مدارات

جذور الاستعصاء الديمقراطي في الدولة الريعية (1-7) / د . صالح ياسر

مفهوم الدولة الريعية ملاحظات مكثفة

استخدم الاقتصاديون، في مطلع القرن العشرين، مفهوم « الدولة الريعية « لوصف تلك الدول الاوربية التي كانت تقدم القروض الى الحكومات غير الاوربية.
ولكن منذ أواخر ستينات القرن الماضي، تمّ تطوير مفهوم «الدولة الريعيّة»، مع أعمال روبرت مابرو (1). وفي اوائل السبعينات من القرن نفسه وبعد «الطفرة» النفطية وارتفاع أسعار هذه السلعة وتدفق الريوع النفطية بشكل كبير على البلدان المنتجة للنفط عاد النقاش مجددا حول هذه القضية انطلاقا من سؤال هو: ماذا يعني هذا الدخل الكبير المتأتي من انتاج النفط بالنسبة الى هذه البلدان؟ ومن بين المقاربات المنهجية لفهم هذا الدخل، هي تلك التي اقترحها انذاك الباحث الإيراني حسين مهداوي (2) من خلال المفهوم الذي طرحه عام 1970، والذي قام على مسلّمتين أساسيتين:
- أنّ الدولة الريعيّة لا تحصل على مواردها من الضرائب التي تفرضها على مواطنيها، وبالتالي فهي لا تخضع إلى محاسبة هؤلاء، فتصبح «مستقّلة سياسيّاً» انطلاقاً من «استقلالها الضريبي»؛
- والثانية أنّ هذه الدولة تعتمد سياسات توزيعيّة تؤدي إلى إخراج السكان من الحيّز السياسي وبالتالي من أية مطالبة بالديموقراطيّة.
إن « الدولة الريعية « بحسب مهداوي هي تلك التي « تعتاش على عائدات من الخارج، إما من بيع مادة خام او تقديم خدمات استراتيجية (قناة السويس مثلا)، او من ضرائب تُجبى على تحويلات من الخارج « (3). فالدولة الريعية اذن تعتمد على دخل لا يتم كسبه عن طريق الإنتاج والعمل.
ومقاربة مهداوي تنظر الى دخل النفط بوصفه ريعا خارجيا، أي ايجارا تتقاضاه هذه البلدان من تأجير اراضيها الى الشركات النفطية، وهو ريع خارجي غير مكتسب ولم يتولد من العمليات الانتاجية للاقتصاد الوطني. ويتبع ذلك، منطقيا، أن الدولة التي تعيش او تعتمد في معاشها على الريع الخارجي هي دولة ريعية. والدولة الريعية ليست بالضرورة متصلة بالنفط، فاسبانيا مثلا (في نهاية القرن 16) تعطينا «نموذجا» تاريخيا لدولة ريعية اعتمدت في معاشها على ذهب وفضة الامريكيتين (4).
ومن الاهمية بمكان إدراك الصفة الخارجية لهذا الريع الذي يمثله الدخل النفطي، فهو اشبه بهبة خارجية اجنبية، ولكنها هبة مستمرة ومنتظمة. ولهذا يمكننا ان نفهم لماذا لم تكن الاسر الحاكمة في البلدان النفطية ترغب في مضايقة شركات النفط بالإلحاح على زيادة حصة بلدانها. ولم تكن هناك صلة بين انتاج النفط كنشاط اقتصادي وقطاعات الاقتصاد الوطني، لا من حيث العمالة والتوظيف، ولا من حيث استهلاك النفط محليا، ولا من حيث تاثيره على الصناعة المحلية، ولا من حيث توظيف الفائض من الدخل محليا حتى بداية الثمانينات من القرن العشرين عندما ظهرت بعض الصناعات « التحويلية « (5).
