مدارات

مع المسيرة الثورية.. الخطوات الاولى .. بعد الثورة.. انتصارات ومؤامرات (29)

ألفريد سمعان

أصداء الثورة تتجول في كل مكان، لم تقتصر على العراق بل انتشرت أناشيدها في أرجاء العالم. لم يكن الأمر عابراً لان الغرب يعتمد على صديق كبير وذكي، هو نوري السعيد ليكون جسراً الى الارتباط الأبدي مع الغرب، وإكراما لذلك قام بتسمية الحلف الذي يشد الدول الموالية للغرب باسم (حلف بغداد) لعله نوع من التبجيل لإقناع الشعب العراقي بأهميته في المنطقة وفي نفس الوقت كانت هنالك فرحة وتطلعات ذات مغزى بالنسبة للدول الاشتراكية وبلدان التحرر الوطني، لان أي انتصار تحرزه أية دولة فيما يتعلق بتحررها من القيود الاستعمارية هو نجاح للحركة الثورية العالمية ومستقبل العالم كله، لأنه يشدد الخناق على الاستعمار ويضيف ملايين جديدة وأفكارا تحررية الى حركة التحرر الوطني يؤمن بها فرصاً حيوية للثبات والاستقرار والتطور. ولعل مثال الصين هو النموذج الأمثل لترسيخ المفاهيم الثورية وانتزاع ملايين الملايين من صنعة المعسكر الرأسمالي الى العوالم الاشتراكية والتحررية، وهو أمر لم يكن هيناً استقباله من السادة القدامى. ولذلك كان استقبال الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي عموماً والبلدان النامية، رائعاً.. وانتصارا جديدا لم يكن متوقعاً.
فك الارتباط المالي مع الاسترليني، إطلاق سراح السجناء السياسيين، فسح المجال للحركة النقابية، اصدار قانون الاصلاح الزراعي، وقيام بعض الملاكيين بتوزيع أراضيهم الشاسعة بقناعة تامة على الفلاحين، نموذجاً لذلك المناضل هذيب الحاج حمود، توزيع الاراضي على المهاجرين من المحافظات الجنوبية، وأشياء أخرى كثيرة منها: إعادة النظر في البناء العسكري والاتفاق مع الاتحاد السوفياتي على تسليح الجيش وإعادة النظر بالعلاقات الدبلوماسية، دعم الجامعة العربية بما يؤدي الى توطيد أركانها ووقوفها بقوة في مجابهة التطورات العالمية.
في نفس الوقت كانت قوى الظلام تعمل، وأخذت الدوائر الاستعمارية ذات الخبرة العريقة في الهيمنة وإذلال الشعوب تجري اتصالات مع الجهات التي تضررت وفقدت نفوذها، كالطبقة السياسية الحاكمة والإقطاع وبعض الدول العربية وتبادل جهات النظر الأخرى في هذا المجال. فقد كان عبدالناصر يسعى الى التعاون مع العراق على أساس (وحدوي) كما فعل مع كل الدول العربية في سوريا واليمن. والتي لم تنجح رغم الضجيج الوحدوي ذي النكهة القومية النفاذة. وقد كان لذلك تأثير كبير على مسيرة الثورة حيث استند الوحدويون على عبدالسلام عارف قائدا للتيار القومي العسكري، وترتب على ذلك تخلخل الصف الوطني وبروز انقسامات ووجهات نظر متضاربة وصلت الى تكريس إذاعة (صوت العرب) لبرنامج خاص ضد العراق والزعيم عبدالكريم قاسم والتلويح بالخطر الشيوعي المسيطر على الشارع، وانحياز الجماهير لهذا التيار غير المألوف في البلدان العربية عموماً عبر الارتكاز على المفاهيم الرجعية والتركة الثقيلة، المستقرة على أعمدة لم يعد العصر يتحمل مظاهرها وتقاليدها وألوانها المعتمة. وبقي الصراع محتدما.
كان نشاط الشيوعيين واضحاً وملموساً وجاءت البيانات تؤشر ذلك؛ ماذا نفعل؟ هل نغلق الأبواب بوجه المتعاطفين مع الحزب؟ هل نترك الأشياء تمر بلا حساب؟ هل نخيب الآمال المعقودة على وحدة الكادحين والإفادة من الظروف المناسبة لنشر الدعوة واحتضان الجماهير واهدافهما الثورية ولم تنتظر قيادة الحزب طويلا وحسمت الأمر باحتواء هذا الزخم الجديد في ظل الظروف التي تسمح بذلك.
في مثل هذا الواقع الثوري المتفتح، كانت هنالك محاذير والخوف من هذا التوسع والتألق، وانحياز الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين الثوريين الى الضفاف اليسرى والتيارات اليسارية المتدفقة. وبدأت المناورات ذات الاتجاهات القومية المذعورة، والبرجوازية التي تتمتع بفهم عميق للاتجاهات الثورية بتحريض خارجي والتي أدت الى احداث تغييرات في عشرات البلدان الاشتراكية واضافت للمعسكر الاشتراكي قواعد جديدة في مناطق كانت (تزدحم) بالمفاهيم والمبادئ والتطلعات الاستعمارية او التي تحظى بمرتبة أدنى توائم ما بين مصالح الكادحين واستغلال الرأسمال. ووضع الحركات النقابية في اطار لا يؤثر على التطلعات البرجوازية بغض النظر عن واقع الحال والاتجاهات الانسانية وتوفير حياة حرة كريمة للملايين التي عاشت على ارضه.
كانت الكليات والشوارع والمقاهي والمعامل ساحات للصراع، وشهدت بغداد والبصرة وكركوك وبعض المدن التي يتفاوت فيها النفوذ الطبقي والصراعات الطائفية، اصطدامات ومعارك عنيفة، كان بعضها مفبركاً ومرسوماً في محاولة لتأليب الخط العسكري على الاتجاهات الثورية، ونشر الذعر وترويع الفئات المتضررة كالإقطاع وكبار التجار من واقع الحال الجديد لانهم اعتادوا على اعتبار الكادحين بمستوى أدنى من امتيازاتهم ومواقعهم الاجتماعية والاقتصادية لاسيما بعد قيام هجرة غير اعتيادية من الريف العراقي الجنوبي بشكل خاص الى بغداد العاصمة، وقد استشعروا الخوف من هذه الهجرة الاستثنائية وما يترتب على ذلك مستقبلا.
على الصعيد الثقافي والنشاط الفكري وانطلاق المواهب وانتصار الكلمة الحرة التي كانت تعيش تحت ظلال الإرهاب، كانت هنالك تطورات سيكون لها أصداء في الحلقة القادمة.