مدارات

كي لا ننساهم.. في ذكرى أنور طه "أبو عادل" / نزار آل إبراهيم

الاعزاء وددت اليوم ان استذكر الرفيق العزيز الراحل انور طه (ابو عادل) صديق الناس، صديق الاجيال المختلفة للشيوعيين العراقيين واردت ان اقدم مقال الاخ والرفيق نزار آل إبراهيم هدية لرفاقه واصدقائه ومحبيه بمناسبة الذكرى الثمانين، بعد اذن الكاتب. ويذكر في المقال.
كان أنور طه، أبو عادل، مكلفاً من قبل اللجنة المنطقية، التي كان عضواً مرشحاً فيها، كعضو متفرغ لتقوية الصلات مع هذا الوسط الفني وكيف ابدع بأداء المهمة مع رفاقه وبشكل ودي وانساني وهذه من مأثرة وكيف تمكن الحزب من ان يكون المحرك والمفجر لطاقات الوسط الفني التقدمي قي دور نادي الفنون والاعمال المسرحية والفنية والجماهيرية المختلفة.
أربعة عقود ونيف تَفصلني عن ذلك المساء الشتوي حين إجتمعنا في بيت مُنزوي من بيوت البصرة عام 1968. كُنا مفعمين بروح التحدي وطغيان الفرح لِتماهينا بالحياة السياسية المنظّمة. وكانت هذه الخطوة العملية الاولى للتمهيد فيما بعد لتشكيل لجنة محلية جديدة للحزب الشيوعي العراقي في البصرة. كان هاجسنا، بل وتّحدينا وهو تحدي الشباب في حينها، أن نساهم في بناء عراق جديد، عراق كما كنا نتصوره في حينها، وربما الآن، بلاد الوفرة، وبلاد اللامحتاج، وبلاد تكافؤ الفرص، بلاد الانفتاح. وربما كنا نريد، إنسياقاً مع نزعة وروحية الشباب ان ينون لكل كائن فيه حرية إختيار الاخر، سواء كان هذا الآخر حبيبته أو في السياق ذاته.. من يحكمه. لم تكُ تلك أضغاث أحلام، إنما كانت أحلاماً ورُؤى عن صدق نِيّة وإرهاف ضمير. أتينا نحن في هذا الاجتماع والاجتماعات اللاحقة من تنظيمات مختلفة تصلبّ عوُدها، بيد إنها كانت أُحادية الصلة بالمركز. ولهذا فإن ماكُّنا بأمس الحاجة إليه هو التجربة والاحتكاك مع رفاق لنا في التنظيمات الاخرى. وهكذا كان في تنظيم أول إجتماع لنا في تلك الليلة، التي قاد الاجتماع فيها الشهيد محمد جاسم البطاط (أبو زيتون). كان ذلك أول لقاء لنا بأبي عادل، ا?ذي حضر الاجتماع كمشرف. كان ذا وجه غير مألوف، فهوِ ليس أسمر، أو قل ليس بصراوي السُحنٌه. ولم أكن أدري، في حينها، أن تلك الليلة ستكون فاتحة خير لرفقة طالت ربع قرن. كان مظهرهُ، لباسهُ، طريقة كلامه، يوحي بالارستقراطية. لكن سرعان ما تلاشى هذا الانطباع.
سألت نفسي، في حينها، من أين لهذا الرجل هذه الشفافية، هذه التلقائية في الحديث، هذا المكر المهذّب في التعليق، هذا الحدس العميق تجاه الناس وإتجاه رفاقه الحضور. لم يتكلم كثيراً. لم يكُن بحاجه لذلك. عرفتُ بفضل ذلك ان من تنقصهم الحجة، هم وحدهم بحاجة الى اللغو. كان هدف ذلك الاجتماع والاجتماعات اللاحقة إرساء بُنية مستحدثة لتنظيمات حزبية جديدة، يمثل عنصر الشباب الاساس فيها. وكانت الغاية ليس كسب أكبر عدد ممكن لعضوية الحزب الشيوعي، بقدر ما كان إحاطة التنظيمات الحزبية الوليدة، ذات النوعية النضالية الصلبة، بسياج جماهيري يتسّع لأكبر حشد من المؤيدين من مختلف الفعاليات، وبالاخص من الكسبة والعمال والفلاحين والنساء والمثقفين. وكان ذلك على النقيض من نهج حزب البعث الذي ركز على العدد، وفق شعارهم حينذاك: كلنا بعثيون! عندنا، في حينها، كان التمهّل والتدقيق الصارم في قبول المرشحين لعضوية الحزب، هو الهاجس اليومي. الحصيلة كانت أن جماهيرية الحزب الشيوعي في البصرة، اصبحت هي المهيمنة بالمطلق. هكذا كان الحال، على سبيل المثال، في أوساط المثقفين والطلاب والفنانين والنساء. وشهدت تلك الفترة إبداعات الفنانين البصريين في مجال المسرح، مثل أوبريت?"