استنادا الى الملاحظات السابقة يمكن القول ان الدولة الريعية هي تلك التي تعتاش على عائدات من الخارج، أما من بيع مادة خام أو خدمات استراتيجية، أو من ضرائب تجبى على تحويلات من الخارج من نوع عائدات قوى عاملة في الخارج (دولة شبه ريعية)، وذلك من دون عمالة كبيرة موظفة في الاقتصاد المحلي في انتاج هذه العائدات، وما يميز هذه الدولة، بحكم طبيعتها، أنها تنزع الى إعاقة التحول الديمقراطي. وهي بصيغة اخرى تعيق تطور المجتمع المدني، اي المجتمع الذي يعيد انتاج ذاته خارج اطار الدولة وهيمنتها، وفي علاقة استقلال نسبي معها ويمولها من الضرائب. وفي حالة ميزانية الدولة الريعية يبدو الحاكم الذي تشخصن الدولة فيه كأنه يصرف مالا من جيبه على المجتمع، وتبدو عملية الصرف الاجتماعي وكانها « مكرمات «، أو عملية شراء ولاءات سياسية (6).
و الدولة الريعية تعد حالة تنتج فيها حصة الاسد من ميزانية الدولة من عائدات خارجية، ولكنها عائدات خارجية لا يوظف فيها عمل اجتماعي جدي من نوع تصدير مادة خام قائمة في الطبيعة، مثل حالة النفط ومعادن أخرى، أو من معونات اجنبية يحصلها الحاكم الكساب بـ « شطارته « او بسياسته، اي مساعدات اجنبية ناجمة عن تحالفات سياسية استراتيجية أو تقديم خدمات امنية وغيرها.
كما ان الدولة الريعية تنتج « دولة كبيرة «، اي متضخمة النفقات والميزانيات، ومتضخمة اقتصاديا، وقدرات مالية لديها غير قائمة على جباية الضرائب. وبالعكس، دولة كهذه توزع امتيازات ومشاريع اعمار ومناقصات ووكالات على « النخبة « المرتبطة بها والموالية لها، سواء كان هذا الولاء سياسيا أم عشائريا أم كليهما... وفي حالة النفط طبعا هناك تضخم العائدات الذي يمكّن من شراء قطاعات من « النخب الثقافية « ممن كانوا مؤهلين للمساهمة في عملية بناء المجتمع المدني في العديد من البلدان العربية، كمجتمع يعيد انتاج ذاته في حالة تفاعل مع الدولة (7). وقد ترتب على قيام هذه الدولة الريعية، نشوء شبكة من علاقات التوزيع وإعادة توزيع المزايا، بحيث انتظم المجتمع في شكل هرم من الشرائح الريعية المتتابعة التي تحصل على مزايا خاصة نتيجة لوضعها المتميز في هذا الهرم، وهي تقوم بدورها بإعادة توزيع جزء منه لحلقات تالية من هذه الشرائح (8).
وعندما تشكل العائدات النفطية المصدر الرئيسي للريع في دولة نفطية ريعية، فإن اعادة التدوير الداخلي للريع النفطي داخل الاقتصاد المحلي يؤدي الى توليد تشكيلة من الدخول الريعية الثانوية (او المشتقة) من خلال برامج الانفاق العام مثل الانفاق على مشروعات البناء والتشييد، بما يولده من عمولات، وعائد على المضاربات العقارية، أو التحويلات أو مدفوعات الرفاه. ومن ناحية أخرى، تقوم الدولة الريعية بإعادة تدوير جزء من الريع النفطي من خلال استثماره في الخارج، عبر محفظة الاستثمارات المالية الخارجية. وكما تشير التجربة فان اعادة التدوير هذه تؤدي الى تعميق الطبيعة الريعية للاقتصادات النفطية. ونتيجة لذلك ينشأ تحالف ثلاثي بين الدول و « صفوة « رجال الاعمال المحليين ودوائر راس المال العالمي (المالي والمصرفي) (9).
من الممتع قراءة محاولات في تطبيق نظرية الريع والدولة الريعية على اعاقة نشوء الديقراطية ليس في الحاضر فقط بل حتى تاريخيا. اذ يفسر بعض الكتاب نشوء الديمقراطية مبكرا في انكلترا ودول اوربا الشمالية الفقيرة التي اضطرت الى الاعتماد على الضرائب، وبالتالي على المجتمع، في مرحلة مبكرة لتمويل نفقاتها قبل دول ريعية طورت سياسات توسعية استعمارية مبكرة مثل اسبانيا والبرتغال واعتمدت على الثروات وعلى ذهب المستعمرات في امريكا الجنوبية وافريقيا وذلك قبل ان تنشيء اقتصادا محليا حديثا، فتحول الاستعمار والريع المبكر الذي اتى به الى عائق امام نشوء ديمقراطية (10).

