مدارات

مع المسيرة الثورية.. الخطوات الاولى .. ( بعد مغادرة السجن.... ) (22) / ألفريد سمعان

عند عتبة شرطة السراي قسم التحقيقات الجنائية توقفت الخطى. كان ذلك في الشهر الخامس من عام 1950. بعد التوديع الذي تم في السجن وهو التقليد الذي اشرنا اليه سابقاً،غنيت في تلك الليلة، كأنت المشاعر تتصارع، قرابة عام ونصف ، وراء الاسوار، مررت باكثر من سجن وموقف ومعتقل. عرفت رفاقاً من مختلف المستويات،عمال طيبون، كوادر عمالية ذكية ناضجة مستوعبة لحركة التاريخ، مثقفون، كانت الحياة تحتوي ذكاءهم وقدراتهم، وكان بامكانهم ان يعيشوا حياة ناعمة ورغيدة ولكنهم آثروا ان يسلكوا طريق النضال، طريق المصاعب والالام والجراح، طريق فراق الاهل والأحباب والاماكن المألوفة وغير المألوفة. وأمامهم فرص جميلة للتمتع بكل التفاصيل التي تتميز بها الاماكن والاشخاص في حقيبة الذكريات، وأصناف اخرى. طلاب بعمر الورود تتفتح امامهم اذرع البساتين، وباقات الزهور، لكنهم يتحملون كل الاعباء القاسية، ويتحملون مسؤوليات اكبر بكثير من اعمارهم، وامكانياتهم، يضعون كل مايمتلكون من ارادة وافكار ورغبات تحت الوجع الانساني من اجل بناء مجتمع افضل ونماذج مختلفة.
انها لمدرسة رائعة، مدرسة الحزب الشيوعي العراقي يتحمل كل الالوان، يفتح صدره للعذابات، ويتحدى الاكثر قوة وسطوة من اجل المستقبل، هذا اذا لم يستشهد من اجل القضية الكبرى.
توقفت امام مسؤول التحقيقات الذي طلب ابعادي الى مكان اخرلأخذ اقوالي، مع قبضة من التهديدات الهادئة والتذكير بمصاعب السجن، والحرمان، والتعذيب، وكل ما يصدر من السياط على الظهور والاجساد. وكان أخر المطاف: (سوف نطلق سراحك على ان تأتي يومياً صباحاً ومساءً للتوقيع في الدفتر الخاص بالرقابة، واذا لم تأتِ فأنك تتحمل النتائج.)
غادرت المكان باتجاه البيت، كانت (ام حبيب) تنتظر على نار، وبعض الجيران، في المنطقة قرب مستشفى الكرامة، وبدأ الاحباء يتقاطرون، والاقارب والاصدقاء كنت متلهفاً للسير في الشارع، والتحديق بالمحلات والاماكن التي كانت تجمعني مع بعض الاصدقاء في شارع أبي نؤاس. دعاني شقيقي د. قسطنطين.مع غضبان السعد. وطلب ان اشرب ماأريد، من عرق، بيرة، فرفضت ذلك. في البداية لأن المناضل نذر نفسه للكفاح والامتناع عما يؤثر عليه. ويقلل من شأنه لدى الجماهير، باعتبار ذلك صموداً، ثورياً، وكان في الاخر نوع من المبالغة ولكننا تعلمنا ذلك خلال المسيرة الثورية وحملنا بعض انفاس الطقوس المتشنجة، المهم أن نفكر في الغد ماذا سنفعل..؟!
كان الهاجس الاول هو العودة للنشاط الحزبي، وكيف يتم الاتصال من جديد، لاسيما أن الحزب كان بحاجة الى كوادر تمرست بالنضال، وعانت المصاعب، وتحملت، وأدركت أن الطريق شائك يعج بالحصى والصخور، وليس حقلاً يضج بالفرح والسنابل، او اكاليل الزهور.
الخطوة الثاني، كانت مراجعة كلية الحقوق التي كنت احد طلابها، لأعرف مصيري، وكانت خيبة الامل المتوقعة، الفصل من الكلية لصدور حكم السجن، ولا اكتم تعاطف ادارة الكلية وعميدها بالذات (د.منير القاضي) مع الطلبة الذين يتعرضون لمثل هذه المواقف، وكانت كلماته ومواقفه تأتي على لسان الادارة. (بتوجيه منه) لكي لا يتهم انه يفسح المجال أمام طلابه لآستعادة مواقعهم وفتح ابواب النجاح امامهم وبالتالي يسجل على نفسه موقفاً غير مرغوب فيه.
وطلب مني تقديم مذكرة تتعلق بالموضوع وتطالب باعادتي الى الكلية والغاء أمر الفصل، ففعلت، ولكن دون جدوى.
بعد هذا، كيف يكون موقف المناضل الذي يعتبر نفسه قائداً من العائلة؟ هل يفرض نفسه على والده؟ وفي كل يوم يمد يده ليحصل على نقود رغم ضآلتها لكي يوفر بعض حاجياته كالسكائر واجور النقل، او دفع مصاريف المقهى الذي كان يرتاده مع اصدقائه، كان الموقف صعباً، رغم عدم ظهور اية مشاعر خاصة وفتح مثل هذا الموضوع من قبل الاسرة، بل كانت الحنونة (ام حبيب) توفر لولدها بعض مايحتاجه، وتشجعه على الصبر، والصمود.
كان الحزب يتلقى شعاراً من تنظيم السجن بخروج الرفاق من السجن، ويوصي طبعاً، بالاتصال بهم باسرع مايمكن لكي لأتاخذهم الحياة اليومية بعيداً عما كرسوا انفسهم له واتقنوا واجباتهم الوطنية. ولم يمض الكثير من الوقت عندما، التقيت احد الرفاق القدامى (جميل) وطلبت منه ان يسهل أمر عودتي للتنظيم، وقد حقق رغبتي حيث اتصل بي أحد الرفاق، وبعد فترة قصيرة كنت عضواً في احدى الخلايا، اقوم بواجبي والعب دوري فيما ناضلت من اجله.
وعلى صعيد اخر اتصلت بأحد المكاتب التي كانت تفتح دورات للمحاسبة وكان صاحبه (يهودياً) وطلبت من والدتي (عشرة دنانير) لادفعها لهذا المعهد المتواضع جداً، المتكون من غرفتين في الطابق الاول مقابل مدخل الشورجة قرب مصرف الرافدين وسوق الاقمشة الذي بدأ يحتله التجار القادمون من كربلاء والنجف بعد رحيل اليهود القسري الذي شجعته حكومة نوري السعيد، والحكام الاخرون لكي يوفروا لاسرائيل عناصر من مختلف انحاء العالم، وهي المؤامرات التي تبناها الحكام العرب الافذاذ !! ؟ تلبية لاوامر انكلترا والامبريالية العالمية.
ولم يكلفني الامر أكثر من عشرة ايام تعلمت فيها الاسس التي تقوم عليها الحسابات وتسجيلها في دفاتر اليومية والاستاذ، والبضاعة، وبعد فترة قصيرة حصلت على وظيفة (محاسب اهلي) لدى التاجر الارمني هايك طوقاتليان، وكان الأمر يتعلق بنقل التبوغ المنتجة في المناطق الشمالية ، اربيل، كويسنجق،كركوك، سليمانية واستقر بي المقام على كرسي ومنضدة في مكتب عباس التميمي في شارع البنوك مقابل جامع مرجان براتب قدره خمسة عشر ديناراً شهرياً.