مدارات

آليات اخضاع المجتمع المدني لسطوة الدولة في البلدان الريعية .. جدلية العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي 4 - 7 / د.صالح ياسر

شهد العقدان الاخيران الاخيران، نقاشا صاخبا، ثريا متنوعاً، حول موضوع " المجتمع المدني " والاشكاليات المرتبطة به. ومثله مثل مفهوم العولمة فقد اصبحت الاشارة اليه (أي المجتمع المدني) لازمة ضرورية في كل مناسبة تخص نقاش مشكلة الديمقراطية. وتزداد أهمية مفهوم " المجتمع المدني " نتيجة تلك النزاعات التي ارتسمت في العقود الاخيرة والمتعلقة بتطور الدولة وكذلك العلاقات الناشئة بينها وبين المجتمع، حيث تجري بلورة العلاقات الضرورية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وتبذل جهود فكرية لتأصيل نظري لتلك العلاقات (1). ونظراً لأن النقاش الدائر حول " المجتمع المدني " لم يظل اكاديميا صرفا، بل اتخذ طبيعة السياسة العملية الملموسة، فإنه يمكن القول، إذن، أن مصطلح " المجتمع المدني " اصبح شعارا تعبويا لمختلف القوى والفئات الاجتماعية الساعية الى اجراء تحويلات عميقة في مختلف مستويات التشكيل الاجتماعي في العديد من البلدان. ولكن بالرغم من أهمية هذه الاشكالية فقد ظل النقاش حولها، في العديد من المجالات، نقاشا مجردا وعموميا، وظلت بعض القضايا المرتبطة بمفهوم المجتمع المدني غامضة وتتطلب معالجة متأنية وحصيفة في أن.
لقد مثل توفر الثروة النفطية في العديد من البلدان نقيضا لتطور الديمقراطية ومصدرا اساسيا لتفشي الاستبداد، بفعل قدرة الدولة على اختطاف واخضاع المجتمع المدني بوسائل متنوعة عبر عدة اليات من بينها (2):
الآلية الاولى وهي ما يمكن أن نسميه " مفعول الريعية "، ويعني أن الحكومات تستخدم عائدات النفط لتخفيف الضغوطات الاجتماعية التي يمكن لها، بخلاف ذلك، أن تؤدي الى تزايد المطالبات بمحاسبة الحكومات محاسبة أشد. و يمكن ان يحصل هذا بثلاث طرق:
- الطريقة الاولى هي " تأثير الضرائب ". ويقصد بذلك ان الحكومات، اذ تتوفر على ايرادات كافية من مبيعات النفط، لا تعود بحاجة الى ضرائب باهضة، او لا تعود بحاجة لفرض اية ضرائب باهضة على الاطلاق. بمقابل ذلك سيخفف ميل السكان الى المطالبة بمحاسبة الحكومة، ناهيك عن المطالبة بان يتم تمثيل هؤلاء في هذه الحكومة.

إن البلدان الريعية النفطية تمتاز بضعف حصة الايرادات الضريبية في إجمالي كل من الايرادات العامة والناتج المحلي الاجمالي. فالتدفقات الهائلة من الريوع النفطية التي تتحكم فيها القوى المسيطرة تحررها من فرض ضرائب مرتفعة على السكان مما يخفف من ضغط السكان الى المطالبة بمحاسبة هذه السلطات. وبعبارة أخرى، في ظل الانظمة الريعية يمكن تعطيل القاعدة التي تستند اليها النظم الديمقراطية المعاصرة: لا تمثيل بدون ضرائب!
- يتضمن مفعول الريعية عنصرا ثانيا هو " تاثير الانفاق " ويقصد بذلك ان الثروة النفطية تفضي الى زيادة الانفاق على المحسوبية (الاتباع والمحاسيب)، مما يخفف او يُسكِت الاعتراضات الكامنة التي تسعى الى اقامة الديمقراطية.
وتبدو الريعية في الدول النفطية مثلا كما لو هي ما يشبه عملية رشوة سياسية بموجب الثلاثية التالية:
- أسر حاكمة تحتكر السلطة السياسية؛
- يقابل ذلك " عقد اجتماعي " تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية؛
- ومجتمعات تستقبل هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة بل كـ "هبات" تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم/الحكام ليتصرف على هواه.

