مدارات

البرتغال.. في الذكرى الأربعين لثورة القرنفل / رشيد غويلب

مرت يوم الجمعة الفائت الذكرى الأربعين لثورة 25 نيسان 1974 البرتغالية والمعروفة بثورة القرنفل، والتي قام الجيش البرتغالي وبالتعاون مع القوى الديمقراطية واليسارية خلالها بإسقاط دكتاتورية سالازار،التي حكمت البلاد منذ عام 1968 . وكان للحزب الشيوعي البرتغالي بقيادة زعيمه التاريخي الفارو كونهال، دورا محوريا في التهيئة والإعداد، وفي تعبئة الجماهير لمساندة الثورة فور نجاح التحرك العسكري.
ومع ساعات الصباح الاولى سيطرت وحدات من الجيش البرتغالي على دار الإذاعة وأبنية الوزارات والمطار، وفور الاعلان عن نجاح التحرك العسكري امتلأت شوارع العاصمة بحشود المتضامنين مع المنتفضين وقام المتظاهرون بتوزيع التفاح والخبز وورود القرنفل على الجنود الثائرين، وبهذا اعطت الغالبية العظمى من الشعب البرتغالي الشرعية للتحرك العسكري وحولته الى ثورة. ولم تشهد البلاد احداث عنف سوى تبادل محدود لاطلاق النار امام مقر الطغمة الحاكمة. وبعد ظهر نفس اليوم تنازل الدكتاتور عن السلطة لاحد اعوانه وفي صباح اليوم التالي اعلن عن نهاية النظام الدكتاتوري دون رجعة.
وفي اليوم السادس للثورة احتفل نصف مليون برتغالي في العاصمة البرتغالية لشبونة بعيد العمال العالمي في الاول من أيار علنا للمرة الاولى، وكان الاحتفال مهرجانا مهيبا نقل اليه العمال بالشاحنات من ضواحي المدن، وشارك فيه السجناء السياسيون الذين أعادت لهم الثورة حريتهم الى جانب رافضي الخدمة العسكرية والمنفيين السياسيين العائدين توا لوطنهم، واستقبلت الجموع رموز وقادة اليسار من اشتراكيين وشيوعيين بشكل حافل في ملعب المدينة الرئيسي، وانطلقت حناجر المحتفلين بالهتاف: "الشعب المتحد لن يهزم ابدا".
وعاشت البرتغال لحظة تغيير جذري تم فيها تأميم البنوك والشركات، وحصل الطلبة والاساتذة على الحرية في تنظيم برامج التدريس في الجامعات بعد أن كانوا حتى الأمس القريب مطاردون و يخضعون لاملاءات الدكتاتورية حتى في ادق التفاصيل. وتفجرت الافكار والمشاريع والتنظيمات التي كانت مقموعة لنصف قرن. وملأت جدران المدن شعارات مختلف احزاب اليسار ومنظماته. وتولت اللجان الشعبية مهمة تنظيم العديد من الخدمات مثل اطفاء الحرائق، واصلاح الشوارع المهملة. وقام عمال بادارة المصانع المصادرة. وجرى العمل باصلاح زراعي جذري وشامل وفق النموذج الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي السابق، تم فيه توزيع الاقطاعيات الكبيرة على الفلاحين والعمال الزراعيين، الذين بادروا الى تأسيس التعاونيات الزراعية، لادارة المزارع وتسويق منتجاتها.
ولكن ما لم يحسب البرتغاليون حسابه، انهم يحاولون اقامة الاشتراكية في ذروة الحرب الباردة، التي ما كان الغرب يتسامح خلالها مع قيام دولة اشتراكية في أوروبا الغربية. وان قيام كوبا او فيتنام او تشيلي جديدة، هو ما يجب منعه وقمعه بأية وسيلة. وبالتالي ادى الصراع بين الشرق والغرب الى دق إسفين في وحدة الشعب البرتغالي: الاشتركية الدولية وسعت وعمقت من تأثيرها على الحزب الاشتراكي البرتغالي ليتبنى "الإصلاح بدلا عن الثورة". وكان الاتحاد السوفياتي يمثل دعامة مهمة للحزب الشيوعي البرتغالي، خصوصا في مناطق الجنوب. فيما راحت آلة الدعاية المعادية للشيوعية جيدة التأهيل، والتنظيم والممولة من الولايات المتحدة الأمريكية تفعل فعلها في المناطق الشمالية من البلاد.
وجاء السبب الآخر لفشل الثورة من الداخل: لم يكن هناك أي تصور او تجربة للاشتراكية معاشة. كيف يجب بناء التعاونيات وإدارة الملكية المشتركة، إذا لم تكن معرفة بكيفية بناء الثقة بين الشركاء؟ كيف يتم اتخاذ القرارات الديمقراطية في القاعدة دون اجراء آلاف المناقشات؟ فضلا عن مواجهة العمال الزراعيين غير المتعلمين فجأة المهام التي لم يكونوا مستعدين لانجازها.
حكومة الاشتراكيين اخذت تجنح اكثر فاكثر نحو اليمين، وسحبت دعمها للقطاع الزراعي. ومجالات اساسية في الاقتصاد استمرت بالعمل بالقوانين الرأسمالية، ومع هذا التراجع ما كان ممكنا ان يستمر الحماس والارادة بالنمو. وفي صيف عام 1976 عاد المجتمع مرة أخرى إلى العلاقات البرجوازية. وظلت الاشتراكية كهدف مثبت في الدستور وعاء فارغا. واخذ الرأسمال يستعيد سلطته خطوة خطوة. وجرى التراجع نهائيا عن الإصلاح الزراعي. ومع عودة الأراضي الى الاقطاعيين اصطدمت قوات الشرطة بالمزارعين الصغار، الذين فقدوا أراضيهم، وحيواناتهم، وآلاتهم وثمار عملهم. وتم تعويض الملاكين عن السنوات السابقة بوصفها "سنوات احتلال". لقد فقدت الثورة محتواها وتمت تصفيتها.
واليوم حيث تواجه البرتغال سياسات التقشف وتداعيات الازمة المالية، وفشل اليمين الحاكم في تقديم الحلول الملموسة تجد جذوة البدائل جذورها في ثورة القرنفل وينفتح الصراع الاجتماعي وحركته الاحتجاجية على بدائل يطرحها الشيوعيون وقوى اليسار والحركات الاجتماعية الجديدة تستحق ان نخصص لها وقفة اخرى.