مدارات

وفــــاء* / حسين عجة**

احتفل في السرّ والعلن، كغالبية الناس في العراق، بالعيد الثمانينيّ للحزب الشيوعي العراقي: عندما يحتفل المرء بعيد ما، لا سيما بعيد كهذا، يصبح من المبالغ فيه وغير المعقول نوعا ما تقدّيم مبررات فرحه واحتفاله. يكفيه التعبير الصادق عن هذا الفرح. ومع ذلك، لا تعوزنا أسباب الإفصاح عن دوافعنا العميقة والمباشرة إزاء مناسبة عظيمة كهذه: الاحتفال بالعيد الثمانينيّ لولادة الحزب الشيوعي العراقي يعني، في الجوهر والواقع، احتفال بالحركة الوطنية والشعبية المعاصرة، بالإنطلاقة البكر للحراك الجماهيري المنظم فعلياً، ضمن لحظته التاريخية، أو، بشكل أدق، احتفال بفعل التدشين الأول. تدشين ماذا؟ تدشين المواجهة الحقيقية للقوى والعناصر المحسوبة على الموقف التاريخي-السياسيّ الذي كان سائداً، وتلك التي لا يتعامل معها باعتبارها قوى وعناصر تنتمي إليه؛ وبالتالي سعيه الحثيث والعنيف لحجبها، إقصائها أو التنكر لوجودها، حتى وإنّ كانت في داخله أو مشمولة فيه. ذلك ما يُسمى بالمعيار الهيكليّ للانتماء، أو الشرط التقليدي للتقديم، حيث تجري عملية الحساب والفرزنة التي يقوم بها الموقف ذاته، ما بين الإنتماء العضوي للعناصر وتلك المشمولة فيه. لكن هناك عملية حساب وفرزنة ثانية، لا يقوم بها، هذه المرة، الموقف أو العناصر المنتميه له، وإنما ما نطلق عليه تسمية حالة أو بنية الموقف الهيكلية (مجموع القيم والمراتب المتوارثة وخادمة مصالح القوى المهيمنة). هنا ينبغي القول بأنه لا يمكن لأي فعل تدشينيّ، إنّ كان ذلك في ميدان الفكر أو ضمن حقل الممارسة الشاسع، أن يشرع، ينطلق أو يلوح بأشعة نهاره، إلاّ عندما يكون ثمرة أو نخراطاً في الأفق الجديد الذي فتحته «واقعة» ما، واقعة بعينها. الواقعة السياسية -التاريخية في القرن العشرين، التي زحزحت ضيق أفق البنية السياسية-التاريخية السائدة حينها، بانت ثورة 17 أكتوبر البطولية الجماهيرية، حيث ظهرت وكشفت عن نفسها كل ممكنات الموقف الضمنية، أو تلك التي لم تكن محسوبة عليه. أيّ القوى التي كان الموقف يفعل كل شيء من أجل قمعها أو مسح آثارها. وذلك إنطلاقاً من الواقع المحلي ومن ثم على الصعيد العالمي أو الأممي بالأحرى. من ناحية أخرى، يجب القول بأن الواقعة التي نتحدث عنها هي الاسم الآخر للمعجزة المحايثة، التي تنطلق من داخل الموقف ولا تأتيه من الخارج باعتبارها واقعة برانية أو إعجازية ربانية؛ لكن وبالرغم من حقيقة أنها فعل ثوري داخلي، فإن ذلك لا يحرمها من الزخم الذي يضعها على مصاف الإنسانية برمتها. انطلاقاً من زاوية النظر هذه، لا ينبغي القول بأننا نحن منْ يحتفل بالعيد الثمانيني للحزب الشيوعي العراقي، بل، على العكس من ذلك تماماً؛ تلك الولادة هي منْ منحتنا، منذ البدء، فرصة، مناسبة وحق الاحتفال بها. بتعبير آخر، يشبه الأحتفال بعيد ولادة الحزب الشيوعي العراقي لحظة تحطيم سجن «الباستيل» في فرنسا، أيّ أن ذلك التحطيم هو من أسس لكل الأعياد المستقبلية به، وليس العكس. فكما كان أخذ «الباستيل» من قبل الثوار بمثابة نزع الشرعية عن طبقة الأسياد والنبلاء، من جانب، ودفع الشعب أو الأمة الفرنسية للدخول في عملية الإبداع الكبرى للحياة والشروع ببناء عالم يرتكز على قواعد ومعايير الإعترالف بآدمية الإنسان، بصرف النظر عن عقيدته، وطنه والثقافة التي ينتمي إليها، وذلك ما مهد لبزوغ معارف وثقافات جديدة، متحررة من ثقل الذهنية الإقطاعية وشطحات الفكر الميتافيزيقي التجريدية، كذلك كان فعل التدشين الذي قام به قادة الحزب الشيوعي العراقي الأوائل بمثابة ثورة وعمل دؤوب ومتواصل من أجل تحرير البلد من ثقل الهيمنة الاستعمارية - الإمبراطورية، وتحالفاتها المشبوهة وقوانينها الطبقية المجحفة، ومن ثم تحرير الإنسان، بشكل ع?لي من آفات الفقر الجهل والمرض، من ناحية، ومن الناحية الأخرى، إطلاق الممكنات الثرية، ولكن المعطلة والمهمشة ضمن الموقف العام، وكذلك ممكنات الأفراد والجماعات الإبداعية.
إن شعار «وطن حر وشعب سعيد» هو بالدقة تلخيص رائع ودقيق لبعديّ النضال الشعبي: نضال ضد القوى الإمبريالية الإستعمارية، التي لا تتعامل مع الأوطان إلاّ من زاوية نظر مصالحها الإقتصادية والجيوسياسية، أيّ تحويلها لتلك الأوطان إلى مجرد أسواق تعرض فيها ليس سلعا، بضائع وأدوات الأستهلاك اليوميّ لماكنة الإنتاج الإمبريالية الضخمة والمرعبة، أيّ تلك التي تمس حياة البشر في كل مكان وزمن وحسب، وإنما أيضاً أسواق ومعارض الأسلحة والموت، الذي تدفع نحوه شعوب الأرض مرغمةً، بحكم أزمات النظام الرأسمالي الحتمية، التي تشطر العالم إلى عسكرين أو عالمين بالأحرى: عالم الأثرياء القلائل، الذين لا يكفون عن الاغتناء وعالم الفقراء، الذين يساقون بقسوة نحو كل أشكال الفقر، العوز، الحرمان والفاقة. لهذا فإن مفردة «سعيد» لا تعني، في مطلق الأحوال، سعادة تماثل أو تشبه «سعادة» الفرد البرجوازيّ، المُفبرك تاريخياً ومحدود الأفق أبدياً، وإنما تحقيق بعد العدالة والكرامة الإنسانية، التي لن يكون هناك لا وطن ولا عالم من دونهما. لهذا فإن الوفاء لشعار «وطن حر وشعب سعيد» هو، بالدقة، وفاء للفعل التدشينيّ الأول الذي تحدثنا عنه. وهذا معناه: في كل مرة ألفظ فيها «وطن ح? وشعب سعيد»، أكون على أهبة الإستعداد للإنخراط في زخم الواقعة التي فجرته، أي أن أشرع، من ناحيتي، في أن أكون بلشفياً من جديد. في هذه اللحظة التاريخية، الآنية، في القرن الحادي والعشرين، أو في كل القرون التي ستعقبه.
ـــــــــــــــــــــــــ
* عن مجلة «الثقافة الجديدة» في عددها الصادر اخيراً - آذار 2014.
** كاتب ومترجم عراقي مقيم
في باريس.