الخصائص والمؤشرات الاساسية للدولة الريعية

الدولة، من هذا النوع، تتميز بعدة خصائص يمكن إجمالها في ما يلي (11):
- قطاع حكومي كبير، يقابله مستوى منخفض من تحصيل ضريبة الدخل؛
- على عكس المجتمعات الديمقراطية، حيث أن دافع الضرائب هو الذي يموّل الجزء الأكبر من دخل الدولة، وهذا الأمر هو أحد أركان المجتمع المدني الحديث، نرى ان المواطنين في الدولة الريعية « يعتاشون « من الدولة باعتبارها أكبر رب عمل، أي أنها هي التي تمولهم بدلا من أن يمولوا هم الدولة التي هي، كما تبدو في نهاية المطاف في العديد من البلدان، عبارة عن مزيج من سلطة قبلية وشركة استثمارية معاً.. هذا مع العلم أن تاريخ الديمقراطية ترتبط بدايته مع نوع من الارتباط المالي عملا بالقاعدة المعروفة في المجتمعات الديمقراطية: «لا تمثيل من دون ضرائب «.
وقد جاء التفسير لطبيعة السلطة السياسية معتمداَ على أن النظام الاقتصادي في البلدان النفطية ولّد دولة ريعية لا تفرض الضرائب على مواطنيها، بل تقوم على عكس كل دول العالم، بالدفع لهم في دولة رفاه غير ضريبية، وعبر توظيفهم في ملاكاتها الإدارية والخدمية والأمنية. وهو شيء يشبه عملية رشوة سياسية: أسر ومجموعات حاكمة تحتكر السلطة السياسية مقابل « عقد اجتماعي « تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية، ومجتمعات تستقبل هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة بل كـ « هبات « تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم ليتصرف على هواه.
- ان الاقتصاد في هذا النوع من الدولة لا يعتمد مباشرة على النفط بل يعتمد عليه بطريق غير مباشر وهو طريق مصروفات الدولة او الانفاق العام الذي يتحول الى قناة لضخ دخل النفط.
- وهنا يبرز الدور المركزي الذي تلعبه الدولة (من حيث كونها المستلمة للدخول النفطية) في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان، ولكن بشكل مغاير للدول الاخرى التي تعتمد على الضرائب والقطاعات الانتاجية والخدمية في الاقتصاد الوطني. والدخل المتأتي من النفط يجعل الدولة الريعية مستقلة نسبيا عن مصادر القوة والسلطة المتعارف عليها في الدول الاخرى، ولذلك فإنها تتمتع بمرونة في العمل وحرية في المناورة تفوق الى حد كبير الأحوال الاعتيادية التي تحصل فيها الدولة على دخولها من الضرائب او العملية الانتاجية. وليس معنى ذلك بالطبع ان الدولة الريعية متحررة كليا من القيود.
وإذا توقفنا قليلا للتدقيق في آليات الانفاق العام والدور الاستثنائي الذي يلعبه هذا الانفاق في الدولة الريعية، وجدنا أن هناك بصورة عامة ثلاثة ابواب للانفاق العام في الميزانية العامة للدولة وهي: الانفاق الرأسمالي، التعويضات العامة، الاستهلاك العام.
الباب الذي يكتسب اهمية فائقة في ميزانية الدولة الريعية هو باب التعويضات العامة. وفي العادة، فان هذا النوع من التعويضات هو عبارة عن مجموعة من المبالغ الكبيرة التي تدفع من الميزانية العامة على شكل فوائد على الدين العام، الضمان الاجتماعي، الدعم التمويني، التعويضات المختلفة. وفي الكثير من الدول الريعية استخدم هذا الباب لخلق اوليغارشيات (طغم) طائلة الثراء، وتحويل قطاع الاستيراد والتصدير الى أكثر قطاعات الاقتصادية دينامية، وكل ذلك من ميزانية الدولة.
