مدارات

مع المسيرة الثورية - الخطوات الاولى... من عام 1952 الى معركة بورسعيد 1956 (26) / الفريد سمعان

بعد سقوط الملكية في مصر عام 1952 بعد الثورة التي قادها مجموعة من الضباط وعلى رأسهم جمال عبد الناصر والسادات استجابة للوضع السياسي المعقد واستخفاف الملك فاروق بالشعب وانتهاك الحريات، والعبث اللا أخلاقي المتغطرس، لقي هذا الوضع الجديد في مصر ترحيباً واسعاً في كافة انحاء البلاد العربية لاسيما بعد الخيبة العسكرية اتجاه تكوين اسرائيل والاعتراف بها من قبل الدول الكبرى بتنسيق من امريكا والدول الغربية كما أثبت التاريخ فيما بعد وحتى يومنا هذا، وقد رافق ذلك الكثير من الاحداث كما جرى في العراق حيث أرغم اليهود على ترك العراق بوسائل شتى، وفق الخطة المرسومة كما استعاد الضباط الاحرار ثقتهم بانفسهم وبامكانية احداث التغيير من خلال نجاح الثورة المصرية، بعد انتكاسة 1948 وعودة الجيوش العربية وهي تجر اذيال الخيبة.
كنت طالباً في دمشق عام 1948 وكان الجنرال اسماعيل صفوت قائد الجيوش العربية يشرب القهوة في مقهى الهافانا واليأس يرسم خطوطه السوداء على ملامحه، وهو عسكري مخضرم وصاحب تجربة ولكنهم لم يمنحوه فرصة استغلال مواهبه العسكرية، ايضاً وفق الخطة المرسومة.
كان الحزب يراقب التحولات الجديدة في مصر والقيادة تقوم باصدار البيانات وتطل على الموقف الجديد غير المتوقع وتسعى الى ان تكون في الصورة عبر وضع سياسي مرتبك بدأ فيه نوري سعيد وازلامه ومن يحيطون به يبحثون عن محور اخر وعن تفسيرات اخرى لما يجري، وكيف يمكن مجابهة الموقف لا سيما وان حماية النفوذ البريطاني وتطمين مصالحه كان هاجساً لا يغيب عن ذاكرة الطبقة الحاكمة. وظل الصراع محتدماً واخذت السلطات تشدد قبضتها على الشيوعيين بالذات خشية استغلال الموقف، وكانت تبحث عن (معارض) للخط اليساري التقدمي، لاجهاض مسيرته وعرقلة الجهود التي تبذل على النطاق الشعبي وانتشار الوعي بين الجماهير وقامت بشكل او بآخر بدعم التيار القومي الذي وجد في نداءات عبد الناصر ورفع شعار القومية العربية والتأكيد على هذا الجانب من الاتجاه السياسي فرصة للنمو والوقوف بوجه المدّ اليساري الذي كان يهيمن على الشارع، منذ سنوات طويلة.
في عام 1956 وبعد صراع وتوترات عنيفة، وضغوط خارجية من قبل بريطانيا وفرنسا لاستعادة مواقعها واعادة الطفل الهارب الى سريره السابق، ومن خلال المحنة التي يعيشها الشعب المصري وتضييق الخناق على ثورة يوليو 1952، قام عبد الناصر بعد ان استتبت له الكثير من الامور ووجد نفسه على قمة الهرم الثوري، فأعلن تأميم قناة السويس، وضمان كافة ايراداتها لمصر مع بعض الامتيازات اتجاه الشركة الكبرى التي كانت تسيطر على القناة، وتلبي كافة طلبات الدول الاستعمارية للابقاء على هذا الشريان الخطير، الذي يهيمن على خط سير التجارة العالمية وير?ط بين مستعمرات الدول الغربية القديمة كالهند وجنوب شرق اسيا والصين واندنوسيا وكل جوانب السطوة الاستعمارية المقيتة ولنتأمل بلداً عظيماً كالهند بملايينه السبعمائة تسيطر عليه بريطانيا، وبلد مثل اندنوسيا بجزرها التي تتجاوز المئات صغيرة وكبيرة تهيمن عليها هولندا التي لا تساوي حجم (نملة) بالنسبة لها اضافة الى الصين وهونك كونك التي كانت تسيطر عليها البرتغال وقد فتحت ابوابها للتهريب والحشيشة والدعارة والمؤامرات أي اجحاف هذا، لا ادري ان كانت الدول الغربية عندما تراجع تاريخها العدواني أية مهانة مارستها ضد الشعوب المستعمرة.
لقد انتفضت (غيرة) انكلترا وفرنسا على ضياع هذا (المعقل) الاقتصادي البحري الكبير، ولذلك إنهالت بالتعاون مع اسرائيل بطائراتها وقنابلها على مصر، ودمرت بورسعيد وكانت معركة ضارية قابلتها الشعوب العربية بموقف لاينسى حيث هبت الجماهير وربما وجدتها فرصة مواتية للرد على الظلم الاستعماري واصدر الحزب اكثر من بيان بتأييد مصر، وخرجنا في تظاهرات ووزعت اثناءها بيانات الحزب، لايمان الحزب باتخاذ موقف صائب وجريء بل لعدم ترك الساحة تتجول فيها القوى القومية لما يروق لها وكان حزب البعث في بداية تكوينه وانتشار افكاره في اوساط محدددة لا سيما عناصر الشباب التي وجدت ضالتها في الانتساب اليه بعد ان وجدت ضعف وخمول التيار القومي المتفرق الذي كان يقود حزب الاستقلال بقيادة محمد مهدي كبة والسامرائي وشنشل.
وهنا جن جنون دوائر الاستخبارات والتحقيقات الجنائية واذكر ان حتى ( مدير شرطة بغداد) السامرائي بنفسه نزل مع الشرطة وهو يركض يطارد المتظاهرين ويجفف العرق الذي يسيل على وجوههم. ومن المعروف ان العدوان الثلاثي لم يتوقف إلا بعد الانذار السوفيتي باطلاق الصواريخ لتحرق ضباب لندن وابراجها.
بعد هذا العنفوان انطلقت دوائر حلف بغداد لاخماد اللهب، فشنت حملة اعتقالات، لم تشملني فقد تركت عملي في الشركة الاهلية للكهرباء وكنت اقضي الليل في بيوت اشقائي لبضعة ايام، حيث هدأت الامور واستقرت،
على موعد جديد مع الحرية وكرامة الانسان.