بيادر خير" عام 1969 واوبريت "المطرقة" في العام 1970. وتألق فنانون ومثقفون وشعراء مثل حميد البصري ورفيقة عمره الفنانة المبدعة شوقية العطار وطالب غالي ورفيقة عمره الفنانة أم لنا، المخرج الفنان قصي البصري والشاعر خالد الخشان، والشاعر المبدع دوماً علي العضب، والناقد الاديب ياسين النصّير. وهل يُمكن أن تنسى الذاكرة فناننا الراحل فؤاد سالم وآخرين لا يتسع المجال هنا لذكرهم الطيب. وهل يمكن لجمهرة المثقفين البصريين في مثل عمرنا أن لا تستعيد تلك الاجواء النيرة التي كان يشيعها نادي الفنون، وجمعية الاقتصاديين، وتلك ال?وادي الليلية على إمتداد وإِستطالة الشارع الوطني في البصرة في احتضانها يومياً لتلك المجاميع المتتالية من المثقفين والطلاب والعمال والكسبة، والتي إكتسبت ألقها وتألقها في تلك الامسيات التي كانت تخلو، ربما، من بعض مستلزمات الغِنى والسعة، لكنها لم تكن تخلو أبداً من التفاؤل والطيبة والتحليق في التمنيات على مستوى العراق/ الوطن، وأيضاً على المستوى ( الجهوي ) في " إعادة الجمال إلى البصرة " كما عبرّ عن ذلك أجملَ تعبير، طيب السريرة علي العضب. هؤلاء، كانوا لَبَنة الفن التقدمي، الفن المتصالح والمتماهي مع إنسانية القيم ?لانسانية، الفن اللاعنصري، الذي كانت غايته ولا زالت إسعاد الناس، وزرع الطيبة في ضمير جيل الشباب، ضد العُتم، وضد كل ما هو غير إنساني. كان أنور طه، أبو عادل، مكلفاً من قبل اللجنة المنطقية، التي كان عضواً مرشحاً فيها، كعضو متفرغ لتقوية الصلات مع هذا الوسط الفني، وإيصال ما كان الحزب يتوخاه. وللاسف، فإن نسقاً حياتياً يومياً، وغير منضبط كان سائداً آنذاك، وكان من شأنه أن يفرز هنّات على المستوى الصحي. وكان ذلك، في ما أعتقد، سبباً مهماً لرحيل أبي عادل المبكر في ما بعد. وحده أنور طه، لم يكن يعرف عدد أصدقائه. كان الكل?يسعى إليه للتعارف والمجالسة، التي كثيراً ما كانت تتواصل إلى فجر اليوم التالي. تلك اللقاءات كانت بمثابة مزيج بهارات من النكتة الرائِقة والعنفوان المحض، الخالي من أيةِ هواجسَ نميمة، أو دحض للحق. لم يتنقّل أبو عادل، مثل بعضَ العاقِّين، من حال الى حال، وما كانَ ذلك مستحيلاً على المطلق، ولكنه كان بالنسبة إليه ومن في صنوهِ المحال بعينه. كان مُرتحِلاً بين غربة وغربة، مُختصِراً بذلك مديات الحياة، حياته، حياة جيله. لم يكن يسعى إلي الغُربة، ربما كانت هي التي جُبِلَت عليه.
كان مثل الطين الحِرِّي مُرتحِلا أبداً، وملتصقاً بالنهر ابداً. وكان نهر (أبو عادل) هو العراق.
أسفاره كانت محطات " تعبئة " لا أكثر لقواه الجسدية المُنهكَة. الواحدة تحضّره وترحله للاخرى: البصرة، كردستان، الشام، بيروت، إيران، أفغانستان، موسكو، بلغاريا.. تخلّلتها وهنا المفارقة سنوات حمل السلاح ضد الدكتاتورية وإعتقالات متعددة، وأخيراً الدنمارك لاجئاً سياسياً. رُبما كان الجواهري الكبير يعنيه أيضاً عندما أنشد :
أَرِح رِكابكَ من أينٍ ومن عَثَرِ كفاكَ جيلان مَحمولاً على سَفرِ
أسفاره كانت تشظِياً لجسده الواهن، ولم تكن كذلك لمعتقداته، التي بقيت لصيقةً به وكان هو لصيقاً بها، كما النحلةِ بعبق الازهار. ومثلما كان لسانهُ وسيلة لإشاعة الفرح والغبطة لدى أصدقائه كانت فيه بالقدر ذاته قوة دافقة من إزدراء الدكتاتورية والثقة اللامحدودة بالإنتصار عليها. يُعدّد " أرسطو " عناصر السعادة: الفضيلة واليُسر المادي واللذة. هل كان" أبو عادل " سعيداً؟ أحسبُ انه كان. حَسبه أنه كان فاضِلاً، وفضيلته كانت أثيله. وكان مُلتذاً حتى الثُماله. لذته وطيبته في الدنيا كانت النضال وكأني بهِ " أوستروفسكي " آخر، لذ? إنخرطَ منذُ فتوتهِ في مجراه العام، ولم ييأس البتّة. وبقدر ما كانَ متعالياً على احتياجاته الذاتية، كان متعالياً على تفاهات الحياة، وما أكثرها. كان قليل الكلام، عميق الجوهر، مطمئِن السريرة. لم يَفتأِت على أحد، لم يكن يعرف ذلك. وهذا سمو خلق، وصفاء جوهر! كان أبداً في مُنازله مع ذاته، لم يرضهِ سوى فرح الاصدقاء، وما أكثرهم. وذلك صِدق شعور ورهافة حِسْ ومُقاربه تاريخية لجيله!
رحل أبو عادل بعيداً عن وطنه.. في الدنمارك، في شباط الاسود عام 1996
الذكرى الطيبة لك يا أبا عادل..