وللتدليل على هذه الملاحظة نعرض الجدول التالي (رقم 1) الذي يتضمن هيكل الانفاق العام في الدول العربية ومنه يلاحظ أن ما يقارب ثلاثة ارباع هذا الانفاق يوجه الى الانفاق الجاري في حين تخصص نسبة لا تتجاوز الربع الى الانفاق الرأسمالي مما يعطل أية امكانية لإعادة بناء الاقتصادات المحلية وتخليصها من طابعها الريعي وبنيتها المتخلفة والأحادية الجانب.

جدول رقم (1)

هيكل الانفاق العام في الدول العربي خلال الفترة (2006 - 2010) (نسبة مئوية)

 

2006

2007

2008

2009

2010

الانفاق الجاري

74.5

71.0

71.2

70.7

71.9

الانفاق الرأسمالي

23.6

27.9

28.5

28.9

27.8

صافي الاقراض الحكومي

1.0

1.0

0.3

0.3

03

الانفاق العام

100.0

100.0

100.0

100.0

100.0

المصدر: صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2011، الملاحق الاحصائية (ملحق 6/6)، ص 350.

المصدر: صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2011، الملاحق الاحصائية (ملحق 6/6)، ص 350.
- العنصر الثالث في مفعول الريعية هو ما يمكن ان نسميه تاثير " تشكيل الفئات الاجتماعية ". المقصود بذلك ان ايرادات النفط تمنح الحكومات اموالا كافية تستطيع بواسطتها ان تمنع تشكيل فئات وشرائح اجتماعية مستقلة عن الدولة، وميالة الى المطالبة بالحقوق السياسية.
الآلية الثانية هي آلية القمع، حيث تشير التجربة في البلدان الريعية الى ان ثروات الموارد الطبيعية تعيق بناء الديمقراطية عبر تمكين الحكومات من زيادة الانفاق على الامن الداخلي.
ولا تقتصر معدَّلات الإرتفاع الكبيرة في الإنفاق العسكري على البلدان الكبيرة والمتقدِّمة، بل أن بلدانًا كثيرة نامية ومنها بلداننا العربية تنفق قسمًا كبيرا من ثرواتها الوطنية على اقتناء الأسلحة، وذلك لدواعي "حماية " الأمن الوطني ومواجهة التهديدات الخارجية الفعلية والمفترضة، وبسبب النزاعات الداخلية والصراعات الإقليمية.. الخ. وتشير الوقائع والمعطيات المتوفرة إلى أن هذه البلدان أهدرت خلال العقود الأخيرة موارد ضخمة على التسلح، كان من الممكن أن توجِّهها لمواجهة الفقر والتخلف، ولتحقيق التنمية المستدامة لشعوبها.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى أن الدول العربية الخليجية تقف في مقدمة دول العالم من حيث نسبة الإنفاق العسكري إلى إجمالي الناتج المحلي. ففي سلطنة عُمان تراوحت هذه النسبة بين 10.6% و 12.3% خلال السنوات ما بين 1999 و 2007 (10.7 % العام 2007)، وارتفعت إلى 11.04 % العام 2009 (وهي النسبة الأعلى في العالم). وفي السعودية تراوحت النسبة بين 8 % و11.5 % (9.3 % في العام 2007)، وفي الكويت بين 3.9% و7.7 % خلال الفترة نفسها (3.9 % في العام 2007)، وثمة نسب مشابهة في كل من البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة (3). وفي عام 2010 كانت السعودية من بين أكبر عشر دول من حيث الإنفاق العسكري عالميا والذي بلغ 1.6 تريليون دولار أمريكي بزيادة 1.3% مقارنة بعام 2009. هذا مع العلم ان السعودية أنفقت 67 مليار دولار في عام 2013 بزيادة قدرها 14 في المئة عن عام 2012 لتأتي رابع أكبر دولة في العالم إنفاقا على السلاح متقدمة على بريطانيا التي انفقت 57 مليار دولار أو فرنسا التي انفقت 52.4 مليار دولار (4).
وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن إجمالي الإنفاق العسكري والأمني التراكمي للبلدان العربية قدِّر بنحو 680 مليار دولار خلال الفترة بين 2002 و2010، أي بمعدل 75 مليار دولار سنويا. إضافة إلى ذلك جاء في تقرير صادر عن "صندوق النقد العربي" و "المؤسسة العربية للاستثمار" أن الإنفاق الدفاعي العربي "شكَّل أكثر من سبعة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول العربية خلال السنوات العشر الماضية"، وهي من أعلى النسب في العالم. ووفقاً لتقديرات 2013 ستكون الأعلى بلا منازع مقارنة مع الحجم الكلي للناتج والإنفاق الجاري للبلدان العربية سنوياً، بارتفاعها إلى ما نسبته 26 بالمئة، علماً بأن مستوى الإنفاق العسكري العالمي يشكّل وسطياً ما نسبته 2.7 بالمئة من الدخل القومي للدول العربية مجتمعة (5).
