكر موقفك مع (فاضل أسود) وهو من عتاة ضباط أمن البصرة، وهو يجلب زبانيته لتفتيش دارنا في محلة السيمر حيث قلت له: ماذا تريد منا؟ أخي غير موجود. ألا تراعي حرمة البيت؟!
حينها وجدت الغضب مرسوما على وجهه. وحين لم يجد ما يُشفي غليله اقتادني بعد أن عثر على هوية نادي الفتيان معلقاً: وابنك عضو في ناد رياضي شيوعي! قلتِ له بغضب: هذا هو، إنه حر في انتمائه. فما كان منه إلى أمر بالإمساك بساعدي واقتدت إلى دائرة الأمن الكائنة في نهاية حي الجزائر. أتذكر تحديك له بكل قوة وإصرار دفاعاً عما انتهجته العائلة من مسار سياسي. كنت تبالغين في تحديه، لكني الآن أجده أكثر صحة في تلقين مثل أولئك درس البطولة.
سافرت إلى كل السجون من أجل تفقد من ينزلون فيها من الأقربين: كركوك، بعقوبة، الموصل، سجن بغداد المركزي، العمارة.. حتى ورثت من تعبها مجموعة من الأمراض، حيث عجز الطب عن المعالجة، لاسيّما مرض الربو الذي كان يزاحمك في أصعب الأمكنة وفي أحلك الظروف. وقد كنت أراك وأنتِ تضعين ما تحتويه قنينة الدواء من أقراص على راحة كفك، فتبرز ألوانها، فتلتقطين من كل لون حسب إرشادات الطبيب، وأحيانا بدون أن تدفعيها بقطرات من الماء. وحين اعتقل أخي الأكبر إبان الثلاثة والستين بعد شباط الأسود، لم تتذمري بل شددتي من عزمه، مما أثار أبي وعلّق: إنه على سرّ خاله. لحظتها قلتِ: وما به طريق خاله ألا يدعو إلى الوطن الحر والشعب السعيد؟!
ويوم طرق بابنا في الليل ــ بعد أن هرب خالي إلى بغداد جرّاء الضغط السياسي ــ سارعت إليه، وحين فتحته، أرعبني منظر الرجل خلف الباب. عدت من فوري بعد أن أحكمت غلق الباب قائلاً: يمّه هذا رجل أسود واقف في الباب!! قمتِ على عجالة ودون خوف بعد أن تناولتي عباءتك. وكنت أسمعك وأنتِ تسألين الطارق: من؟ فأجاب: أنا. وبسرعة فتحتي الباب ودخل الرجل الأسود. متجهاً إلى غرفة الاستقبال وكأنه يعرف طريقه. جلسنا معه، وهو يمطرنا بالأسئلة عن حالنا، وكنتِ تجيبين بكل شمم وكبرياء. وبعد انتهاء زيارته، أخرج من جيبه مظروفا سلمه إليكِ معلقاً على الكيفية التي تتصرفين بمحتوياتها. كانت تحتوي نقوداً من الحزب لإعالة عوائل من سجنوا ومن هربوا بعيداً عن أنظار رجال الأمن. لكن السؤال الذي شغلني هو كيف عرفت أمي صوت الرجل. سألتها فأجابت: أعرف أصواتهم واحداً، واحداً. قلت: ولم يرهبك لونه؟ قلتِ: إنه صبغ وجهه ويديه لكي لا يعرفه رجال الأمن، فهو مطارد مثلهم، إنه الرفيق عبد الله.
ويوم قدتيني في يوم مغبر من محلة السيمر حتى الميناء لنحضر مراسيم إعدام ثلاثة من المناضلين الذي كان نصيبهم قطار الموت يوماً، لنشاهد مراسيم تنفيذ حكم الإعدام بعد تشرين 1964 كان يوما مغبراً هب فيه كل أهالي المدينة، حتى قلت في نفسي؛ لقد خلت الدور من ساكنيها. سيراً على الأقدام رحنا. كان مشهداً يدعو إلى الفخر، ونحن نشاهد الأبطال وهم يهتفون بحياة الحزب والشعب والوطن. صعدوا إلى المشانق بكل إباء وشمم. وضج الناس ولم يستطع رجال الشرطة والأمن كبح مشاعرهم التي انطلقت وعمت المكان الواسع. وما أن سقطت أجساد الرجال وتدلّت حتى زادت العواصف وكثر الغبار. كان يوماً أسود ثارت له الطبيعة احتجاجاً على فعل شنيع مثل ذاك.
عِبَرٌ كانت حياتك لنا، وحكمة لي استفدت منها، بل غدت عنواناً استيقظ عبره في كل غفوة من أمري. إن مجال الأم مدرسة، لأنه انبثق من مجالات الحزب والشعب. فلك مني السلام يا مدينة السلام كما أراك بعد كل هذه السنين العجاف التي مرّت بنا. ليتك تستيقظين وتأذن إليكِ الآلهة العودة إلى الحياة لتري ما يجري. ولا أدري كيف ستكون مشاعرك لحظتها. إنها بمقياس قوة شخصيتك وحسن تربيتها بلا شك. الحكي معك طويل، وحكاياتك لا تنضب، سأرجئ بعضها إلى الذكرى الحادية والثمانين، عسى أن تسعفني الذاكرة عبقا من سيرتك الشذية.