مدارات

مع المسيرة الثورية.. الخطوات الاولى …فرسان انتفاضة تشرين (23) / الفريد سمعان

لقد استقرت الامور.. كل شيء يسير كما كان متوقعاً حيث تم التواصل مع الحزب. بحذر شديد لان الذين يغادرون السجون يكونون تحت مراقبة شديدة. بأعتبارهم خاضوا التجربة بمستوى معين.. وتماسكت مشاعرهم.. وانخرطوا في الدهاليز.. ولقنوا التعليمات. وتعمقت ارادتهم من خلال التدريب النضالي المتواصل... واصرارهم على ما اعطوه من وعود للرفاق الذين مازالوا يترقبون الفرج الثوري والتغيير السياسي.. او انقضاء مدة الحكم علماً ان السلطة لم ترحم وكانت الاحكام الثقيلة.. تفرض وكأنها ايام- كان الحزب يسعى بقوة لتعزيز المواقع التي فقدها.. وخلق ?جيال جديدة. وتدريبهم عملياً على استمرار النشاط الثوري. الاحتجاجات مستمرة. توزيع المنشورات التي وصلت في بعض الاحيان الى استنساخ اليدوي نتيجة المعاناة التي يعيشها الرفاق المسؤولون عن عملية الطبع.. وتقليص النفقات وتوزيعها بشكل يغطي الحاجة الضرورية اليها وايصالها لأبعد المسافات،
الوضع السياسي متوتر.
شركات النفط البريطانية تنهب بلا رحمة.. والقوى الوطنية تركز على هذا الجانب نتيجة السرقة المنظمة التي تمارسها هذه الشركات.. وتزايد نفقات الدولة نتيجة استحداث وظائف جديدة واستحداث دوائر ضرورية لبقائها وخدمة المواطنين.. وتوسع حجم التعليم وما يتطلبه من اساتذة ومعلمين ومدارس وتوابعها.. والسلطة لا تستطيع ان تمارس الضغط على اسيادها.. وكان الجو مناسباً للخروج في مظاهرات متفرقة.. بأعداد صغيرة وخاطفة احياناً.. للتقليل من الخسائر المحتملة.. وايصال شعارات الحزب الى الجماهير والسلطة الحاكمة..
وفي عام 1952. هبت العاصفة.. وانطلقت مظاهرات صاخبة .. واشتد ضغط الصحافة.. وتوزيع المناشير السرية. والقاعدة. تحث.. وتثقف وتحرض وتدعو الجماهير لمزيد من الضغط.. من اجل تحقيق المطالب المشروعة.. وكانت النتيجة نزول الدبابات الى الشوارع وتعيين الجنرال نور الدين محمود. رئيساً للوزارة واصبحت الدبابات ملعباً للمتظاهرين الذين كانوا يتعاملون مع الجيش بروح ودية ويحاولون كسب الجنود الى صفوف الانتفاضة، وكانت انتفاضة تشرين 1952 التي يمكن اعتبارها امتداداً لوثبة كانون 1948.. ساحة التدريب الجماهيري الاولى الصاخبة التي اعطت م?دودها وحققت اهدافاً هي ابعد ما كان ممكناً او متوقعاً.
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. طرقت باب الدار كان والدي ينام في الطابق الارضي.. في الدار التي كنا نسكنها في منطقة السنك.. وعندما فتح الباب.. كان هنالك مجموعة من رجال التحقيقات. سأل ابي.
من انتم وماذا تريدون.؟
-نحن من التحقيقات الجنائية
-هل تريدون اعتقال ولدي الفريد..؟
-لا.. هذه المرة لن يكون فريد وحده- بل معه شقيقه الدكتور قسطنطين سمعان..
بكل برود.. نادى والدي علينا. قائلاً.
انزلا ان التحقيقات الجنائية تريدكم!!
وسأل والدي القادمين.. هل سيتأخرون؟- كان الجواب
-كلا سوف يجري معهما تحقيق بسيط ثم يعودان ولا داعي لجلب فراش او ملابس او سواها بعد اجراء الترتيبات التحقيقية. اخذتنا السيارات مع الفجر الى منطقة ابي غريب في احد المواقع العسكرية توزعنا، اخي قسطنطين في قاعة القادة والزعماء وكان منهم كامل الجادرجي، والجواهري، وعبد الرحيم شريف وعبد الفتاح ابراهيم. واخذوني الى قاعة اخرى تضم عدداً كبيراً من الرفاق والوجوه المثقفة التي كنا نلتقي بها في المقاهي او المظاهرات من بينهم جلال الاوقاتي.. غضبان السعد.. كاسب السعد.. يوسف العاني.. جلال عبد الرحمن.. المحامي كاظم جعفر.. رزوق?تلو.. احسان يوسف وكان هنالك قاعة اخرى تضم عدداً كبيراً من المثقفين والعمال والفلاحين من بينهم نعيم بدوي وطائفة من القادة النقابيين، حتى توزيع المعتقلين كان يحمل نكهة طبقية، والتعامل مع الخطرين والاكثر خطورة. لم نكن نشعر باننا معتقلون وكاننا في سفرة مدرسية، المعنويات عالية جداً، الاحساس العارم بالموقف الوطني والاعتزاز بهذا الموقف الذي يحمل بين جناحيه طائفة رائعة من المناضلين بشتى صورهم وثقافتهم وتعلقهم بالحركة الوطنية. الحياة اليومية اعتيادية، المرح والبهجة والشعور بالمواقف الثورية والتحديات تسود أجواء الم?تقل. يوسف العاني يصر على ان يمثل، ونقوم بتشييد مسرح من البطانيات وينطلق في تقديم مواقف مسرحية جميلة، تتدقق منها شرارات الثورة وتدعو للصمود والتحدي.
لقد طلب شقيقي قسطنطين نقله من قاعة الزعماء الى قاعتنا، وتم تلبية الطلب. وهي المرة الاولى التي يعتقل فيها رغم نشاطه المتواصل حيث كانت عيادته موقعاً لمعالجة اسنان الرفاق. ومرتعاً لتبادل المعلومات، وايصال النشرات الحزبية، وبعض الاجتماعات في عيادته قرب (سوق الصفافير) المطلة على شارع الرشيد، وقدم للمحاكمة وتم الافراج عنه، في حين صدر علي حكم بالسجن سنة واحدة او غرامة (بمائتي دينار) وحملوني الى سجن بغداد، قضيت مع رفاقي القدامى والجدد ليلتين، وقد رحب بي الرفاق وطلبوا مني البقاء معهم، بعد ان كفلني شقيقي الحامي حبيب?سمعان وكأنهم يدعوني لقضاء سهرات اجتماعية.
خرجت من السجن وعلمت ان التاجر الذي كنت اعمل عنده قد استغنى عن خدماتي لان التجار عادة لايريدون موظفين مثقلين بالمشاكل السياسية رغم انهم كانوا يأنسون بالموظفين الشيوعيين. لانهم موضع ثقة وامانة ومن هذه الزاوية عمل عدد من رفاقنا بعد خروجهم من السجن او المعتقل لدى التجار الذين كانوا يآتمنونهم على اموالهم.