في حين أن الآلية الثالثة هي آلية التحديث. ويقصد بذلك ان النمو المعتمد على تصدير النفط والمعادن يخفق في تحقيق التغيرات الاجتماعية والثقافية المفضية الى نشوء وترسخ حكم ديمقراطي.
ولا بد من الاشارة هنا الى ان مؤثرات الريعية والقمع والتحديث متداخلة، يغذي بعضها بعضا.
فمؤثر الريعية ينحصر في استخدام الحكومة للتدابير المالية لإبقاء السكان خاملين اقتصاديا؛
في حين يتركز مؤثر القمع في استخدام الحكومة للقوة (بفضل بناء اجهزة امن داخلي كبيرة لاسكات المطالبة بالديمقراطية) لإبقاء السكان خامدين سياسيا؛
أما مؤثر التحديث فيتجه الى العوامل الاجتماعية التي تحافظ على خمود السكان (بسبب عدم انتقال السكان الى قطاع الصناعة والخدمات مما يجعلهم اقل ميلا للديمقراطية).
وهكذا، اذن، وبدلا من ان تتيح الثروة النفطية فرصا حقيقية للتراكم، وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لما تمثله هذه الثروة من موارد مالية ضخمة جاهزة، فانها غالبا ما افضت الى نشوء اقتصادات مشوهة وتابعة واحادية الجانب وريعية.
وفي الوقت ذاته، وعندما يتصاعد الانهيار الاقتصادي، و تتعاظم عملية التهميش نتيجة تصاعد البطالة وتوسّع الفقر، يصبح تهميش مناطق بأكملها السمة العامة. كانت النتيجة هي انفجار البطالة والعمل المتدنّي الإنتاجيّة، لا سيما لدى الشرائح الشابّة والمتعلّمة، مّما أدّى بدوره إلى هجرة متزايدة للأدمغة والمهارات وكل ما تحمله من اثار سلبية. وفي بعض البلدان اندلعت احتجاجات اجتماعيّة قويّة انتظمت حول مطلب إعادة أسلمة المجتمعات العربية عبر طرح الشعار الشهير: "الإسلام هو الحل" وبرزت على السطح مختلف أشكال الأصوليّات المذهبية والدينيّة. وقد شجّعت الأنظمة السياسية بنفسها، في غالب الأحيان، هذا الاتجاه في التطرّف الدينيّ، ما سمح بتفادي معارضة اجتماعية مباشرة تطالب بتوزيع أكثر عدلاً للمداخيل والثروة عموما، وهذا بدوره أتاح أيضاً تقبّل المزيد من التسلّط السياسي، الذي يبرّر وجوده كـ "حصنٍ منيع" في وجه تزايد العنف السافر لدى الحركات "التكفيرية" التي تهاجم الاخرين معتبرة اياهم "ضالّين" (6). هكذا انغلقت اقتصادات البلدان العربية على نفسها ضمن دائرة تميّز اقتصادات الريع السلبية، حيث بدلا من استخدام الريوع الضخمة لإخراج هذه البلدان من التخلف التكنولوجي والعلمي، تم ارتهان النموّ الاقتصادي مباشرةً بتطوّر الريع، وفي صلبه مداخيل النفط والمساعدات الخارجية وتحويلات المغتربين. هكذا تزداد الهوّة في توزيع المداخيل.
وبينما كان التحليل الاقتصادي العلمي لهذه الظواهر والعمليات يوصل إلى أنّ هذه المجتمعات على شفير الانفجار، قابله المنطق الليبرالي الذي كان يظن (ولا يزال ايضا!) أنّ الضغط السياسي على النظم سوف يجعلها أكثر ديمقراطية !، أو يميل البعض إلى الدفع باتجاه التدخل " الدولي " لتحقيق الدمقراطية (7).
ومن جانب اخر فانّ التحوّل الذي أفضى إلى انفجار الانتفاضات الشعبية يجد انعكاسه في طبيعة الهيكل الاقتصادي الذي تكوّن بالترابط مع هيمنة الطغم المالية الإمبريالية التي باتت تنشط بالمضاربة وكل أشكال النشاط الريعي، أو القائم على النهب، إذ تهمّشت مجتمعات ونهبت، وجاءت المضاربة على السلع الغذائية سنوات 2007 و 2008، ثم الأزمة المالية في 2008 لكي تجعل الاحتقان الذي كان يتصاعد خلال السنوات السابقة يصل إلى حدّ الانفجار وما ترتب عليه من نتائج معروفة (8).
