مدارات

بعد كارثة مناجم الفحم.. الغضب والاحتجاج يتواصلان في تركيا / رشيد غويلب

ارتفع عدد ضحايا اسوأ كارثة تصيب عمال المناجم في تركيا، وفق تصريحات وزير الطاقة التركي الى 302 . وهناك 18 عاملا آخر ما زالوا محتجزين، جاء ذلك في تصريحات صحفية ادلى بها الوزير التركي اول امس الجمعة لوسائل الاعلام.
وكان حريق قد اندلع الثلاثاء الفائت في المنجم، ادى الى انقطاع التيار الكهربائي وتعطيل المصاعد الكهربائية، ونظام التهوية. ما ادى الى موت المئات من العمال في اسوء حادثة مروعة تشهدها تركيا منذ عام 1992 . وعلى خلفية ما حدث تعيش البلاد حالة غضب واحتجاج، شملت العديد من المدن التركية ، ودعت اليها اتحادات نقابات العمال العاملة في البلاد على اختلاف توجهاتها الفكرية والسياسية، ضد حكومة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان المحافظة. وفي مقالة طويلة له يسلط جميل فؤاد رئيس تحرير جريدة الحزب الشيوعي التركي الضوء على اسباب الكارثة، والمسؤولين عن وقوعها. في ما يلي عرض لأهم ما جاء فيها:

