مدارات

مع المسيرة الثورية – الخطوات الاولى .. وداعاً نقرة السلمان (21) / الفريد سمعان

كان دولاب الايام يدور بشكل اعتيادي وضمن نشاطات وحياة يومية مستقرة باستثناء ايام الاضراب عندما تقوم ادارة السجن بحجب بعض الحقوق التي يتمتع بها السجناء في الغذاء او تقليص اوقات المواجهات او اتخاذ اجراءات صارمة وتصرفات قذرة. فعلى سبيل المثال كان بعض الحراس اثناء تفتيش المواد التي يحملها اهالي السجناء يخلطون السكر بالملح ويحرم السجناء من هاتين المادتين، فلا هي بالسكر الحلو ولا الملح الذي يغص به البلعوم ويرتفع ضغط الدم ويؤثر على مختلف الفعاليات الجسدية الاخرى او العبث بالملابس مما يعكر الاجواء ويثير الغضب. ولعل اقذر ما كان يلجأ اليه هؤلاء الحراس هو قطع وقت المواجهة وتقليص الوقت وحرمان السجين من قضاء اطول فترة مع العائلة والاطفال، علماً ان هنالك رفاقاً لم تأتي لهم اية مواجهة، لان قطع اكثر من 500 كم لم يكن امراً سهلاً. وهنا لا بد من الاشارة الى العقل الذكي الذي اكتشف عقوبة السجن وحرمان الانسان من حريته اضافة الى قتل مشاعره الانسانية وابعاده عن الاسرة وحنان الامهات والآباء لابنائهم وزوجاتهم واخواتهم. انها عقوبة استبدادية ذكية طحنت الملايين من البشر خلال المسيرة النضالية وكفاح المظلومين من اجل استرجاع حقوقهم المسلوبة ولهذا السبب، بالذات تجد ان اعداداً كبيرة من السجناءبعد ن يغادروا السجون يتجنبون العودة وتجميد نشاطهم السياسي رغم ايمانهم بالقضية التي آمنوا بها وتقبلوا التضحيات من اجلها. اضافة الى ما يترتب على ذلك من قضايا اجتماعية مرعبة كان السجناء يترقبون بشوق اليوم الذي سوف تلفظهم الاسوار العالية وتتحرر ارادتهم من الظلم والاعتداء والهلع. والترقب الحذر لما قد يجري بشكل مفاجىء، ويترك آثاراً سلبية قاسية على حياة ومستقبل الانسان وقد يصل الامر حدّ القتل ووداع الحياة كما جرى لبعض السجناء.
كانت فترة السجن بالنسبة لي تنتهي في الشهر الخامس من عام 1950 وجاء اليوم الموعود وكان معي رفيق آخر من اهل كركوك اسمه صلاح كان خطاطاً ومعلماً. هادىء الطبع وذا خلق رفيع وصوت هادىء ومتحدث لبق عندما تتاح له الفرصة.
بعد غروب الشمس تم فرش سطح المخزن الذي كنا ننام فيه مع الرفيق حسين الرضي (سلام عادل) وآخرين ودارت كؤوس الشربت مع بعض الوصلات الغنائية للمطرب (ألفريد سمعان) الذي تبخرت مواهبه الغنائية فيما بعد. وانتهت الحفلة في الساعة التاسعة والنصف، حيث توافد الرفاق للتوديع بكلمات طيبة وتحيات عطرة، وتوصيات بان يظل طريق النضال هو الحافز الكبير الذي من اجله قادتنا الخطى الى هذا السجن الصحراوي الرهيب.. مع ما جرى قبل الوصول اليه وتسلمت ارقام هاتف عديدة للاتصال بالاهالي وتطمينهم وهذا الامر كان متداولاً لان الاستفسار والاطمئنان على الرفاق كان امراً محتوماً من قبل اهاليهم المحرومين من لقائهم والتعرف على اوضاعهم.
في صباح اليوم التالي كنت مع الرفيق صلاح قد تهيأنا للرحيل اخذنا معنا اقل ما يمكن من الحاجيات بما فيها الفراش لاننا مقبلون على حياة جديدة ورفاقنا الباقون احوج ما يكونون لهذه الاشياء. وصاح احد الحراس باسمائنا.. تجمع الرفاق مع التوصيات: «مع السلامة.. لا تنسوا رفاقكم.. كونوا نبراساً لهذه التجربة الغنية.. تمسكوا بشعارات الحزب.. والثورة البروليتارية..». مع القبلات والدموع وحب العلاقات الوطيدة القريبة او البعيدة كانت العيون تتطلع وتقرأ ليتنا كنا معهم. ان انطلاق اي رفيق من هذا القمقم الرهيب هو انتصار للحركة الثورية لانه كادر مجرب ومحنك لانه ارتبط بخيرة الرفاق الكبار من القادة ولانه وجد متسعاً من الوقت ليتعلم ويتدرب ويزداد صبراً واصراراً على انتصار القضية مهما غلت التضحيات. حملتنا السيارة الخضراء المشبكة وحاول احد الشرطة وضع الاغلال في ايادينا فافهمناه ان ذلك غير صحيح لاننا انهينا مدة السجن ونحن الآن احرار وواجبكم الآن هو ترتيب اطلاق سراحنا وانتهت الازمة.
كنا متلهفين للقاء الاهل والتحديق في كافة مظاهر المعرفة والحضارة نتحسر على ارصفة الشوارع وشرفات الفنادق في مدينة السماوة والناس والاطفال يلعبون على الارصفة.. النساء يحملن الطعام.. الرجال يمضون بسرعة يتناقشون.. يضحكون يبتسمون.. الحياة جميلة ولذلك يجب ان نناضل من اجلها.
وصلنا بغداد، اطلقوا سراح صلاح ونقلوني الى التحقيقات الجنائية في مركز شرطة السراي لتنظيم بقية شروط الحكم (الرقابة لمدة سنة واحدة) وعليّ ان اراجع التحقيقات يومياً صباحاً ومساءاً والتوقيع بالحضور اليومي.