وراء هذا الانهيار عدة أسباب، ليست هي موضع بحث هنا، ولكن نشير الى ان من بينها وفي مقدمتها النظام الريعي وحجم الريوع النفطية التي تدفقت على هذه البلدان والاستراتيجيات الخاطئة للاستفادة منها.
ففي حين وفرت الريوع النفطية امكانية اختزال قرون من الانتقال من الانظمة السابقة على الرأسمالية الى بناء اقتصادات معاصرة ونظم ديمقراطية فإنها، من جهة أخرى، حررت الدولة من الحاجة الى فرض الضرائب على المواطنين، وبالتالي لم تجد الدولة الحاجة الى منح مواطنيها حقوقا ديمقراطية مقابل تمويل المجتمع لحاجاتها.. وبدلا من ان تتيح الثروة النفطية فرصا حقيقية للتراكم الرأسمالي، وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لما تمثله هذه الثروة من موارد مالية ضخمة جاهزة، فإنها غالبا ما أفضت الى نشوء اقتصادات تابعة و مشوهة تقوم على الاستهلاك البذخي، اقتصادات تتكل، الى حد كبير، في ادائها على الايرادات المالية التي يديرها بيع الموارد الطبيعية في الاسواق الدولية، مما يجعلها عرضة للتقلبات التي تتعرض لها تلك الاسواق. اضافة الى ذلك، فإن استئثار القوى الحاكمة بالثروات الطبيعية يمنح النظام السياسي السائد الأداة الفاعلة لضمان استمراريته وشرعيته، عن طريق وسائل الفساد الاداري والحكومي، نتيجة تغليب مظاهر الولاء السياسي والقرابة والمحسوبية في توزيع الثروة على النشاط الاقتصادي الفعلي (9).
والخلاصة، أن التصرف بثروة نفطية كبيرة أتاح للدولة، والنظام السياسي السائد، والى مدى بعيد، التحكم بالحراك الاجتماعي وتراكم الثروة لدى الفئات والشرائح المختلفة. وبفضل ذلك استطاع النظام السياسي في البلدان الريعية، خلال فترة زمنية وجيزة نسبيا، أن يلحق تغييرات جوهرية في الاصطفاف الاجتماعي، من خلال التحكم بتوزيع الثروة، مما افضى الى تدهور وتبدد شرائح وفئات اجتماعية، وظهور شرائح وفئات اخرى ترتبط مباشرة، من خلال وشائج الولاء والقرابة، بالنخبة المهيمنة على الدولة ونظامها السياسي.
الهوامش
(1) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة قارن: د.صالح ياسر، بعض اشكاليات المجتمع المدني والمجتمع السياسي والديمقراطية، دار الرواد للطباعة والنشر، بغداد 2005.
(2) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة قارن: النفط والاستبداد. الاقتصاد السياسي للدولة الريعية ...، مصدر سابق، ص 146 ولاحقا.
(3) قارن: المصدر السابق، ص 264.
(4) http://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAEA140BI20140205
(5) http://www.alarab.co.uk/?id=10180
(6) لمزيد من التفاصيل قارن: جورج قرم، " إخراج البلدان العربية من الاقتصاد الريعي؟ " لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، نيسان/ابريل 2010. متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
http://www.mondiploar.com/article2999.html?PHPSESSID=ae8c959652beeb4349dc3d12730e9f9e
(7) لمزيد من التفاصيل حول هذه الاشكالية قارن: سلامة كيلة، الاقتصادي والسياسي في تحليل الانتفاضات العربية. متاح على الانترنيت على الرابط التالي: http://www.al-akhbar.com/node/28940، كذلك:
Amer, Ramses (1997). International intervention: new norms in the post-cold war era? Uppsala University, Dept. of Peace and Conflict Research.
(8) لمزيد من التفاصيل حول هذه الازمة انظر: د.صالح ياسر حسن، الاقتصاد السياسي للازمات الاقتصادية في النسق الراسمالي العالمي، محاولة في فهم الجذور (بغداد: دار الرواد المزدهرة 2011).
(9) لمزيد من التفاصيل حول هذه القضايا قارن: فهد الطائي ذياب، المظاهر السياسية للاقتصاد الريعي، مصدر سبق ذكره.. متاح على الرابط التالي:

www.adhwaa.org/files/5political_aspects_to_economy_7.pdf