ان ضخ هذه المبالغ الكبيرة من راس المال وتدويره في الاقتصاد الوطني اعطى الانطباع بالازدهار الاقتصادي، ولكنه في الواقع ازدهار مخاتل اذ انه لا يحدث أي توسيع في القاعدة الانتاجية للاقتصاد المحلي عن طريق التصنيع والتنويع في مصادر الدخل، وهذه هي الصفة العامة لاقتصاد الدول الريعية.

الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يعد (روبرت مابرو) أحد أهم الأسماء الاكاديمية اللامعة في مجال دراسات الطاقة، لبناني الاصل ولد وتعلم في مصر وعاش فترة طويلة من شبابه في الاسكندرية قبل ان يغادرها الى الولايات المتحدة، وهو الرئيس الشرفي لمعهد دراسات الطاقة في جامعة اكسفورد وأحد أهم خبراء الطاقة علي مستوي العالم.
(2) H.Mahdavy, '' The Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States: The Case of Iran ", in: M.A.Cook, ed., Studies in Economic History of the Middle East: From the Rise of Islam to the Present Day (London: Oxford University Press, 1970), pp. 428-467.
(3) انظر: النفط والاستبداد. الاقتصاد السياسي للدولة الريعية، مجموعة مؤلفين (بغداد – بيروت – أربيل: معهد الدراسات الاستراتيجية، الطبعة الاولى )، مصدر سابق، ص 73 – 78.
(4) لمزيد من هذه التفاصيل حول هذه النقطة انظر: د. رمزي زكي، التاريخ النقدي للتخلف – دراسة في اثر نظام النقد الدولي على التكوين التاريخي للتخلف بدول العالم الثالث، عالم المعرفة (118)، (الكويت: اكتوبر/تشرين الاول، 1987).
(5) قارن: د.خلدون حسن النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (من منظور مختلف)، مصدر سابق، ص 122- 123؛ كذلك: انظر: النفط والاستبداد. الاقتصاد السياسي للدولة الريعية، مصدر سبق ذكره.
(6) اشار العديد من الباحثين الى ان اكثر الدول الريعية اعاقة للديمقراطية هي التي تعتمد على استخراج وتصدير مادة خام واحدة، ومن بينها اكثر الدول اعاقة هي في حالة كون هذه المادة الخام هي النفط. لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة انظر على سبيل المثال: عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية (مع اشارة للمجتمع المدني العربي)، ط 2 ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998).كذلك: حازم الببلاوي، « الدولة الريعية في الوطن العربي «، ورقة مقدمة الى: الامة والدولة والاندماج في الوطن العربي (ندوة)، تحرير غسان سلامة وآخرون، ج 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989)، وعبد الله جناحي، « العقلية الريعية وتعارضها مع مقومات الدولة الديمقراطية «، المستقبل العربي، السنة 25، العدد 288 (شباط/فبراير 2003)، ص 52 – 68.
(7) لمزيد من التفاصيل قارن: متروك الفالح، المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية: دراسة مقارنة لإشكالية المجتمع العربي في ضوء ترييف المدن ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2002).
(8) د. حازم الببلاوي، الدولة الريعية في الوطن العربي..، مصدر سابق، ص 70.
(9) قارن: د. محمود عبد الفضيل، « السلوك والأداء الاقتصادي للدول النفطية الريعية في المنطقة العربية «، المستقبل العربي، العدد 103 (ايلول/سبتمبر 1987)، ص 98.
(10) Thomas Janoski, Citizenship and Civil Society: A Framework of Rights and Obligations in Liberal, Traditional and Social Democratic Regimes (Cambridge, UK: New York: Cambridge University Press 1998), p.3.
(11) د.خلون حسن النقيب، المجتمع والدولة...، مصدر سابق، ص 123 – 124. كذلك:
Schwars, Rolf (2004). State Formation Processes in Rentier State: The Middle Eastern Case. International Relations Meet Area Studies (The Hague, September 9-11).