في البداية جرى الحديث عن وقوع انفجار في محطة فرعية، ادت الى نشوب الحريق في منجم سوما. وفي وقت لاحق، قال رئيس غرفة الهندسة الكهربائية يسيل حسين ان الحريق اندلع على الأرجح في موقع عمل تم الاستغناء عنه منذ زمن طويل، ولم تتخذ اجراءات السلامة الصناعية الضرورية بعد تفكيكه. ومن جانبها لم تعطي شركة AS التي امتلكت المنجم بعد شموله بالخصخصة اية تفاصيل ملموسة عن الحادث. ولكن المعلومة الحقيقية الهامة كان قد اعلنها مالك الشركة في مقابلة صحفية اجرتها معه جريدة الحرية التركية واسعة الانتشار في عام 2012 : "عندما كانت الدولة مسؤولة عن الانتاج في المنجم كان الطن الواحد من الفحم يكلف 130 -140 دولار، والآن يكلف انتاج الطن الواحد 23.80 دولار فقط". لقد كان فخورا بالنتيجة التي اعلنها، ولكنه لم يقدم اية تفاصيل عن الكيفية التي استطاع بواسطتها تحقيق هذا الفارق الكبير جدا بتكاليف الانتاج.
وليس سرا ان هذا التخفيض الهائل جاء على حساب امن العمال وعدم الالتزام بالضوابط المطلوبة في مجال السلامة الصناعية، و تأتي حوادث العمل المتتالية في مواقع العمل التي تديرها الشركة المذكورة لتقدم دليلا واضحا على ذلك. وعلى هذا الاساس حاول الحزب الجمهوري المعارض المطالبة بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في هذه الحوادث، ولكن الطلب رفض في 16 اذار من قبل الاكثرية البرلمانية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية الحاكم. لان الشركة المالكة للمنجم تزود حزب رئيس الوزراء بكميات كبيرة من الفحم يقوم بتقديمها كرشوة للناخبين خلال الحملات الانتخابية. وقبل تنظيم فعالية انتخابية لرئيس الوزراء في المدينة، خلال الانتخابات المحلية الاخيرة، قامت الشركة بجمع عمال المناجم، وسحبت بطاقات وجبات الطعام وهوياتهم الخاصة، لتجبرهم على حضور الحفل الانتخابي ورفع قبعاتهم الصفراء تحية لرئيس الحكومة.
ويبدوا ان تحديد مسؤولية ما حدث، ربما ستكون سهلة، اذا ما تعلق الامر بهذه الحادثة فقط. ولكن الحقيقة تقول ان تركيا اليوم هي البلد، الذي يعيش يوميا حادثة مروعة في المصانع والمناجم والموانئ، ومواقع الانتاج الاخرى. ولهذا لا يسمي الكثير من العاملين ما يحدث حوادث عمل، انما يطلقون عليها تسمية "حوادث للقتل العمد".
ان التغييرات التي طالت قوانين العمل خلال عهد حزب العدالة والتنمية، بالضد من مصالح العاملين، توفر ارضية لإجراء تخفيضات في تدابير السلامة في مكان العمل. وارتفاع معدلات البطالة يدفع العمال للقبول بأية فرصة عمل، وبأية اجور، وتحت أية ظروف كانت.
وأدت قوانين الحكومة الاسلامية كذلك الى شل اتحادات النقابات التي تحاول هنا وهناك الدفاع عن حقوق العمال، اما النقابات الاسلامية التي اسسها الحزب الحاكم، لتصبح ذراعه الفاعل في المصانع، تحصر مهامها في بناء المساجد الملحقة بالمصانع، وتدعوا اعضائها لاداء صلاة الجماعة.
ويحاول اردوغان وحزبه افهام العمال وذويهم ان ما حدث هو قضاء وقدر، ولا يريدون الحديث عن النقص الهائل في اجراءات السلامة الصناعية في مواقع الانتاج، وان المصاعد لا تعمل في المناجم، وان انظمة التهوية عتيقة ودائمة العطل. ولا يشيرون الى اختفاء المستشفيات التي يفترض وجودها بالقرب من المناجم وفق معايير العمل الدولية.
وفي اول رد فعل له اوضح اردوغان" ان وقوع مثل هذه الحوادث في هذا القطاع امر اعتيادي". واستشهد رئيس الوزراء بحوادث مماثلة وقعت في الولايات المتحدة الامريكية في عام 1907 ، وفي اوربا في القرن التاسع عشر. وفي كلمته المليئة بالنصوص الدينية دعا من الله المغفرة للضحايا، ووعد بقراءة القرآن في جميع المدارس على ارواحهم، وبهذا يواسي اردوغان ذوي الضحايا وعوائلهم.
وفي زيارته للمدينة الاربعاء الفائت تجاوز اردوغان الجموع المنتظرة امام المناجم، ولم يخسر حتى ولو كلمة مواساة بسيطة، وتوجه مباشرة لزيارة الجرحى في المستشفى. وهناك تم استقباله من المحتجين الغاضبين ، وقام حرسه الشخصي، وقوات مقاومة الشغب، والجندرمة بمهاجمة ذوي الضحايا. وقد قام احد مستشاري رئيس الوزراء بركل احد المحتجين، الذي كانت قوات الشرطة قد طرحته ارضا، وقد قامت وكالات الانباء ووسائل الاعلام بنشر الصورة الفضيحة في جميع انحاء العالم، وفي مقابل ذلك قام المحتجون بمهاجمة سيارة رئيس الوزراء المدرعة الفخمة بكل ما توفر لديهم من وسائل.
وعلى الرغم من كل محاولات اردوغان وحزب العدالة والتنمية للتغطية على الأسباب ومحو آثار المسؤولية، فان المزيد والمزيد من الناس بدؤوا يقتنعون ان المسؤولية يتحملها اردوغان وحكومته. فمنذ توليه مهام منصبه في عام 2003 قتل 12 الف عامل بواسطة ما يسمى بحوادث العمل. بالاضافة الى التغييرات القانونية المعادية للعمال والتي أدت الى ارتفاع البطالة وانتشا اشكال العمالة المؤقتة وغير المستقرة، وانتشار مكاتب سماسرة العمل، وخصخصة القطاع العام وبيعه للرأسماليين من اقارب اردوغان وابناء عشيرته، الذين لا يعرفون سوى مضاعفة الارباح وتراكم راس المال. ولابد من الاشارة في نهاية المطاف الى مسؤولية مراكز الرأسمال في الاتحاد الاوربي وبلدان الغرب الاخرى التي قدمت كل الدعم والمساندة لنموذج الليبرالية الجديدة الذي عمقه اردوغان في تركيا.